منوعات

الهجوم على فرنسا، تاريخ في قلب التاريخ

في غياب المعطيات الدقيقة، وأمام تكتم الأجهزة الاستخبارية عن الإفصاح على المعلومات الحقيقية، تكثر الأقاويل وتتعدد القراءات، وليس هناك طريق للاستيثاق من الروايات المتداولة، أو الوقوف على مقدار اقترابها من الصواب والحقيقة، بالإضافة إلى ثقافة الشك العميقة لدى شعوبنا في الرواية الإعلامية الرسمية، لأنها تأتي غالباً غير مكتملة وتخلو من المصارحة الجريئة، في غياب ذلك لا يسعنا الموقف سوى الشجب بقوة والإدانة المطلقة للإرهاب الأعمى من أي مشكاة انبثق، لأن الفعل الدموي شنيع ولأن الحدث كريه وإرهابي وإجرامي المرامي والأهداف .

الطبيعة الإرهابية لما وقع، تتطلب الإدانة والاستنكار

لا يمكن لأحد يمتلك أدنى حس إنساني أن يصمت على أية جريمة تستهدف الأبرياء، مهما اختلفت أجناسهم أو أديانهم وأوطانهم، وبالتالي فإن إدانة ورفض العملية الإرهابية التي شهدتها العاصمة الفرنسية مسألة محسومة ومفروغ منها، ولا تحتاج إلى أي نقاش أو تبرير، كما أنها لا تستدعي منا أن إرسال الخطاب الاعتذاري في كل اتجاه، أولا- لأننا كمسلمين لسنا شركاء فيها، و ثانيا- لأننا دفعنا و ما نزال ضريبة الإرهاب، وثالثا – لأن هؤلاء الذين قاموا بها يجب أن يحاسبوا لوحدهم، ولا يجوز أن يتحمل المسلمون وزرهم ودفع ثمن أخطائهم.

إذا تجاوزنا هذا التوضيح -الذي استلزمته بعض ردود الأفعال المهزوزة التي تعاملت مع الجريمة بمنطق الدفاع عن النفس وكأنها متهمة لصيقة بنا كمسلمين، أو بمنطق الإنكار والشماتة- فإن ما حدث لم يكن مجرد صدمة ورعب، كما وصفته عناوين العديد من الصحف الفرنسية، وإنما هو حرب بكل معنى الكلمة، و هو الوصف الذي أطلقه الرئيس الفرنسي نفسه، وكما عبرت عنه الإجراءات التي اتخذت: ابتداء من إعلان حالة الطوارئ، إلى عدم منح التأشيرات، وصولا إلى التداعيات المحتملة التي ستتضمن تغييرات جوهرية في مواقف فرنسا من مجمل القضايا المرتبطة بالإرهاب، سواء في داخلها أو في الخارج.

السياق الحاكم
إنها-إذن- المرة الأولى منذ الحرب العالمية الثانية التي تتعرض فيها فرنسا لمثل هذه العمليات المزدوجة والمتزامنة وعددها سبع عمليات محكمة التنسيق، ومع أن تاريخ العمليات الإرهابية في أوروبا يشير إلى وقوع أحداث مشابهة استهدفت دولا مثل إسبانيا 2004 وراح ضحيتها قرابة 190 شخصا ،  بريطانيا 56 قتيلا، و فرنسا أيضا قبل نحو سنة و بضعة أشهر في شارلي ايبدو التي قتل فيها 12 شخصا، إلا أن العملية الإرهابية الأخيرة تتجاوز من حيث التخطيط و التنفيذ وعدد الضحايا والتوقيت أيضا كل ما سبق، وبالتالي فإنها ستشكل بالنسبة لفرنسا تاريخا جديدا، تماما كما شكلت أحداث سبتمبر 2001 لأمريكا منعطفا جديدا.

ففي القراءات المتداولة غربيا-سياسيا وإعلاميا- إن تفجيرات باريس تعادل في تأثيرها تفجيرات الأبراج في نيويورك 11 سبتمبر 2001 ، من حيث قوتها وصدمتها، فقد كانت تفجيرات نيويورك سببا وتوطئة لاحتلال العراق وأفغانستان، تحت عنوان محاربة الإرهاب، وربما تكون نفس المآلات للأحداث الإرهابية الدامية في فرنسا منتصف هذا الشهر.
الحقيقة السياسية الأكيدة تقول إننا كأمة نوجد في مخاض عسير، ونعيش على إيقاع مرحلة انتقالية، وكل الأطراف الفاعلة في الساحة تحاول أن تسير في اتجاه التموضع وتثبيت الخطى، والبحث عن أدوار سياسية مناسبة في العلاقات الدولية، تريد من خلالها التشبث بحبال البقاء والتأثير عبر إيجاد موطئ قدم ثابتة تصلح للمفاوضة وطرح أسئلة المشاركة في القرار والمصير.

فلقد شهدنا مسلسلاً متتاليا من الأحداث الكبرى في وقت متقارب، ولكن كل حدث يأتي يطغى على الحدث الذي يسبقه ويزيحه ويمحوه من التأثير، بحيث أصبحت الأذهان غير قادرة على استيعاب ديناميتها، فضلاً عن العجز على التحليل والربط والتوثيق وترتيب البيانات والوصول إلى النتائج بطريقة علمية متأنية، فقد حدثت تفجيرات تركيا والسعودية وغيرها وسقوط الطائرة الروسية، وتفجيرات لبنان، والآن يأتي الحدث المزلزل في باريس، ليضع العالم كله أمام مشهد مرعب، وينبئ بتحولات عميقة ومثيرة سوف تطال العالم بكليته والمنطقة العربية على وجه الخصوص.

بعض تلك الأحداث يشير إلى إرسال رسائل، وبعضها يشكل أداة من أدوات الضغط من أجل دفع الشعوب والأنظمة نحو خيارات تقترب من محطات التسوية الإقليمية والدولية، وتتجه نحو ترتيب يرتكز على أطراف ضعيفة قد أنهكتها مسيرة البحث عن حلول معقولة.

خيارات فرنسا عقب الأحداث الإرهابية، ماذا بعد
بعد تفجيرات باريس يتبادر إلى الذهن السؤال حول ماهية الرد الفرنسي، بغير الإجراءات الأمنية الداخلية، والتشدد إزاء قضايا المهاجرين من العرب، ومنح التأشيرات وغير ذلك من إجراءات تدخل في منطق الدفاع الحربي.

إذا كان كثيرون يظنون أن الفرنسيين سينقلبون ضد حكومة دولتهم لكونها تشارك في العمليات العسكرية في سوريا، وبالتالي تكون قد استقطبت ردود الفعل الانتقامية إلى الأراضي الفرنسية، فالأغلب أن هذا التلاوم قد يكون مسموعا جزئيا في بعض الأوساط، لكنه-على ذات طريقة تفجيرات نيويورك- سوف يخفت لصالح التضامن مع الدولة في حال قررت اتخاذ إجراءات خارج الحدود الفرنسية، وهو ذات الأمر الذي رأيناه في أمريكا.

فرنسا أمام عدة خيارات خارج حدودها، وعلينا أن نتنبه إلى أن باريس غير قادرة وحيدة على بلورة رد فعل، وهي بحاجة إلى كل من أوروبا وأميركا ودول عربية، لبلورة مثل هذا الرد، وقد عبرت الكثير منها عن تلك النوايا.

ونحن هنا نتحدث عن سيناريوهات فرنسا خارج حدودها، لا يمكن أن نتجاوز أسئلة عديدة حول ما جرى :

-سواء فيما يتعلق بالجهات التي خططت ونفذت -داعش تبنت الهجمات والرئيس الفرنسي أكد ذلك – لكن من المؤكد أن ثمة خلايا داخلية قامت بالتنفيذ،
-أو فيما يتعلق بالثغرات الأمنية والاستخبارية التي سهلت على الإرهابيين القيام بذلك،
-أو فيما يتعلق بالأسباب التي دفعت هذه التنظيمات إلى استهداف فرنسا مجددا،
-وفيما إذا كانت أجهزة أخرى قد تورطت فيها في إطار صناعة الإرهاب التي تحولت إلى اقتصاد قائم الذات للاستثمار من قبل قوى دولية و أطراف عديدة أخرى.

مهما كانت الإجابات فإن الحرب – كعنوان اختارته فرنسا لما جرى – يعني أننا سنشهد تغيرات دراماتيكية وحادة في السياسة الخارجية الفرنسية:

– داخليا، تجاه عائلة اليسار الذي يتولى السلطة الآن، وتجاه باقي القوى السياسية الفرنسية وخصوصا تنامي اليمين المتطرف، والموقف مما يسمى بمصير قيم الجمهورية، و تجاه الجالية العربية والإسلامية التي تقارب نحو سبعة ملايين مواطن مسلم، و اتجاه منظومة الحريات والأمن والإقامة وغيرها.

في كل الحالات تبدو فرنسا أمام وضع صعب للغاية، فهي من جهة سوف ترد-لا قدر الله- بتطرف من نوع خاص، ضد العرب والمسلمين على أراضيها، وسنسمع عن حوادث عنصرية، ووصفة التطرف ردا على التطرف وهي لن تؤدي إلا لمزيد خلخلة للأمن الداخلي الفرنسي، فيما يرجح أن تلجأ فرنسا لوصفة الرد في الخارج، لأن التورط فقط في ردود فعل داخلية يعني بكل بساطة أن ما تريده التنظيمات في فرنسا قد تحقق، أي وقوفها على قدم واحدة خوفا وقلقا.

– خارجيا، من جهة تعامل السياسات الفرنسية مع الملفات الساخنة في سويا والعراق ومالي و الساحل الإفريقي تحديدا، ذلك أن إعادة تقدير الموقف ربما يدفع فرنسا إلى أن تكون طرفا رئيسيا في مواجهة ما يسمى بالإرهاب، لكن يبقى سؤال الجدوى قائما، خاصة حول انغماس فرنسا في البؤر التي يخرج منها هذا الإرهاب، و التي يبدو أنها أصبحت مصدر التهديد المباشر لها، و حول علاقة فرنسا مع الجاليات العربية والإسلامية والتي تشكو من التهميش والإقصاء أحيانا، ومع التحالفات الدولية ضد الإرهاب التي تشارك فيها فرنسا بالحدود الدنيا حتى الآن.

إزاء سوريا، فرنسا في واجهة المساومة

يأتي هذا في سياق يجري فيه الحديث عن وصفة للحل في سورية على أساس ترتيب انتقال سياسي، والمؤكد هنا أن أي إجراءات فرنسية- أوروبية لا تستطيع أن تتعارض مع أي توافقات مع أي ترتيب للوضع السياسي في سورية، ولابد من وضع الوصفة السياسية في كلفة الرد والانتقام الذي ستسعى إليه فرنسا، إن قررت الذهاب بعيدا في رد فعلها.

وفي التقديرات الرائجة سياسيا وإعلاميا، هناك خيارين أساسيين:
– أولهما يروج له التيار المحسوب على إيران وحزب الله وبشار الأسد وهذا يقول إن تفجيرات باريس ستؤدي إلى معرفة القيمة الذهبية لبشار الأسد ومعاناة النظام من الإرهاب، وسيتم هنا وقف الحرب ضده واعتماده وكيلا عن العالم لمحاربة التنظيمات، ومعنى الكلام أن المستفيد الأول من هذه التفجيرات هو بشار الأسد، الذي بات خيارا وحيدا أمام الدول التي تعاني من التفجيرات لدعمه ماليا وعسكريا للقيام بالمهمة المطلوبة، نيابة عن العالم، وهذا يقول أيضا إن العالم سيتخلى كليا عن شعار إسقاط الأسد وتنظيمات التطرف معاً، وسيضطر للحفاظ على نصف شعاره فقط، أي محاربة التنظيمات وبواسطة بشار الأسد، وهذا خيار تتمناه سلسلة معروفة تريد أن تثبت أيضا أن الإسلام السني هو الإرهابي فقط، على عكس بقية المذاهب.

– الخيار الثاني يتحدث عن حل استدراج لقوى الحلف الأطلسي لتدخل بري في سوريا، عبر تركيا والأردن، بشكل حاسم، من أجل حل مشكلة التنظيمات في سوريا، والعراق أيضا، ودخول قوات أجنبية إلى سوريا، أمر ليس سهلا، لأن المعسكر الروسي الإيراني وتوابعه لن تقبل بالتدخل البري، باعتباره قد لا يؤدي فقط إلى محاربة التنظيمات، وقد يأخذ في طريقه بشار الأسد، وحتى التوافق بين المعسكرين في هذه الحالة أمر محفوف بالخطر ميدانيا، لاعتبارات كثيرة، خصوصا، أن عشرات الآلاف المنتمين للتنظيمات لن يستسلموا بسهولة، حتى لو توافق معسكر موسكو ومعسكر واشنطن الذي يضم الفرنسيين على جهد مشترك، ولربما يكون التدخل البري هنا ممكنا في حال وجود ترتيبات سرية لا تتعارض مع أي خطة سياسية.

فهم صلة الأحداث بمعادلة القضايا ذات التأثير الدولي

هل هناك ضغوط تمارس على دول المنطقة مثل تركيا ومصر والسعودية، وهل هناك ضغوط أيضاً على فرنسا وروسيا، فكل ذلك معقول ويمثل أحد الاحتمالات الواردة، لأن من يتصدى للقيام بدور مؤثر في الأحداث، لا بد له أن يدفع الضريبة بشكل حتمي، فروسيا التي شعرت بالقوة الزائدة وهي تحاول أن تأخذ على عاتقها توسيع دورها في حل المشكلة السورية، كان حدث تفجير الطائرة في سيناء يمثل رسالة مشفرة لها في غاية القوة، وكذلك فرنسا التي تحاول أن تمارس دوراً أكثر تميزاً، ستستضم بكثير من العوائق التي تجعلها تعيد الحساب مرة ومرة.

لكن الشيء الأكثر وضوحاً أن هناك مؤشرات نحو طروحات تسوية تلوح بالأفق، فيما يخص تصفية القضية الفلسطينية، ولكنها تنتظر تطورات الأوضاع المتفجرة في انتفاضة الأقصى بالقدس والضفة الغربية، مما يجعل هذا الموضوع يدخل في الحساب بوجه من الوجوه.

خلاصة القول
بالجملة، ومما لاشك فيه أن رسالة العدوان الإرهابي الذي استهدف فرنسا، كانت متعدية، فهي موجهة أساسا إلى غيرها من دول أوروبا و أمريكا، وهي تؤكد أن التنظيمات الإرهابية أعلنت الحرب على القوى الكبرى في العالم، وأن ضحاياها لن يكونوا حصرا في المنطقة الملتهبة بالصراعات والغارقة في الدماء، وإنما ستمتد إلى أي مكان في العالم.
ويبقى هناك إشكالات عديدة تتعلق بالأطراف ذات العلاقة بما يجري على الساحة الدولية والإقليمية، وهي كثيرة، بعضها يحمل درجة متقدمة من الخصومة مع أمتنا، مما يفتح المجال أمام تكهنات كثيرة لا بد من الاستعداد لها استباقيا، بروح مصحوبة بقدرة عالية على الموازنة والمبادرة والفعل والتأثير، وبما يحفظ مسار الأمن والاستقرار والفرادة الذي تتمتع به كثير من الأوطان نسبياً –وفي مقدمتها بلدنا الحبيب المغرب-مع المقارنة بما يحدث في الأقطار المجاورة.

و حسبنا هنا أن لا نتوقف عند الإدانة والصدمة، بل يجب أن نتحرك للإجابة على السؤال الأساسي و هو : لماذا يحدث ذلك، وكيف نتضامن لمواجهته، ومن هو المستفيد منه ؟
و إلا إان زلزال الإرهاب سيدك – لا قدر الله – جملة من العواصم الواحدة بعد الأخرى.