منوعات

الوطنية عند الفقهاء المغاربة.. ابن المؤقت نموذجا

عمِل الإعلام كما عملت مقررات التعليم والإنتاجات الأدبية والثقافية ..؛ على إبراز الأدوار الوطنية لكثير من الفئات والشخصيات ..

ومما يسترعي الانتباه في ذلك؛ أن فئة الفقهاء لم تلق حظها من ذلك الإبراز، ولم يتم تسليط الضوء على مواقف رجالها بما يتناسب مع حجم بذلهم وتضحياتهم.

وهذا الواقع في نظري من مستتبعات ما أريد للفقهاء وعلماء الدين ودعاته من بقائهم بعيدا عن الشأن السياسي، وما سعى إليه بعض السياسيين من محاولة الفصل بين الخطاب الديني والدعوي من جهة، والخطاب السياسي والمواقف المرتبطة به؛

ومن منطلق إيماني بخطأ هذا التوجه الذي يبخس رجال الفقه حقهم ويرسخ تهميشهم ويتنكر لجهودهم الكبيرة في إرساء دعائم الوطنية الصادقة؛ أضم هذه الكتابة إلى كتابات سابقة؛ وأخصصها لنموذج يؤكد الحضور القوي للمفهوم الشرعي للوطنية عند فقهائنا ..

إنه نموذج العالم المراكشي المصلح: محمد بن المؤقت رحمه الله تعالى.

وهو: محمد بن محمد المؤقت المسفيوي أصلا، المراكشي ولادة ونشأة؛ فقيه وأديب درس بالجامعة اليوسفية، وعمل مؤقِتا بالمسجد الجامع ابن يوسف ..

له مؤلفات عديدة بلغ عددها: أربعا وثمانين مؤلفا؛ أشهرها: الرحلة المراكشية ..

توفي بمراكش عام (1948 م / 1368 هـ).

أُبرز في هذه المقالة بعض آراءه الفقهية والاجتماعية حول الوطنية والمواطنة، وأسوق بعض كلماته في إذكاء روح الوطنية وترسيخ سلوك المواطنة؛ من خلال كتابه الفذ: “الجيوش الجرارة في كشف الغطاء عن حقائق القوة الجبارة”.

ومن ذلك قوله في ص 148:

“إن حق الوطن لمن أقدس الحقوق وأهم الواجبات؛ فنعم المهد في الصغر والمجد في الكبر، به النشأة، وفيه التربية، ومنه الرزق، وإليه المأوى، وبه الشرف”.

في هذه الجملة يعتبر ابن المؤقت حق الوطن حكما شرعيا يرتقي إلى درجة كونه من أهم الواجبات؛ ودليل هذا الحكم قاعدة: ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب؛

فالوطن بمفهومه الذي يشمل الدولة ونظام حكمها؛ تتعلق به حقوق واجبة لأهل ذلك الوطن؛ مثل: المأوى / المعاش (الرزق) / التربية / الكرامة (الشرف) ..

فتعين حفظ حقه بما يؤدي إلى الحفاظ على تلك الحقوق؛ وأداء المسؤولية فيها.

وقال في ص 147 عن الشباب:

“هم رجال المستقبل وأبناء الغد، لهم المكانة العظيمة في كل الأمم لا تنقص بأي حال عن مكانة رجالها المدرسين وساستها المحنكين، ذلك لأن مصير الوطن صائر إليهم، وأن نجاحه وفلاحه متروك بين يديهم، يذوقون حلوه ومره ويتجرعون نكده وشره، لذا ترى رجال الأمم يعنون بأمر هؤلاء الأبناء ويزودونهم أعظم زاد بما يُعِدّهم للاضطلاع بأمر البلاد اضطلاعا يكفل لهم العيش الرغد والسعادة المرموقة خوفا من أن يصير أمر الوطن بين يدي رجال قد تصدع جدار نشاطهم أو تقوس بنيان أخلاقهم”.

وهنا يبرز أهمية دور الشباب في بناء الوطن، وأهمية تشبعهم بالحس الوطني واهتمامهم بالشأن العام ..

وفي ص 148 يبين ما تتوقف عليه خدمة الوطن؛ فيقول:

“الأخلاق الأخلاق، العلم العلم، أيها الشبان، فلا يتسنى للوطن أن يطمع في استرداد مجده إلا إذا تسلح أبناؤه بالعلم وتسربلوا رداء الأخلاق”.

قال: “على المسلمين إذا أرادوا الاتحاد في إصلاح الوطن أن يربوا أنفسهم تربية إسلامية حقيقية ليجنوا تلك الثمرة”.

ينص هنا على أهمية العلم في الاضطلاع بمهمة الارتقاء بالوطن؛ ويشمل ذلك العلم بالدين الذي به تزكو النفوس ويعرف سبيل الله، كما يشمل علوم الدنيا التي يتوقف على معرفتها بناء الوطن وتطويره ونماؤه ..

كما يؤكد على أهمية الأخلاق في خدمة الوطن؛ وجماع ذلك؛ التحلي بالأمانة الذي يدفع إلى نفع الناس وإعطاء كل ذي حق حقه؛ قال الله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} [النساء: 58]

وهذا المعنى هو الذي يعبر عن بعضه اليوم بتخليق الحياة السياسية ..

وقد بين في ص 153 شيئا من معنى العلم الذي يعرف صاحبه بمفهوم المواطنة؛ فقال:

“العلم الحقيقي هو الذي يعلم الإنسان العلاقة الموجودة بينه وبين غيره من أفراد جامعته؛ فيعلم من هو ومن معه؛ فيتكون من ذلك شعور واحد وروابط واحدة هي ما يسمونه بالاتحاد، وسنة الله في خلقه أن توجد الروابط في العائلات، ومنها إلى الفروع، ومنها إلى الأصول القومية (كالوطن)، ومنها إلى مجموع الأمة التي هو منها.

إذا فلا بد من الوقوف على كنه هذه الروابط ومعانيها، وإذا تمكن هذا العلم من نفس الإنسان تعلم كل شيء وبحث عن طرق النجاح في كل شيء”.

ويقول في ص 150 مبرزا أهمية سلوك التعايش في إرساء دعائم المواطنة:

“لا بد في إصلاح الوطن من الأخذ بأسباب الاتحاد والقيام بأمر الوفاق كي تتحد القلوب على إعلاء الكلمة وجلب العزة والرفعة للوطن.

فالواجب على من جمعهم وطن واحد: التآخي والتوافق والتحالف والتواثق والتعاون على تحسين الوطن وتكميل نظامه فيما يخص شرفه وإعظامه وثروته.

لأن الغنى إنما يتحصل من انتظام المعاملات وتحصيل المنافع العمومية وهي تكون بين أهل الوطن على السوية لانتفاعهم جميعا بمزية النخوة الوطنية، فمتى ارتفع من بين الجميع التظالم والتخاذل ومقت بعضهم لبعض ثبتت لهم المكارم والمآثر ودخلت فيما بينهم السعادة والثروة وتحسنت أحوالهم وهدأ بالهم وتجددت لهم قوة جديدة لا تقف دونها أقدام الطامعين”.

وفي ص 148 ينكر بشدة على المفَرطين في حق الوطن، ويعتب على الذين لا يهتمون بترقية وطنهم وتنميته؛ قائلا:

“إن الذين تتقاعد هممهم عن ترقية البلاد، وتتقاعس في مصالح الوطن العمومية، ولم تبذل جهدها واجتهادها في ذلك؛ كمثل الذي يقتل أوقاته ويميت أعماره بالاشتغال بما لا يعنيه.

وذلك مناف لما حضت عليه الشرائع والقوانين من التعاضد والتعاون على فعل الخير وبث ما فيه نفع للجميع”.

وهو هنا يشير إلى مثل قول الله تعالى: {وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الحج: 77]

وقوله صلى الله عليه وسلم: “خير الناس أنفعهم للناس”.