سياسة

الهيلالي يكتب: الحالة الحقوقية في زمن البلوكاج الحكومي

تكثفت في الآونة الأخيرة عدة عناصر ومؤشرات على حالة من التراجع الحقوقي التي مست حقوقا وحريات بعضها فردي وبعضها الآخر جماعي لم تقتصر على المس بتيارات توجد في حالة صدام أو مناكفة مع الدولة ولكن طالت أيضا تيارات سياسة واجتماعية في وضعية مشاركة واندماج مؤسساتي متقدم.

وفِي هذه الورقة محاولة لرصد وقراءة مجموع الوقائع ذات الصِّلة وتحليلها والوقوف عند أبرز الخلفيات والدلالات التي يمكن أن تؤشر عليها ضمن جهد تركيبي للحالة الحقوقية في تقاطعاتها السياسية والأمنية وذلك على النحو الآتي:

أولأ: الحالة الحقوقية مؤشرات رصدية:
– إعفاء عشرات الأطر والموظفين (حوالي 108) في سلاليم إدارية مختلفة بعضهم يشغل مناصب مسؤولية في مستويات متباينة، تم بدون سابق إنذار ولا احتكام لأي تدبير مسطري أو عزلهم أو تنقيلهم أو وضعهم رهن الإشارة، ولاسيما في قطاعات الفلاحة والمالية والتعليم. بعض هؤلاء المعزولين أو الموقوفين تحفل مساراتهم بشواهد التميز المهني وشهادة الكفاءة في الأداء الوظيفي حسب شهادت زملائهم.

– ترسيب حوالي 150 من الأساتذة المتدربين الذي خاضوا مقاطعة مفتوحة لبرنامج التكوين على خلفية مرسومين حكوميين قلص من منح التكوين وفصلا بين التكوين والتوظيف، وأنهوا إضرابهم باتفاق بين ممثل عن الحكومة في شخص والي جهة الرباط سلا القنيطرة، وممثلي التنسيقية الوطنية للأساتذة المتدربين، أصحاب المبادرة المدنية لحل أزمة الأساتذة وممثلي النقابات التعليمية الستة انتهت بإيجاد حل لتوظيف الجميع دفعة واحدة وفقا لشروط نص عليها محضر جمع لجنة تقنية مشتركة.

– متابعة خمسة شبان نشطاء على”الفايسبوك” بتهم الإشادة بالإرهاب قبل أن تتحول إلى الإشادة والتحريض عليه بعد الجدل القانوني والإعلامي حول القانون الأولى بالتطبيق وما إذا كان القانون رقم 88.13 المتعلق بالصحافة والنشر الذي يفرض عقوبة مالية في حال الإدانة ويتابع المعنيين في حالة سراح أم أن القانون .03.03 المتعلق بمكافحة الإرهاب الذي يؤكد أن الإشادة بالأفعال الإرهابية تعد جريمة يعاقب عليها القانون، هؤلاء الشباب المنتمين في جلهم إلى شبيبة حزب العدالة والتنمية الذي يقود الحكومة سبق أن كانوا في قلب جدل إعلامي وسياسي وحزبي يضعهم في خانة قادة ما يسمى بالكتائب الإلكترونية لحزب العدالة والتنمية الذين يضطلعون بدور حاسم في معارك الحزب إلى درجة جعلت قادة هذا الأخير يتبرأ منهم.

– منع صناعة وتسويق البرقع وتوزيع منشور من ممثلي وزارة الداخلية في السلطة الإدارية المحلية يمنح التجار مدة 48 ساعة للتخلص منه تحت طائلة مصادرته منهم.

– توالي وقائع عزل الأئمة المؤثرين كان آخرهم خطيب سلا وخطيب فاس والترويج الإعلامي المكثف في بعض الجرائد المحسوبة على جهات في السلطة عن نية لوزارة الأوقاف لعزل مئات القيمين الدينيين من الأئمة والخطباء ومسيرة الكتاتيب القرآنية بحجة انتمائهم إلى بعض الحركات الإسلامية مع تخصيص حركة التوحيد والإصلاح بالذكر.
– تسريب منشور لوزارة الداخلية بعمالة إقليم شفشاون يكشف عن عملية تحيين “قاعدة المعطيات المتوفرة والمتعلقة باتباع الجماعات الدينية خاصة المحظورة أو المتطرفة ويتضمن تعليمات سرية وعاجلا لإعداد بطرائق معلومات محيينة حول نشطاء اتباع الجماعات الدينية التالية:
1-جماعة التبليغ والدعوة إلى الله ؛
2-حركة الإصلاح والتوحيد ؛
3-السلفية التقليدية ؛
4-جماعة العدل والإحسان المحظورة ؛
5-السلفية الجهادية ؛
6- المعتقلين السلفيين (الذين قضوا أو لازالا يقضون عقوبة حبيسة) ؛
7-المذهب الشيعي ؛
8-الأشخاص المشتبه فيانتمائهم .

وأخطر ما يتضمنههذا التسريب هو،أنه يوحي بوجود لائحة للجماعات المتطرفة أو لائحة بالأشخاص المتطرفين على نحو عام ولائحة خاصة بالمشتبه في تطرفهم التي يمكن أن تفسر بها عبارة “المشتبه في انتمائهم” الواردة في البند 8 من هذا المنشور.

ثانيا: الحالة الحقوقية والقراءات الممكنة
– هل هذه الوقائع تبقى بدون رابط مشترك بينها وبدون خلفيات مقصودة؟أي قراءة يمكن أن تتم لمجموع هذه الوقائع في صلتها بوضعية البلوكاج الحكومي وبنتائج الاقتراع للسابع من أكتوبر 2016؟
– هل يمكن تجريد الوقائع المذكورة من خلفيتها السياسية؟
– هل تؤشر هذه المعطيات لجيل جديد من النكوص الحقوقي بعد حالة النكوص الديمقراطي الجاري؟
لمحاولة فهم ما يجري وتقدير الحالة التي يمكن أن تعتبر هذه الوقائع مؤشرات دالة عليها يمكن استعراض القراءات الممكنة التالية:

1- القراءة الأولى: تضع مجمل هذه الوقائع في مساعي ضغط بعض الجهات في الدولة لحمل هذه الأخيرة على مراجعة موقفها من الفاعل الإسلامي عامة، ومن خيار الاندماج المجتمعي بالنسبة لبعضهم، وخيار الاندماج المؤسساتي لبعضهم الآخر على نحو خاص.
وهي قراءة ترى أن هذه الوقائع تمثل حزمة تدابير تستهدف كل فاعل إسلامي على حدة، فالسلفيون مستهدفون باستمرار إغلاق دور القرآن التي يديرها بعض مشايخهم ووضع حد لطموحاتهم في المشاركة السياسية ولو في إطار أحزاب سياسية قائمة (حالة الشيخ حمّاد القباج)، فإن منع صناعة وتسويق البرقع أكبر مؤشر على استمرار سياسة التضييق اتجاه هذا الفاعل.

أما خيار الاندماج المجتمعي الذي ينظر إليه انه بدا ينجح في تكسير عزلته، فإن ترسيب نشطائه في الأساتذة المتدربين، وعزل أطره وموظفيه من مناصب المسؤولية، هي إجراءات جديدة للضغط عليه وإشغاله عن استثمار خيار استعمال الشارع للضغط من أجل التغيير.

وبدون شك فإن خيار الاندماج المؤسساتي يبقى مستهدفا في ما يعتبر نقاط قوته، ومنها شبابه الفاعل في مواقع التواصل الاجتماعي، وعمقه الفكري والدعوي ممثلا في حركة التوحيد والإصلاح التي يمكن قراءة وضعها إلى جانب حركات نعتت بالمتطرفة أو المحظورة أو التي يقضي نشطائها عقوبات حبسية على ذمة قضايا الإرهاب،كل ذلك يهدف -رغم وضعها القانوني إلاأنها ما زالت في عيون بعض الجهات مصنفة في خانة التطرّف-إلى الحد من حالة الإقبال على الانتماء إليها خاصة من النخب والمثقفين.

2- القراءة الثانية: لا ترى في هذه الوقائع سوى أدوات للضغط على رئيس الحكومة المعين والسعي إلى إحراجه أمام قاعدته الانتخابية، وإظهاره في وضعية عجز أمام بعض تيارات هذه القاعدة الانتخابية .

فالجهات التي تقف وراء هذه الوقائع مانفكت تعتبر أن القاعدة الانتخابية الآخذة في الاتساع لا يمكن أن تكون بعيدة عن تصويت الحاضنة الشعبية لهذه التيارات، حتى وإن كان أعضاء هذه التيارات لا يصوتون وغير مسجلين في القوائم الانتخابية، إلا أن أصوات أسرهمومعارفهم لا يمكن أن تخرج عن الاختيار الفكري لهم، وهو ما ينتهي عند قاعدة حزب رئيس الحكومة المعين مما يجعل الضغط على هذه للقاعدة الانتخابية ضغطا مباشرا عليه من أجل تليين مواقفه.

3- القراءة الثالثة: وان كانت لا ترى كبير ارتباط بين مجموع هذه الوقائعإلا أنها تقدم قراءة خاصة لترسيب المتدربين وعزل الأطر والموظفين، وذلك على خلفية انتماء جلهم إلى جماعة العدل والإحسان وتربط ذلك بسياق دولي، عندما تنضاف إلى واقعة إغلاق مدارس الفاتح التي يديرها نشطاء جماعة الخدمة، التي يتزعمها الشيخفتح الله كولن. هذه القراءة تضع أهم ما يجري في إطار عمليات تبادل للخدمات الأمنية بين المغرب وتركيا، هذه الأخيرة التي سبق لها أن أوقفت مؤتمرا حول مشروعالشيخ عبد السلام ياسين بعد افتتاحه بلحظات، ومنعت قياديا من ولوج أراضيها كوفاء من المغرب بالاستجابة لطلبها باغلاق المدارس التابعة لجماعة كولن على خلفية اتهامه بالضلوع في المحاولة الفاشلة للانقلاب العسكري صيف 2016م.

المتشائمون من أصحاب هذه القراءة يذهبون ابعد من ذلك، ويضعون واقعتي الترسيب والعزل بوصفهما مقدمات في خيار العقل الأمني العربيتين للتعاطي مع “خيار التسرب اللطيف إلى المؤسسات”، الذي تمثل نموذجه العالمي جماعة الخدمة ومن يحمل بعضا من خصائصها في نموذج التدين (الصوفية الحركية )أو في النمط التدبيري (التراتبية المشيخية) ومنهج العمل (جماعة ضغط وظيفية).

وفِي هذا السياق يمكن فهم مبادرة الجماعة إلى نفي علاقتها بمدارس الفاتح التابعة جماعة الخدمة .ذلك أن الفروق الجوهرية واضحة بين النموذجينسواء في السرية والعلنية أو في العالمية والقطرية أو في النموذج “الإسلام الساسي” أو “الإسلام الاجتماعي”.لكن من غير إلغاء للقواسم المشتركة في المنحى الصوفي والمشيخة والبراغماتية السياسية …

4- القراءة الرابعة: تؤكد أن الخيط الناظم بين مجموع الوقائع الأنف ذكرها، هو اندراجهاضمن فعل استباقي للحد من فعالية أي حراك اجتماعي جديد، يمكن أن يستثمر المعطيات الأمنية أو السياسية الراهنة ويوظف حالة الإحباط الناجمة عنهما لإطلاق موجة احتجاجية جديدة.
مثل هذه القراءة تنطلق من أبعاد ومرامي البلوكاج الحكومي الذي يستهدف الإرادة الشعبية في نتائجها المعبر عنها يوم 7 أكتوبر في الأحزاب السياسية التي تمثلها أو يمكن أن تحتضنها.

وهي قراءة تسعفها الوقائع الجارية في الحسيمة (مدينة شمال المغرب) على خلفيةطحن بائع السمك في شاحنة للنفايات، الأمر الذي تحول إلى حراك احتجاجي بأبعاد اجتماعية ومطالب سياسية مع اختراقات انفصالية معزولة أو مدسوسة تهم مجموع الريف.

ومن هذا المطلق فهذه القراءة، تربط بين الوقائع الحقوقية المثارة والمرشحين للدخول في حراك الحسيمة ونقله من بعده المحلي إلى أبعاد جهوية، وربما وطنية ودولية، في ظل جهود الربط بينه وبين ذكرى وفاة زعيم المقاومة الريفية محمد بن عبد الكريم الخطابي، الذي مازال جثمانه خارج المغرب، وكذا مع الذكرى الخامسة لحراك 20 فبراير التي تشتد المراهنة على إعادة إحيائها في ظل تكاتف شروطها الموضوعية.

الخلاصة:
في المجمل فإن مهما تكون الاعتبارات الأمنية التي تقف وراء الوقائع الست المرصودة، فإنها لاتخلو من الأهداف السياسية التي تسعىإلى التوظيف السياسي لخدمة أجندات التموقع والمتوقف في جهود تشكيل الحكومة وحسب، ولكن أيضا إلى تدشين دينامية جديدة بغرض استعادة التوازن السياسي والمجتمعي، كما ينظر إليه العقل السياسي الدولي. غير أن السؤال المركزي في أعقاب استمرار المسلكيات التجريبية نفسها، هو :
– هل من شأن مثل هذه التدابير أن تنتج التوازن السياسي والمجتمعي الأنسب أم أنها لا تؤدي سوى إلى تأجيج عوامل اللاتوازن ؟
– هل ما جرى في إدارة اللحظة الانتخابية ونسب إلى دوائر في الدولة باسم رعاية التوازن أفضى إلى النتائج المرجوة أم عكس مراده ؟
– السنا والحالة هاته أمام فشل نمط ومنظومة في التدبير اللاديمقراطي واللاسياسي للتوازن؟
– ألا يتضمن النظام الديمقراطي أدواته الذاتية لتدبير التوازن اعتمادا على الآليات الديمقراطية نفسها،أم أن القناعة بالديمقراطية في العقل السياسي المهيمن لم تصل بعد إلى الوثوق بالمنظومة الديمقراطية في شموليتها وتحتاج معه دائما إلى آليات من خارجها للتحكم المسبق في مخرجاتها؟
ذلك ما يتعين استخلاصه من تجربة عقود من البحث عن التوازن بأدوات غير متوازنة