وجهة نظر

المشروع الفرنكفوني بالمغرب (1/3)

المشروع الفرنكفوني في المغرب.. من القوة الثالثة إلى حزب التكنوقراط

ـــــــــــ

– من ثورة الملك و الشعب إلى حركة الوطنيين المعتدلين

تمكن التحالف بين الملكية، في شخص محمد الخامس، و بين الحركة الوطنية، ممثلة في حزب الاستقلال، من محاصرة الأطماع الاستعمارية، اقتصاديا و سياسيا و ثقافيا، ضمن ما أطلق عليه ثورة الملك و الشعب، و قد نتج عن ذلك إرغام لسلطات الحماية على الدخول في مفاوضات أدت إلى إعلان استقلال المغرب- سياسيا على الأقل- لكن دهاقنة الاستعمار الفرنسي لم يتخلوا عن سلاحهم الاستعماري، بل إنهم ظلوا محافظين على نفس التصور الاستراتيجي رغم تغيير الخطة، من الهيمنة الاستعمارية العسكرية المباشرة القائمة على أساس إخضاع الأجساد، إلى الهيمنة الثقافية الغير مباشرة القائمة على أساس إخضاع النفوس، بتعبير جورج هاردي مدير التعليم في المغرب .

لذلك، فإن المفاوِض الاستعماري لجأ إلى محاصرة المفاوَضين المغاربة بمجموعة من الاتفاقيات، المعلنة و السرية، التي تمكن فرنسا، بعد إعلان الاستقلال، من المحافظة على مصالحها الاقتصادية و السياسية في المغرب، و هذه المصالح ذات الطابع المادي الصرف تمر، حسب التصور الفرنسي، من خلال التحكم في صناعة الشخصية المغربية، على المقاس الاستعماري، و لا يمكن أن يتحقق ذلك إلا من خلال التحكم في منظومتي التعليم و الثقافة، و ذلك يمر، بالضرورة، عبر صناعة نخبة ثقافية قادرة على القيام بمهمة إعادة الإنتاج القيمي في علاقة بالمنظومة الثقافية الاستعمارية.

ضمن هذا السياق السياسي، برزت إلى الوجود نخبة تكنوقراطية تمثل، في معظمها، المشروع الاستعماري الموؤود، و ذلك ضمن ما سماه المفكر محمد عابد الجابري ب ” القوة الثالثة” و التي تجسدت، حزبيا، في حزب الفيديك الذي أسسه أحمد رضا كديرة، مدعوما بنخبة عسكرية مخلصة للمشروع الاستعماري يقودها الجنرال محمد أفقير، بالإضافة إلى نخبة اقتصادية وليدة النموذج الريعي الاستعماري.

و لا يمكن استيعاب هذا المشروع جيدا، إلا من خلال سياق تأسيسه الذي جاء بعد إفشال تجربة حكومية واعدة كان يقودها المناضل و الأستاذ عبد الله إبراهيم، و هي تجربة وطنية تتجاوز البعد الحكومي التقني، لأنها قادت تجربة رائدة في التحرر الاقتصادي و السياسي و الثقافي عن المرجع الاستعماري، مما وحد ضدها أعداء الخارج و أتباعهم في الداخل، و هكذا تم وأد هذه التجربة الوطنية، و بديلا لها تم الإعلان عن تجربة لا-وطنية جديدة تحالفت فيها مجموعة من المكونات السياسية و الثقافية، التي تجتمع عند خدمة المشروع الاستعماري و محاربة التوجه الوطني.

– بنية و تكوين مشروع القوة الثالثة
يعود الإعلان الرسمي عن مشروع ” القوة الثالثة” في المغرب الحديث إلى مرحلة المفاوضات التي قادها المغرب مع فرنسا بهدف الحصول على الاستقلال، لكن تشكل هذه القوة يسبق ذلك، بكثير، حيث تعتبر بمثابة البذور الملوثة كيميائيا التي زرعها الاستعمار الفرنسي في التربة المغربية، قبل انسحابه، لتنوب عنه في مواصلة تجسيد المشروع الاستعماري بعد الانسحاب. و قد تم تشكيل ” القوة الثالثة” عبر توجيه استعماري لتقوم بوظيفة زرع الشقاق بين القوتين السياسيتين المؤطرتين للمجال السياسي المغربي. القوة الأولى تمثلها المؤسسة الملكية من خلال شرعيتها التاريخية كممثل لوحدة و استقلال المغرب عبر التاريخ، و القوة الثانية تمثلها فصائل الحركة الوطنية، بجناحيها التقدمي و المحافظ، من خلال شرعيتها النضالية إلى جانب الملك محمد الخامس ضمن ما أطلق عليه، مغربيا، ثورة الملك و الشعب.

و كامتداد للحضور السياسي و الاقتصادي و الثقافي لهاتين القوتين، فقد كان المغرب يسير بخطى ثابتة نحو ترسيخ استقلاله و تحرره من ما يؤكده الاستاذ الجابري الذي يعتبر أن وظيفة القوة الثالثة تكمن في الفصل، بين القوى الشعبية التي كان يمثلها حزب الاستقلال، قبضة المشروع الاستعماري، و هذا ما كان يغيض قادة المشروع الاستعماري، خارجيا، و عملاءه من خونة القضية الوطنية، داخليا، مما دفعهم إلى التفكير و العمل على إفشال المشروع الوطني التحرري، من خلال تشكيل “قوة ثالثة” قادرة على إفشال المشروع الوطني الذي تجسده ثورة الملك و الشعب. و هذا و بين الملك الذي كان هذا الحزب من جَنَّد الشعب وراءه كرمز للوطنية و النضال من أجل الاستقلال.

أنظر: محمد عابد الجابري- في غمار السياسية: فكرا و ممارسة (الكتاب الأول) – الشبكة العربية للأبحاث و النشر – ط: 1- بيروت – 2009 – ص: 185
و من خلال العودة إلى البوادر الأولى لتشكيل ” القوة الثالثة”، فإننا نجدها ترتبط بمرحلة عزل الملك ممد الخامس، قبل إعلان الاستقلال، من أجل كسر التحالف بين الملكية و الحركة الوطنية. فقدكان عزل محمد الخامس و نفيه في 20 غشت 1953 تتويجا لمسلسل بدأته السلطات الفرنسية قبل عامين من ذلك التاريخ، حينما عمدت إلى قمع الحركة الوطنية المتمثلة في حزب الاستقلال خاصة، و تكوين ” قوة ثالثة”. أما عن مكونات هذه القوة، فيجسدها الأستاذ الجابري في مجموعة من القواد الكبار (الإقطاعيون) و الزعامات الدينية (الطرقية) و شخصيات من دار المخزن نفسها.
محمد عابد الجابري- في غمار السياسة – ص: 177

لقد اجتمعت كل هذه المكونات ضمن مشروع موحد مناوئ للمشروع الوطني التحرري الذي كانت تقود الملكية في تحالفها مع قوى الحركة الوطنية. لذلك كان تأسيس هذه القوة موجها، بالدرجة الأولى، نحو إفشال المشروع الوطني، من خلال الضغط على الملك محمد الخامس لحمله على قطع علاقاته مع الحركة الوطنية و التوقيع على الظهائر التي تقدمها له سلطات الحماية في موضوع ملاحقة و تصفية قيادة حزب الاستقلال و أطره و مناضليه من جهة، و منح المعمرين و الجالية الفرنسية في المغرب، عموما، حقوقا لم تمنحها لهم معاهدة الحماية من جهة اخرى.

إدريس جنداري – باحث 

ـــــــــــ

(يُتبع)