وجهة نظر

تعددية النماذج.. من أجل وعي إسلامي مغاير

طبيعة المقدمات والنماذج الإعتقادية التي ينطلق منها الإنسان، هي التي تحدد النتائج التي تتوج مساره، ونوع المدخلات الايديولوجيا والمنهجية التي ينظم بها الكائن تصوراته ومعتقداته، هي بالأساس التي تضبط مخرجاته، وتتحكم في سلوكه ومواقفه..

فالبدايات محددة؛ ولذلك قيل: “ما صحت بداياته، صحت نهاياته”.. فالبداية المحكومة بمقدمات سليمة ونماذج منطقية، لا شك تفضي إلى مسار يتسم بالاتساق والسداد والنجاعة، وعكسها البدايات الملتبسة بمقدمات خاطئة، أونماذج قاصرة، لا محالة تفضي إلى سلوك ومواقف متعثرة وغامضة..

فهناك عدة مقدمات ونماذج مختلفة ومغايرة ومتنافرة، ولم تخضع لأي نقذ ابستمولوجي شامل وجذري، تعج بها الساحة الإسلامية، تجعل الفاعل الإسلامي، سواء في المجال الفكري والدعوي، أو السياسي والاجتماعي، غير قادر على امتلاك رؤية نظرية واعية تتسم بالتأصيل والرشد والعقلانية، فالبدايات غالبا مرتبكة، والمسار غير متسق، وتشوبه تعارضات غير مبررة، والنتائج غير متحققة ولا مجدية! فهناك عدة تصورات ونماذج تتحكم في المسار والنتائج نجملها فيما يلي:

– نموذج التصورات الحرفية والتجزيئية: واختلالات هذا النموذج، هي أنه سطحي، يعزل النص عن سياقه ومساقه ومقاصده وبنيته الكلية، ويقع في أفة التعارض بين النصوص من جهة، وبين النصوص والنوازل والوقائع والأعراف من جهة أخرى.. ولذلك قال الإمام القرافي في كتابه الفروق:”والجمود على المنقولات أبدا ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين”.. 1/ 177

– نموذج القراءة المذهبية والطائفية: وهو نموذج يتحكم في النصوص، ويملي عليها ما يقوله المذهب أو الطائفة، يعتقد ثم يستدل، ويخضع النصوص للأهواء المتقلبة التي تكرس التنازع والتفرق، والوعي الإيديولوجي الشقي.

– نموذج القراءة السلفية التاريخية: آفة هذه القراءة أنها تحول تاريخ السلف الصالح إلى مطلق، وتغرق النص الديني في بحر القيود التاريخية، وتتعاطى مع النوازل العصرية بمنطق الإختزال والإقصاء والمصادرة.

– نموذج القراءة الأصولية المقاصدية الاستدلالية: وهي قراءة -إذا استخدمنا لغة التقريب والتغليب- أقرب إلى المنهجية العلمية والموضوعية، فهي تتسلح ب”الفقه الحي الذي يدخل على القلوب بدون استئذان” كما يسميها ابن القيم الجوزية، وب”فقه الفقه” عند الإمام الزركشي، لأنها فقه يستحضر المشتركات الإنسانية، التي تتمثل في الفطرة والطبع والخلق..

فهذه القراءة المقاصدية الاستدلالية هي عابرة للمذاهب والفرق، حيثما وجد الدليل الشرعي، المتكون من صريح المنقول وصحيح المعقول والمصلحة الشرعية الراجحة تكون، فالدليل هو منار السبيل.. فهي قراءة تحصل العلم من المنقولات والأخبار المتواترات والمعقولات والمحسوسات المجربات ، وليس من الإمام المعصوم أو الشيخ الملهوم، أو السلف الصالح، وغايتها كمال الإنسان على الأرض، ونجاته وفوزه في الآخرة “دار القرار”، وحركته من النظر الصحيح إلى العمل الصالح، وهي تتعاطى مع الوحي الثابت والمطلق، باجتهاد وسطي ونسبي ومتجدد، ولا تضع الوحي بشكل رأسي خارج التاريخ، بل تحرص على وضعه بشكل أفقي داخل التاريخ، ضمن مقاصده الكبرى:( حماية القيم/الدين، والحق في الحياة/النفس، وتحصيل المعرفة والعلم/العقل، وحق الكرامة الإنسانية/العرض، وحفظ المال العام/المال)..

إن تعدد المقدمات والمنطلقات والنماذج لا شك يؤثر في التصورات والمواقف والسلوكات؛ فمثلا لو انطلقنا من هذه المقدمة الإعتقادية التالية: “إن الله هو الخالق الحكيم العادل، حكيم فيما خلق، وعادل بين خلقه، وحكمته كما تنزه، لا يشوبها العبث ولا الاعتباط، ولكنها ترتبط بسنن كونية قدرية تمثل الوجود خارج وعي الإنسان وإرادته، وسنن تشريعية اختيارية داخل وعي الإنسان وإرادته، وأنه خلق الأرزاق، وجعلها قسمان؛ قسم مرتبط بالثروات الطبيعية “ليأكلوا من تمره”، الناس متساوون وشركاء فيها، وقسم مرتبط بالعمل والكسب “وما عملته أيديهم”، الناس فيها متميزون ومختلفون حسب قدراتهم وخبراتهم، وعدله سبحانه كما تكرم، يقتضي أن يكون كل البشر متساوين في الحقوق والواجبات، لا يتفاضلون لا بأنساب ولا أعراق، وأحرارا في فكرهم وسلوكهم حتى يمكن محاسبتهم على أفعالهم.. فإن المجتمع ضمن نموذج اعتقادي كهذا، سيكون مكون من أفراد أحرار متساوين، يمتلكون قدرة على اختيار ما يفعلون، وعلى ذلك فالسلطة التي تنبثق من إرادتهم الحرة، ستكون بلا شك عادلة، أو بلغة العصر، مدنية وتعاقدية وديمقراطية”.. أما لو انطلقنا من مقدمة اعتقادية أخرى ترى: ” أن الله خالق كل شيء، وعالم بكل أمر، وضع الشرائع، ولم يترك شيئا، وأن الإنسان مقهور، ليس له من أمره شيء، ولا خيار له سوى طاعة الشرائع، واتباع اولي الأمر، من الحكام المتغلبين والشيوخ الملهمين والأئمة المعصومين، وأن تمييز الله للعباد في الآخرة، يقتضي تمييزا مماثلا لهم في الدنيا.. فإن طبيعة هذا المجتمع ستكون أقرب إلى طبيعة المجتمع العبودي أو الطبقي أو الكهنوتي..”.

كما لو انطلقنا من المقدمة العقائدية التي انطلق منها المتكلمون، والتي تؤكد على ” أن أول واجب على الإنسان هو النظر، لأنه السبيل إلى معرفة الله”.. فإن النتائج المحصلة، والمواقف المكرسة، ستكون مغايرة للمقدمة العقائدية الأخرى التي انطلق منها أهل الأثر، والتي تقول:” أن أوَّل واجبٍ يجبُ علَى المكلِّفِ شهادةُ أنْ لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ، لاَ النَّظرُ، وَلاَ القصدُ إلىَ النَّظرِ، وَلاَ الشَّكُّ، كمَا هيَ أقوالٌ لأرْباَبِ الكلامِ المَذمومِ” .. فإقصاء النظر فلسفة كهنوتية لا علاقة لها بالإسلام، الذي يأمر بالنظر عبر العديد من الآيات القرآنية، لذلك قال الإمام الماوردي في أدب القاضي (1/274): “لا تعرف الأصول إلا بحجج العقول”..

فمنظور القراءة النصية التجزيئية، تفضي في النتيجة إلى نمط مجتمعي متعصب وسطحي ومنقسم، وفاقد لأية رؤية كلية مقاصدية، يسير على غير بصيرة.

ومنظور القراءة المذهبية الطائفية، يعطي في المحصلة مجتمعا منغلقا، يحتكر الحقيقة المطلقة، ويدعي بأنه يمثل الفرقة الناجية أو شعب الله المختار، فيما يمثل الأخرون كفارا أو مبتدعين يجوز قتالهم واستعبادهم!..

أما منظور القراءة السلفية التاريحية، فهي تكرس مجتمع العود الأبدي، وأنه ليس بالإمكان أبدع مما كان، فالماضي هو مستودع العلم، ومستقر الحقيقة، وأن ما بعده يمثل تلاشيا وفسادا، وهي بذلك تطرح مشروعا ماضويا، يحول القيود التاريخية في عصر السلف الصالح إلى مطلقات، ويخسر في المحصلة بؤرة الموقد، ويكتفي في مقابل ذلك بالقبض على رماده!

أما القراءة الأصولية المقاصدية فهي قراءة استدلالية، منفتحة على أفق المعرفة المتجدد، ومستوعبة لكل المكتسبات الإنسانية الحكيمة والنافعة، ولا شك أن مثل هذا التصور، لابد أن ينتج مجتمعا مدنيا حرا وكريما، ودولة مدنية حقوقية وتعاقدية وقانونية وحداثية، تنطلق من مرجعية إسلامية، وعلاقات دولية بينية يسودها السلام وحسن الجوار.

ويمكن لهذه العلاقة السببية بين التصورات الفكرانية والسلوك والمواقف، أن تسري على جميع المفردات ذات الحمولة العقائدية، التي نتداولها في لغة الاستخدام الإسلامي.. فمفهوم “شهادة التوحيد” يمكن أن تفهم على أساس اقصائي يكرس مفهوم الإكراه، ونبذ الحريات الدينية.. ويمكن أن تفهم فهما مغايرا يميز بين الله المطلق، والإنسان النسبي، والله الواحد والإنسان المختلف والمتعدد، بحيث يمثل تحويل النسبي إلى مطلق، عكس عقارب التاريخ، شركا وكفرا، وتحويل المتعدد إلى واحد بدعة وضلالا، وكلا المقدمتين ينجم عنهما مشروعين مجتمعين مختلفين.. ومهموم “الحاكمية” إذا فهم على أساس الفهم الذي رسخه أبو الأعلى المودودي والشهيد سيد قطب، نتيجة سياق خاص، اتسم بالقهر والاستبداد والاستعمار، فإنها تساهم في تقسم العالم على أساس: الحاكمية الإلهية (مدينة الله)، والحاكمية الجاهلية (مدن الشياطين).. وتكرس عقلا صداميا، يبني الأسوار، ويهدم الجسور.. أما إذا فهمت على أساس تصور صاحب “العالمية الإسلامية الثانية” أبو القاسم الحاج حمد، وفي إطار فلسفته القاضية ب(الجمع بين القراءتين.. أي الدينية والكونية) فإنه يصنفها إلى ثلاثة أنواع من الحاكمية، وكل حاكمية تناسب مرحلة تاريخية مناسبة: الأولى يسميها “الحاكمية الإلهية” تنسجم مع طبيعة العقل الاحيائي العاجز أمام مظاهر الطبيعة، والذي لا يؤمن إلا بالمشخص والمرئي، مما تطلب تدخلا مباشرا لله عن طريق المعجزات والخوارق.. الثانية يسميها “حاكمية التفويض والاستخلاف”، بدأ العقل الإنساني خلالها، يرتقي إلى مستوى تقبل بشكل تجريدي، فكرة الإله الواحد، فاكتفى فيها الله سبحانه بالتفهيم والايحاء والتسخير..

والثالثة ويسميها ب”حاكمية الإنسان”، وهي التي اكتملت فيها حلقات ارتقاء العقل الإنساني وارتباطه بالله عن طريق الغيب وليس بالمرئي والمشخص أو التفويض والايحاء.. فحاكمية الانسان الأخيرة لا تمثل قطيعة مع الوحي، ولكن تمثل تتويجا للرشد الإنساني، ويمكن أن تكون منطلقا لفهم إسلامي جديد، يتناسب مع مفهوم الاستخلاف والاستئمان الإسلاميين. ونفس الأمر يقال على مفهوم “ختم النبوة”؛ فالمفهوم القديم يشير إلى الإكتمال ضمن منطق الوصاية على عقل الإنسان.. وتعتبر بعض التيارات من منكري “ختم النبوة” ك”البابية” و”البهائية” و”الشيعة” الذين يرون مواصلة الوحي للأئمة من بعد الرسول صلى الله عليه وسلم، و”الصوفية” الذين يرون أن ما انقطع هو نبوة التشريع، أما نبوة العامة فلا، كما يذهب ابن العربي ”حدثني قلبي عن ربي“ أبرز دلالة على مجتمع الوصاية والخضوع .. في حين يعتبر الفيلسوف محمد إقبال ”ختم النبوة“ علامة مميزة للتبشير المبكر بإمكانية استقلال الجنس البشري عن كل أنواع الوصاية الخارجية عن عقله الإنساني..

فهذه نماذج لمقدمات اعتقادية، يعتبر بعضها معيقا لولوج العصر، ويعتبر بعضها محفزا ودافعا لولوجه، ولا بد من نقد ابستمولوجي معرفي، لتنقية أصولنا الاعتقادية من كل القيود التاريخية المعيقة، لفتح أفاق أمام العقل الإسلامي المعاصر، ليمتلك مقدمات اعتقادية صحيحة وسليمة لحراك نهضوي راشد وفاعل.

ــــــــــ
الجديدة في 13/11/2015