منوعات

المتلازمة السحرية.. المغربية

أبعد من مسألة حكومة تحمل أعطابها الكبرى في سياق التأسيس وطبيعة التركيبة، وعلى الرغم من اختلاف الآفاق السياسية والفكرية للمنشغلين بسؤال الديمقراطية في المغرب، ليس ثمة اختلافات كبرى في تقدير عناصر تشخيص اللحظة، انطلاقا من العناوين:

فشل التناوب الثاني، كما التناوب الأول، على تأمين تحول ديمقراطي، ضمن مسار إصلاحي وتراكمي، واضح الأفق. عجز في تعايش النظام السياسي مع الإرادة الشعبية المعبر عنها من خلال صناديق الاقتراع، على الرغم من المحدودية الدستورية للمساحات الموضوعة أمام تعبيرات هذه الإرادة، ومن أثر نظام انتخابي يرعى البلقنة ويكرّس توازن الضعف، ومن هشاشة البنى الحزبية، ومن سيادة الثقافة التوافقية لدى الأحزاب المستقلة. قدرة غير مسبوقة للدولة منذ الاستقلال في ضبط أغلبية مكونات الحقل الحزبي، وتحويلها إلى أدوات طيعة بدون أي مشاريع جماعية مستقلة. تعطيل مسالك التأويل البرلماني، وانهيار الفرضيات التأسيسية لدستور 2011: ربط القرار العمومي بصناديق الاقتراع، إعادة تسييس الجهاز الحكومي، إحياء الحياة الحزبية، تحول النقاش العمومي إلى تنافسٍ بين تصوراتٍ مختلفةٍ للسياسات. الهجوم على السياسة، من خلال تنصيب أغلبية ممنوحة ذات هوية لا سياسية، وتهميش المكونات الحزبية وانتعاش منافذ التنخيب العائلي والزبوني، وسطوة مراكز النفوذ الاقتصادي على القرار العام، والعودة القوية للتكنوقراط والوزراء المصبوغين على عجل، وإحياء المقاربة الأمنية في اختيار البروفيلات.

في العمق، يجب القول إنه، لأول مرة منذ بداية التسعينات، يدخل المغرب مرحلة سياسية بلا عنوان مركزي للتعبئة، قادر على إنتاج المعنى وتغذية الأمل.
ذلك أن المغاربة الذين قلنا إنهم عادوا إلى السياسة بشكل ملاحظ، بعد ربيع 2011، وأعادوا إلى الاقتراع معناه في العامين 2015 و2016، استطاعوا أن يحولوا لحظة التنصيب البرلماني للحكومة إلى ما يشبه “اللاحدث”. وباللامبالاة نفسها، يتعامل الرأي العام مع مناقشة البرلمان قانون مالية الحكومة الجديدة.
هل كان يمكن أن نتصوّر العكس؟ هل يصدق أحد، خارج احترام الشكليات والمساطر، أن هذه الحكومة هي “حكومة برلمانية”، وأنها تجسيدٌ للتأويل البرلماني للدستور، وامتداد طبيعي لصناديق الاقتراع؟

هل يصدّق أحدٌ، خارج ما ستفرضه سلطة المال والمصالح الممثلة بقوة في الحكومة، أن للأحزاب المعينة في الأغلبية كلمة في البرنامج الذي سيطبق التكنقراط بصباغة وبدونها، أبرز محاوره الإستراتيجية؟

هل يصدّق أحدٌ أن هذه الحكومة ستستمر في إصلاح منظومة الدعم، ليس بسبب التخوفات الأمنية، ولا بسبب الخوف من استثمار حزب العدالة والتنمية العوائد الانتخابية لسياسة الدعم المباشر، ولا بسبب تضارب مواقف الأحزاب المشكلة أغلبية القوة القاهرة. ولكن، بسبب بسيط، هو أن هذا الإصلاح الذي سيثير اعتراضات الطبقات الوسطى، أي اعتراض الذين يملكون القدرة المؤسساتية والتواصلية للولوج إلى الساحة العامة، يحتاج إلى حكومة سياسية قوية، تخلق حوله مناخا من التعبئة العامة.
عموما، ليس المغاربة سذّجا بالكامل. هم يعرفون، بالبداهة، أن لا شيء يُنتظر من حكومةٍ مثل هذه. انتهت الحكاية مع خطيئة التشكل الأصلية التي خلدتها تلك الصورة الجنائزية لإعلان تحالف الإكراه. الباقي مجرد تفاصيل.

يهتم الرأي العام بالحكومات التي تحمل، بالنظر إلى سياقها، وعودا كبرى، أما حكومات تصريف الأعمال فهي لا تستحق كثير انتباه، خارج ما ستصنعه ديمقراطية الرأي عبر فضاءات التواصل الاجتماعي، من سردياتٍ صغرى، مبنيةٍ على الرصد الفضائحي لسكنات الوزراء وحركاتهم وهفواتهم.

ذلك أن هذه الحكومة جاءت، بالأساس، لوظيفتين مركزيتين؛ معاقبة الناخبين وإذلال السياسة، وقد نجحت بشراسة في ذلك، مقدّمةً درسا قاسيا للذين تصوروا أن لأصواتهم قليلا من السلطة، وأن إرادة “التحت” يمكنها أن تؤثر بشكل طفيف على “الفوق”.

وتسريع وتيرة أثر متلازمة “الحزب الذي يصبح ضحية التحول السياسي الذي يصنعه”، وهو ما وقع في المغرب لحزب الاستقلال بعد حكومة عبدالله إبراهيم، وصولا إلى ما (قد) يقع بالنسبة لحزب العدالة والتنمية، بعد حكومة عبدالإله بنكيران، مرورا بالنموذج الأكثر مدرسيةً لهذه المتلازمة: حزب الاتحاد الاشتراكي وحكومة عبد الرحمن اليوسفي.
هل يملك “العدالة والتنمية” القدرة على تعطيل أثر هذه المتلازمة المغربية “القاتلة”؟
على كل حال، بعيدا عن القدرية، أمامه دروس التاريخ، وقائمة الأعراض، والقليل من الوقت لأجل التدبير الذكي لهذا “القانون” المغربي السحري.

إذا كانت الوقائع تؤكد أن فكرة الجبهة الديمقراطية الإصلاحية قد أصبحت جزءا من مرحلةٍ انتهت، وأن فرضية تحول “العدالة والتنمية” إلى حامل لمشروع وطني فوق حزبي قد أصبحت جزءا من الماضي، فإن الحد الأدنى المطلوب للحفاظ على ما تبقى من حزبيةٍ وطنيةٍ مستقلةٍ هو رفع شعار الصمود التنظيمي.

قد يبدو السقف واطئا ومتواضعا، لكن يبدو أن إحدى الأولويات الأساسية للمرحلة هي تحصين البيت الداخلي والوحدة التنظيمية؛ يهم الأمر حزب الاستقلال، تماما مثل ما يعني “العدالة والتنمية” أو “التقدم والاشتراكية”.

أليس ثمّة أمل في الأفق؟ الجواب يحمله عبدالله حمودي، وهو يدعو إلى الانتباه إلى “التراكم السيكولوجي والنفسي والسياسي الموجود الآن في وجدان الناس، وخاصة الشباب. جدلية اليوم توجد بين دينامية التقدّم إلى الأمام ومحاولات إيقاف الحركة أو إبطائها”.