منوعات

المفكر والحرب على الإرهاب .. غياب أم تغييب؟

الدعوة التي جدد عبد الحق الخيام توجيهها مؤخرا من مدينة البوغاز للمفكرين من أجل الانخراط الفعال في محاربة الإرهاب والتطرف، وضعت الأصبع على أحد أكبر مكامن الداء، وتشير إلى واقع مرير فعلا، ويتعلق بضعف المقاربات الفكرية سواء تعلقت بـ”غياب” المفكر والمثقف عموما، أو تعلقت بالمشاريع الرسمية وغير الرسمية التي تستهدف التطرف والإرهاب فكريا. فمدير المكتب المركزي للأبحاث القضائية، بصفته المشرف على الحرب الأمنية ضد الإرهاب في المغرب، خبير بالأهمية الإستراتيجية لحضور المفكرين والمثقفين في الحرب الشاملة على التطرف والإرهاب، فهو يوضح أن الإرهاب ينبني على أيديولوجية، وأن الأيديولوجية ينبغي مواجهتها من طرف المفكرين، مشددا على أن المقاربة الأمنية وحدها لا تكفي في محاربة الظاهرة الإرهابية.

وبالفعل فالإرهاب قبل أن يكون أعمالا إجرامية فهو أولا فكر متطرف وفهم للدين منحرف، تتداخل عدة عوامل سوسيوثقافية واقتصادية في إنشائهما وتغذيتهما. وإذا كانت الجهود الأمنية يمكنها محاربة الإرهاب على مستوى التخطيط لأعماله الإجرامية في حرب استباقية سجل المغرب فيها إنجازات مهمة جدا، فإن محاربته على مستوى الفكر تتطلب تعبئة نوع آخر من الفعاليات يكون بمقدورها تغيير مسار التفكير نحو الاعتدال والوسطية ونحو معانقة قيم السلم والعيش المشترك.

ولا يمكن في هذا السياق الشك في أن المفكرين والمثقفين الحقيقيين في أتم الاستعداد للمساهمة في محاربة كل الظواهر التي تهدد المجتمع، بما فيها الإرهاب والتطرف، لأن ذلك يدخل ضمن طبيعتهم كفئات تعتبر ضمير الأمة وراعيها على مستوى القيم. لكن لماذا نسجل جميعا غياب المفكر المغربي والمثقف المغربي بشكل عام في محاربة الإرهاب والتطرف؟

إن المفكر أو المثقف قد يؤلف كتابا أو يكتب مقالا وينشرهما دون عناء، لكن ظاهرة مثل التطرف الديني والإرهاب المستند عليه لا يمكن محاربتها الفكرية بشكل ناجع من خلال عملية التأليف والكتابة فقط، بل لابد حتى توتي جهود هؤلاء أكلها أن تشارك ضمن فعاليات لها أولا القدرة الواسعة على التأثير والتأطير، وثانيا لها القدرة على فتح الحوار المباشر مع الشباب. ويقاس نجاح تلك الفعاليات بمدى قدرتها على استقطاب الشباب من جهة، والمفكرين والمثقفين من جهة ثانية.

إن الفعاليات التي يمكن أن تعط لمساهمة المفكرين والمثقفين أثرها البالغ في محاربة التطرف والإرهاب تدور بالأساس حول الإعلام والمجتمع المدني. فمن خلال هذين المجالين الحيويان يمكن لمساهمة هؤلاء المفكرين أن تكون فعالة. وهنا نجد جانبا من الإجابة عن سؤال: أين المفكر في محاربة الإرهاب والتطرف؟ حين نطرح السؤال بطريقة أخرى وهي: أين المفكر والمثقف في برامج الإعلام وخاصة العمومي، وفي برامج المجتمع المدني، فيما يتعلق بمحاربة الإرهاب والتطرف؟ ثم ما حجم محاربة ظاهرتي الإرهاب والتطرف في أجندات ذلك الإعلام والمجتمع المدني؟

إنه إذا كان المفكرون والمثقفون يملكون زادا معرفيا يستطيعون من خلاله التأثير الإيجابي في فكر الشباب بما يحميهم من التطرف والإرهاب، فإن الاستثمار الجيد لذلك الزاد يتوقف، ليس على إرادتهم واستعدادهم فحسب، بل على الفرص التي تتاح لهم للتواصل والحوار مع الشباب. وهنا نجد أنفسنا بشكل موضوعي ليس أمام غياب طوعي لهؤلاء ولكن أما تغييب قصري لهم.

وفي هذا السياق لا بد أن نسأل، هل هناك إرادة حقيقية لإشراك المفكرين والمثقفين في محاربة الإرهاب؟ ذلك أن تلك النوعية من المواطنين لا يسجل تغييبها في موضوع الإرهاب فقط، بل نجد أن غيابها في النقاش العمومي وفي مجالات التنشئة الاجتماعية العامة يشكل ظاهرة مقلقة بالفعل. فهل هؤلاء مرغوب فيهم؟ وإلى أي حد يمكن تحمل ضريبة مشاركتهم في برامج محاربة الإرهاب؟ وهذه الأسئلة تفرضها طبيعة هؤلاء. إذ أن تلك النوعية من الناس تمتاز، بالإضافة إلى زادها الفكري الواسع والعميق، بحس نقدي كبير وصارم. فهم سيتنقدون السياسات العمومية في كل ما له علاقة بالتنشئة الدينية والفكرية في البلد. وهو ما يعني أنهم سينتقدون غياب برامج فكرية ودينية خاصة توجه للمعتقلين على خلفية الإرهاب في السجون. وسينتقدون التقليدانية في تدبير الشأن الديني خاصة حين تهادن الخرافة ومظاهر الشعوذة التي تنتشر في كل ربوع البلاد.

وسينتقدون الخطاب الديني التقليدي الذي لا يساير التحولات التي يعيشها الشباب، ولا يلامس القضايا التي تستأطر باهتماماتهم. وسينتقدون المقاربة الأمنية نفسها في بعدها الحقوقي، وسينتقدون تصنيف الهيئات والمواطنين الذين يرصدون الانتهاكات الحقوقية ويكشفون عنها ضمن الخصوم. وسينتقدون أمورا كثيرة وعميقة وعظيمة.
إن المفكرين ليسوا من النوع الذي يعمل ما يؤمر به، ويقول ما يطلب منه، فهم أناس مستقلون في فكرهم، وملتزمون بما يعتقدون أنه “الحقيقة” والصواب وفيه مصلحة المجتمع بعيدا عن الإملاءات و الحسابات السياسية الضيقة. هذه النوعية من الناس هل هناك إرادة واستعداد لفتح وسائل الإعلام العمومية لهم؟ هل هناك استعداد لتسهيل مأمورية المجتمع المدني حين يفتح لهم مجالات التأطير في القاعات والفضاءات العمومية؟ هل هناك استعداد لفتح الجامعات والمعاهد في وجوههم لتأطير الشباب والتواصل معهم؟

إن تراجع المثقف عموما، والمفكر بشكل خاص، في الحضور المفروض في النقاش العمومي ومجالات التنشئة الاجتماعية أملته عوامل كثيرة أهمها القصد إلى إقصائه حين لا يكون مستعدا للسير وفق أجندات سياسية وإيديولوجية خاصة. إذ كيف ننسى أن عالما كبيرا ومفكرا عظيما ومثقفا شامخا ووطنيا صادقا مثل الراحل المهدي المنجرة مات وفي قلبه غصة المنع. ألم يمت وقد أغلقت في وجهه الجامعات ومنعت منه القاعات العمومية وممنوع عنه الحضور في وسائل الاعلام العمومية؟ وماذا كان ذنبه؟ لم يكن انقلابيا، ولا كان انفصاليا، ولا كان أصوليا متطرفا، … كان كل ذنبه أنه كان مفكرا مستقلا.
إن مساهمة المثقفين والمفكرين لاشك في كونها حيوية في الحرب ضد التطرف والإرهاب. وحين ينادي مسؤول أمني على هؤلاء للانخراط في الحرب على التطرف والإرهاب فلأنه يدرك، كخبير في محاربة الجريمة بكل أنواعها، أن النجاح الحقيقي حين يتعلق الأمر بالتطرف والإرهاب يقوم على المقاربة الفكرية بالدرجة الأولى، وليس على المقاربة الأمنية فقط. ويدرك أن النجاح في تلك المقاربة يتوقف على درجة انخراط المفكرين والمثقفين عموما في تلك الحرب. فهل هناك استعداد لتحمل ضريبة إشراك هؤلاء في برامج محاربة التطرف والإرهاب؟