وجهة نظر

الهند وأفريقيا.. الاقتصاد أولا

التأم في الأيام الأربعة الأخيرة من شهر أكتوبر/تشرين الأول الماضي بالعاصمة الهندية نيودلهي “منتدى الهند-أفريقيا” الثالث، بمشاركة أكثر من 45 رئيس دولة ورئيس حكومة من 54 دولة أفريقية، بالإضافة إلى الهند، الدولة المضيفة للقمة في دورتها للعام 2015، التأموا جميعا حول شعار: “شركاء في التنمية: من أجل أجندة تنمية فعالة ومهيكلة”.

ومع أن هذه القمة هي الثالثة من نوعها في تاريخ هذا المنتدى (بعد قمتي نيودلهي عام 2008 وأديس أبابا عام 2011)، فإنها عمدت -لأول مرة- إلى إصدار وثيقة مرجعية، “وثيقة منتدى نيودلهي”، تؤسس لمنظور الأعضاء بخصوص القضايا العالمية الكبرى، وترسم خارطة طريق لما يجب أن تكون عليه طبيعة ثم أشكال التعاون بين الهند وأفريقيا على الأمدين المتوسط والبعيد.

يقول البيان الختامي بشأن الموقف من القضايا الكونية “الملحة”:

– إن “الحاجة إلى وجود بيئة اقتصادية دولية داعمة، وإلى تدفقات استثمارية معززة، وإلى نظام تجاري متعدد الأطراف داعم، وإلى إطار تعاون تكنولوجي معدل؛ أصبحت الآن أكثر إلحاحا من أي وقت مضى، لتعزيز واستدامة النمو الاقتصادي والقضاء على الفقر وتعزيز التنمية المستدامة. وهذا يتطلب إصلاح النظام المالي الدولي، ليكون أكثر ديمقراطية واستجابة لاحتياجات البلدان النامية”.

– ويؤكد “قادة دول قمة منتدى الهند-أفريقيا التزامهم القوي بإجراء إصلاح شامل لمنظومة الأمم المتحدة، بما في ذلك مجلس الأمن التابع لها، لجعله أكثر تمثيلا وديمقراطية ومساءلة وفعالية…”، لا سيما في ظل مناخ الإرهاب والتطرف، حيث “اكتسب خطر الجماعات غير الحكومية -بما فيها الجماعات المسلحة- بعدا جديدا، لأنها توسعت جغرافيا، وتحصلت على موارد وأدوات جديدة لنشر الفكر المتطرف واستقطاب وتجنيد المزيد؛ لذا يتوجب علينا التصدي لهذا التحدي من خلال إستراتيجية وتعاون عالميين”.

– ويشدد البيان -في نقطة ثالثة- على “ضرورة تعزيز التعاون والتنسيق لوضع اللمسات الأخيرة على اتفاق طموح وشامل لتغير المناخ، وذلك من خلال مفاوضات تغير المناخ (سي أو بي 21) المقبلة في باريس”.

هذا في ما يتعلق بشق موقف المنتدى من القضايا الكونية ذات الراهنية، أو الثاوية خلف تهديد الأمن العالمي، أما في الشق المتعلق بعلاقة الهند بأفريقيا، فنجد أن البيان قد وقف عند ثلاث نقط أساسية:

– النقطة الأولى: تشديد البيان على أن “شراكة التنمية طويلة الأمد ومتعددة الأوجه بين أفريقيا والهند، والقائمة على أساس من المساواة والصداقة والتعاون، تمثل التعاون بين بلدان الجنوب في جميع أبعاده، والتي تشمل تنمية الموارد البشرية، من خلال المنح الدراسية والتدريب، وبناء القدرات والمساعدة المالية من خلال المنح والقروض المتيسرة لتنفيذ مختلف مشاريع الاحتياجات العامة”.

– النقطة الثانية: التأكيد على أن “دور مشروع أفضلية التعرفة الجمركية للأسواق الحرة الذي تقدمه الهند، سوف يلعب دورا مهما في زيادة التجارة بين أفريقيا والهند”؛ من هنا ضرورة “خلق بيئة مواتية لتوسيع نطاق المشروع ليشمل جميع البلدان الأفريقية”.

– النقطة الثالثة: تركيز البيان على “ضرورة التعاون المشترك في مجالات الزراعة والأمن الغذائي، ودعم تنفيذ برامج التنمية الزراعية الشاملة في أفريقيا، لزيادة الإنتاجية والحفاظ على الأرض والبيئة، فضلا عن ضمان الأمن الغذائي، وتحسين تقنيات الزراعة من خلال التكنولوجيات المناسبة، ذات الأسعار المعقولة، والاستخدام المناسب للري، وتحسين أصناف المحاصيل، وتشجيع الاستثمار في الأعمال التجارية والزراعية والصناعات الغذائية، لخلق فرص عمل وعائدات أكبر”.

هذه المقتطفات الواسعة من بيان قمة منتدى نيودلهي لم نسقها هنا بغرض الوقوف عند القضايا الكبرى (الدولية والإقليمية والبينية)، التي على الهند وأفريقيا مباشرتها حينا أو إرجاؤها في المآل، بل سقناها بوصفها القضايا الحيوية الجوهرية بالنسبة للطرفين، والتي لا يبدو من مستقبل للمنتدى ذاته يذكر في حال التغاضي عنها، أو التعامل معها وفق منطق المقاربة الجزئية أو الاختزالية الضيقة.

بيد أن التدقيق في البيان الصادر، كما استحضار جدول الأعمال المعتمد، ومتابعة الخطب المتوالية التي أثثت الأيام الأربعة من دورة نيودلهي، تشير إلى خلل في المنهج وانحراف في المقاربة، لا يمكن أن تغفلهما العين ولو بالملاحظة الأولية العابرة:

– أولا: إن النقاط المدرجة بجدول الأعمال والملتأم حولها، تبدو في ظاهرها كما في جوهرها، هي ذاتها التي سطرت وأثيرت والتأم حولها “الجمع” في الدورتين السابقتين (دورتي العامين 2008 و 2011)؛ إذ بمراجعة الأوراق المقدمة والتقارير الموزعة، لم يبد أن ثمة تقييما شموليا، جامعا مانعا، لما تم إنجازه في السنين الأخيرة، إذا لم يكن من باب التقييم المفضي لتقويم المسار، فعلى الأقل من باب الاطلاع على حوصلة ما تم إنجازه قياسا إلى المتأمل فيه في حينه.

ولذلك تبقى المقاربة أقرب إلى إبداء النوايا أكثر منها إلى الرصد العملي والفعلي للذي تم إدراكه احتكاما إلى ما كان مسطرا. وحتى بالنسبة للأهداف المسطرة في وثيقة نيودلهي، فليس ثمة ما يشير حقا إلى كيفيات إجرائها، أو تعيين الجهات التي من المفروض أن تباشرها، أو تعمل على تتبع مراحل إنجازها، أو الآماد الزمنية التي قد تستغرقها هذه المرحلة أو تستوجبها تلك.

– ثانيا: ثمة سؤال جوهري لا يمكن تجاوزه بأي حال من الأحوال: إلى أي حد يمكن للبلدان الأفريقية المشاركة في القمة، أن تتحدث مع الهند بلغة واحدة وبصوت واحد، وهل لديها إستراتيجية موحدة لمخاطبة الهند مخاطبة الكتلة للكتلة؟ وهل للدول الأفريقية الخمسين أو أكثر نفس التطلعات ونفس الأولويات ونفس الرهانات على القمة؟ وهل للدول الأفريقية التي لها مع الهند علاقات تاريخية قديمة نفس “المكانة” التي لها مع البلدان ذات العلاقات المتأخرة، كما الحال مع الدول الفرانكفونية أو دول أفريقيا الشمالية أو الشرقية أو ما سواها؟

لمجيب يجيب: إن منظمة الاتحاد الأفريقي كفيلة بذلك، وبمقدورها توحيد الرؤى المختلفة وطرحها في النقاش مع الهند “كملف” جماعي، وليس بوصفه ملفا يخص هذه الدولة أو تلك وحدها. وهو قول سليم بنظرة خارجية محايدة، لا سيما أن أحد أهداف المنظمة هو الدفاع عن القضايا الأفريقية بكل المنتديات، والذود عن مصالحها الفئوية أو المشتركة أمام المنظمات والقوى السياسية والاقتصادية الكبرى.

إلا أن ذات القول يبقى مجانبا لكبد الواقع على الأرض، ليس فقط كون المنظمة إياها قد باتت مكمن تطاحنات داخلية مبطنة، بل أيضا بسبب انتفاء الرؤية من بين ظهرانيها “لانتشال” القارة من المشاكل الكبرى التي تعاني منها. والشاهد الأخير على ذلك مطالبة المنظمة الهند بضرورة دعوة جبهة البوليساريو لحضور أطوار القمة، علما بأن ذلك من شأنه إحراج المغرب (وهو بلد مؤسس)، ناهيك عن كون الجبهة لا تحتكم على دولة بمنطوق القانون الدولي، يعطيها الحق في ولوج لقاءات كهذه.

ولذلك، فعوض أن تكون المنظمة مستوى فاعلا في أشغال القمة، رأيناها تكتفي بصفة “الملاحظ”، وكأن اختصاصاتها لا تشترط غير ذات الصفة، أو كأن لديها القناعة بأنه بمجرد “انفراط الجمع”، فسيذهب كل طرف للبحث والدفاع عن مصالحه بمفرده ووفق حساباته.

– ثالثا: عندما نقول إن أفريقيا لم تأت إلى القمة بإستراتيجية موحدة ولا “برأس لائحة” تقودها (منظمة “الاتحاد الأفريقي” والحالة هاته)، فإن المقصود ليس تجميع تطلعات هذه الدولة أو طموحات تلك، في وثيقة تفصل في “الملفات” دولة بدولة وقطاعا بقطاع وأولوية بأولوية. ليس هذا هو المقصود.

المقصود هو أن يتم الاحتكام إلى تناسقية سياسية وإستراتيجية في تحديد علاقة أفريقيا بالهند، من زاوية التوجهات الكبرى لما يجب أن تكون عليه الاستثمارات الهندية في أفريقيا مثلا، أو تحديد دور الفاعلين المباشرين من هذه الجهة، كما في القطاعين العمومي والخاص على حد سواء، ثم التشديد على أن تكون العلاقة بين الطرفين علاقة شركاء على خلفية من “الفائدة المشتركة”، لا على أساس “صاحب الأمر بوجه المنفذ”.

ولذلك، فإذا كان تواجد رؤساء الوفود الأفريقية بمنتدى نيودلهي 2015، هو بالبداية وبالمحصلة النهائية، خطب ود الهند دولة وقطاعا خاصا، بغرض استقطاب المزيد من الاستثمارات والمساعدات والخبرات للقارة السمراء، فإن الهند لا تمانع في ذلك، بل لا تبحث إلا عن الهياكل والصيغ لتجسيد ذلك، بسبل تعاقدية مباشرة، أو من خلال التحالفات الإستراتيجية مع هذا “الفاعل الوطني” أو ذاك.

بيد أنه إذا كان للبلدان الأفريقية، فرادى أو مجموعات، حساباتهم الخاصة، فإن للهند حساباتها الخاصة أيضاغرد النص عبر تويتر، والتي قد لا تتماهى دائما مع حسابات أفريقيا، أو تبقى من مجال الترتيبات المستقبلية التي تضمرها بهذا الشكل أو ذاك:

– فالهند عازمة على تقوية تواجدها الاقتصادي بالقارة الأفريقية، الغنية بالبترول والمواد الأولية والإمكانات التجارية، وذلك بغرض تأمين تزويد اقتصاد ينمو بنسبة 8% سنويا، وإطعام سكان يقاربون المليار ونصف المليار نسمة.

لا تراهن الإستراتيجية الأفريقية للهند على إمكانات الدولة المركزية لإسناد تواجدها، بل تفوض ذلك لقطاع خاص حيوي، لا يتوانى عن ولوج القطاعات الكبرى كما “الجيوب الاستثمارية” الصغيرة سواء بسواء، حتى بات للهند فاعلون كبار بأفريقيا، يسيطرون على مجالات بأكملها، كما الحال بقطاعات الاتصالات والسيارات والصناعات الدوائية والصيدلية وما سواها.

وبقدر اهتمامها بالقطاعات الإستراتيجية الكبرى، فإن الهند قد غزت بموازاة ذلك، قطاعات لا تبدو مغرية لأول وهلة، لكنها ذات أهمية كبرى بالنسبة لسوقها الداخلي وللسوق الدولي بوجه عام، كقطاع الزهور والمنتجات الاستوائية، والذي تقتني لزراعته عشرات الآلاف من الهكتارات، لا سيما في إثيوبيا وباقي دول أفريقيا الشرقية.

– ثم إن الهند عازمة على أن تتموقع بأفريقيا كبديل للصين، لا سيما في تركيزها على الرأسمال البشري وتكوين الخبرات وتبادل المعارف والتجارب مع الخبراء الأفارقة؛ وهو ما يسهل على المستثمرين الهنود نقل نموذجهم في الإنتاج منخفض التكاليف، والتحالف الأفقي والعمودي مع المقاولات الأفريقية، عكس النموذج الصيني الذي يفضل الاشتغال بمنطق “تسليم المفتاح”.

صحيح أن المبادلات التجارية بين الهند وأفريقيا لا تتعدى أربعين مليار دولار، مقابل ما يناهز 170 مليارا بين الصين وأفريقيا، لكن الهند عازمة على الرغم من ذلك على منافسة الصين، بل والنسج على منوالها على مستوى ضخ الرساميل الضخمة وسلوك نموذج: البنى التحتية مقابل المعادن.

– ثم إن للهند امتيازا على الصين، كونها تتوفر على “دياسبورا” كبيرة، كان لها تاريخيا موقع قدم مقدر بالعديد من البلدان الأفريقية، تمويلا واستثمارا وتجارة واستهلاكا.

كل هذه العناصر العامة تبين أن منتدى نيودلهي لا يعبر حقا عن احتمال قيام علاقات ندية بين الهند وأفريقيا، بقدر ما يدفع إلى الاعتقاد بأنها علاقات سرعان ما ستعمد إلى إعادة إنتاج سلوك القوى الفاعلة الكبرى بأفريقيا وإن بأدوات أقل خشونة.

هل نحن أمام بداية مرحلة استعمارية جديدة تقودها الهند بمعية الصين؟ أخشى أن يكون الأمر كذلك، حتى لو منح الأفارقة صوتهم لولوج الهند أروقة مجلس الأمن.