وجهة نظر

كتب كريم ونامت مريم – حال اللغة العربية بين أبنائها

لا أحد ينكر أن لغة الضاد هي أكثر اللغات شيوعا بين الألسنة، وأكثرها عمقا في التاريخإذ تمتد إلى عدة قرون قبل الميلاد، ولما جاء خطاب الوحي إلى العالمين ازدادت لغة الضاد حلة بارتدائها سترة السماء، غير أن عصرنا الحالي تدحرج بالعربية بين ردهات الإنحطاط وانزوت في ركن صغير أصبح فيه ضوء الشمس خافتا والظلمة فيه حالكة، فمن ذا الذي ينقد أهلها لينقدها ؟

سأعتذر من هويتي، سأعتذر من حبيبتي، سأعتذر منك لغتي فلست أهلا لمدحك ولا أقدر على ذمك، فقطآلمني يا حبيبتي حالك وأوجعتني غربتك ، وهو ما استفز فكري و خدش مشاعري وحرك أناملي، أكتب عنك علَّ العقول تستيقظ والأفكار تتَّقِد لنضيء بك مسار الأنوار ونعيدك لعرشك المسلوب .

قد تأخذنا العاطفة في مدح اللغة العربية وقد يستولي علينا الاستعلاء ونحن نفاخر بلغة القرآن ونسهب في المدح والثناء، وننسى أن نسأل أنفسنا أي قربان ذاك الذي قدمناه حتى نجدد في عرقها الدماء ونمنحها شريان الحياة ، من المؤكد والبديهي أن الجواب سيكون بالسلب لدى السواد الأعظم منا فمنتوجُنا يُدِينُـنَا ، وصدق الكاتب والشاعر المصري مصطفى صادق الرفاعي رحمه الله حين قال “ما ذلَّت لغة شعب إلا ذَلْ” أي أن انحطاط اللغة له وقعه على المجتمع ، فحضارة الشعب في لغته فمتى اعتنى بها أزهرت ومتى أهملها أذبلت .

على هذا الإعتبار سأشخص الحال لأكشف الداء وأَضع الدواء ، لست طبيبا كما تعلمون لكنني عبد مغبون أبحث عن حضارة مفقودة ولغة مَصْفُودة ، وبعد هذا الكلام المفعم بلغة المشاعر سأصف لكم مرض اللغة،فسرطانها الأول نابع من أهلها المقربين كل من موقعه ولكل منهم نصيب، فبداية بأفواه يتكرر خروجها علينا، نراها تارة تدعوا إلى “أًعْجَمَةِ” الدراسة ومحركات المجتمع، وتارة أخرى نجدها تحرك ألسنة تدعونا الى “التدريج”، وهم بفعلهم هذا يريدون أن يهدموا ما بقي من أطلال اللغة ويُبِيدوا وعيهاالمجتمعي، ليجعلونا مُقَيَّدين مسلوبي الفكر والهوية تابعين في خضم العولمة إلى ثقافة الآخر التي تَكْسِرُنا وتستعمرنا لنخضع في إطار الصراع الحضاري الذي تحدث عنه المنجرة رحمه الله ونصبح لعبة سهلة في يد المافيا الحضارية .

أما الطرف الثاني الذي استأصل للعربية رئتها وأبدع في خنقها، فهم نُخبة العلم والمعرفة من الباحثين والأكاديميين وذلك على مستويين، الأول كرس التبعية وعمق الجرح من خلال إنتاج المعرفة بلغات الآخر خاصة نحن في المغرب يُطرِبُنا كثيرا الكتابة بلغة موليير، لأن هذا من مظاهر الرقي والاجتهاد وتجعل منك علاَّمةً عند كل من استلب فكره و أعيدت صياغته ، وهذا الأمر يؤكد التبعية ويُغني خزانة موليير ويُفْقِرُ جَيْبَ المتنبي ، أما المستوى الثاني الذي يسهم هو الآخر ولو بدرجات أقل في تقَادُم حمولتها المعرفية، هم الباحثون وحيدي اللغة الذين عجزوا عن مواكبة القافلة ليصحح أحد منهم مسارها، غير أن جلهم ساهموا بسخاء في “إقْبار” اللغة في الآداب والفنون وعزْلِها عن العلوم ، لتبقى اللغة أداة ترف فكري ولم تعد ذات وَقْعٍ نَفْعي لأن النفع لا يتلاءم معها فهو ابن الآخر وليس ابنها على حد اعتقاد الفكرة السائدة .

وأمام هذا الواقع المشؤوم يبقى الإشكال المطروح حول الدواء الذي يعيد للعربية عافيتها والمسار الذي تستعيد من خلاله رونقها و يشتد عَضُدها وتستقوي عضلاتها ؟

إن الإجابة على هذا السؤال تقتضي آراء العلماء ونباهة الحكماء وفصاحة البلغاء وفقه الخطباء ، غير أني سأدخل هذا المضمار بفكر بسيط وعلم قليل ومنه أستجدي الخلاص ، خلاص لن يُمْنَحَ لنا لكن وجب علينا الكَّد بُغْيَة الحصول عليه خاصة حاملي مشعل البحث العلمي أدعوهم لأن يحيوا الخوارزمي ، ويعيدوا ابن الهيثم ، ويوقظوا جابر ابن حيان ،ويردوا لـ ابن سينا حقه، وينفضوا الغبار عن ابن خلدون، ومن هنا أدعوا لأن نتحرر من قيود الاستيلاب ونعيد الاعتبار لِـلُغَتِنا، ولِنُحْيِيَها لا بد أن نواكب العلم ولتواكب يجب أن تَتعلم لغتهم لكن أنتج بعربيتك أيهذا الهمام ولا تحتقر ذاتك ابحث عن المعرفة وهَبْها لِهُوِيَّتِنا كي نبنى حضارتنا.

اللغة تعيش على محتواها المعرفي وتتجدد من خلاله ،تستنشق من رئته وتستنثره في حضارة الامة ، أتمنى أن تجد رسالتي العقول الواعية والآذان الصاغية والقلوب الغيورة، إذا لا مستقبل لنا دون لغتنا ومن يحتقر هُوِيَّته يحتقر نفسه ، ومن يحتقر نفسه يحكم عليها بالقتل ويبخس نفسه أمام الآخرين، كتبت هذه الأسطر إحياء لليوم العالمي للغة الضاد الذي أتمنى فيه صادقا أن تحيا معه تطلعاتنا وأمالنا في حضارة إسلاميه جديدة تملا الأفق نقاء وبهاء.