وجهة نظر

هل أضحى المآل السوري فزاعة ترفع في وجه انتفاضاتنا؟

لا يخفى على المتتبع السياسي للشؤون العربية والإسلامية أن النظام في سوريا قبل انتفاضة 2011 كان يحقق نوعا من القفزة الاقتصادية، وكان على وشك تقديم نموذج نهضوي عربي مائة بالمائة. فرغم القدرات الطبيعية المحدودة استطاع النظام هناك تحقيق نوع من الانسجام بين مكونات عرقية ومذهبية مختلفة كما أنه نجح إلى حد بعيد من ضمان أمنه وغذائه وتخليص نفسه من التبعية لصندوق النقد الدولي.. لكن هذا لم يكن يوازيه إلا أنيميا حادة في الحريات السياسية والإعلامية المصفقة للحزب الواحد، وبه عانى الشعب السوري الاعتقال والتنكيل لعقود حتى انتهى الوضع إلى ما هو عليه اليوم.

لم يكن النموذج السوري الذي انتهت إليه الانتفاضة العربية إلا واحدا من نماذج مختلفة، فبعد هروب بنعلي كنموذج أولي سهل الطريق لانتفاضة الشعب المصري، وصمود القذافي لأسابيع زادت من حدة صمود النظام في سوريا لسنوات، هذا الأخير الذي قلب الموازين وحول محاولة إسقاط الأنظمة أو الاحتجاج عليها فزاعة ترفع في وجه كل انتفاضة، فلم تعد فكرة إسقاط الأنظمة مخيفة للأنظمة بقدر ما أصبحت مخيفة للشعوب، فصمود النظام السوري لسنوات في تحالف مع قوى دولية، وخوضه حربا بلا هوادة أهلكت الحرث والنسل لا غالب فيها ولا مغلوب، يغيب فيها الشعب من حسابات التفاوض بالمطلق إذ يوكل الأمر لقوى التحالف الدولي والمصالح الضيقة. كل هذا جعل حجة الخائفين والمرجفين تبدو مقبولة.

وفي المغرب فقط أصبح الناس يخشون أن يخرجوا في مظاهرات تشجب الظلم والقهر والفساد، بل إن منظرا واحدا بهذا الشكل كاف ليرفع المارة جمل الحوقلة وعبارات التفتين والتخويف من الآل السوري. والسؤال الذي نطرحه اليوم هو : هل أضحى فعلا الوضع في سوريا بارومترا تقاس به شدة الحراكات في بيئات عربية وإسلامية متشابهة إلى حد بعيد؟

لا يمكن الجزم طبقا للمعايير الاجتماعية داخل نسق العلوم الإنسانية بأن الوضع السوري هو القياس الحقيقي لكل انتفاضة عربية ممكنة، فإنه لئن تشابه الوضع السوري في بعض جوانبه مع الوضع في كل البيئات العربية الإسلامية فإن فعل الحراك لم يعطنا بالضرورة النتائج نفسها، وهذا مؤشر كاف لدحض يقينية المآل السوري.

ذلك أنه خارج المآل السوري هناك المآل الليبي واليمني والتونسي والمصري والبحريني والمغربي، وهي نماذج حتى وإن ظهرت متشابهة في مسبباتها شيئا ما خاصة في شق التضييق على الحريات والاستحواذ على الثروة والسلطة وفي نتائجها التي لم تكن كما انتظر منها المحتجون، لكنها نماذج تقول لنا إن ما تؤول إليه كل انتفاضة هو عائد إلى المسببات والمحيطات التي تختلف ضرورة من وضع إلى وضع. فهروب بنعلي ليس هو صمود الأسد، وطبيعة الشعب التونسي ونخبه ليس هي طبيعة الوضع الليبي أو اليمني وهكذا دواليك. كما أن البعد أو القرب من الكيان الصهيوني والدول الطائفية لا يقاس بالقرب أو البعد من دول أوروبا والمغرب الإسلامي.

هناك إذن اختلافات عرضية وجوهرية تتوزع بين طبيعة الأنظمة وطبيعة الشعوب وطبيعة الوضع الجغرافي المحيط، هذه الاختلافات هي ما يحتم على الدارس التحوط عن النظرة العامية في محاولة لبناء نظرة علمية طبقا لقواعد العلل والأسباب والنتائج.

نحن لسنا سوريا بالطبع، كما أن وضعنا الجغرافي وتشكيلتنا الشعبية والمذهبية والتاريخية ليست هي نفسها في سوريا.. فما الذي يجعل الكثيرين يحملون انطباعا على أن الوضع حين يخرج عن السيطرة لن يكون أقل دموية وخرابا من الوضع في سوريا الجريحة؟ الأكيد أن هناك أسبابا أخرى وجيهة تجرنا إلى هكذا انطباع.

إن الذين شابهوا بين الوضعين فعلوا ذلك لاعتبار أن المتربصين بالنظام المغربي كثر، وهذه حقيقة، يتوزعون بين قوى حدودية مجاورة وجمعيات انفصالية في الخارج ترفع راية العداء للنظام مطالبة بإصلاحات جوهرية أو لا يروقها النظام الملكي من الأصل أو تصفي بعضا من حساباتها الشخصية، وهي أمور طبيعية.

هذه الاعتبارات وغيرها كثير هي من كانت سببا في العصف بالنظام السوري وإحراجه. هناك أيضا تشابه في طبيعة تعامل النظام السوري مع المحتجين، حيث سيحتم على النظام المغربي الضرب بقوة على أيدي المتظاهرين على طريقة النظام المصري، ولديه ما يكفي من الضمانات الشعبية والدولية ليفعل ذلك، وهو ما يطرح مشكلة طبيعة المتظاهرين ومطالبهم المختلفة المنقسمين بين جماعات دينية وشيوعية وديمقراطية التي تكون مضطرة لامتحان صمود سلميتها في وجه نظام قادر على البطش.

رغم أن المغرب ليس على ما يرام بالنسبة لجيرانه، إلا أنه مقارنة بالوضع السوري فإن موقع المغرب القريب من أوروبا لن يسمح بنشوب حرب مدمرة دولية قريبة منه تكلفه الكثير وتكون مدخلا قريبا للجماعات المتطرفة وسط بيئة محافظة أكثر من المشرق. أضف إلى ذلك أن الولايات المتحدة لن تفرط بالمطلق في حليف سواحله مقابلة للأراضي الأمريكية، وهو ما يفتح المنطقة لجبهة روسية جديدة.

إن ما نسجله بقوة، وهي النقطة الفاصلة في هذا المقال، هو أن الوضع اليوم في المغرب ليس هو الوضع إبان الحراك العربي قبل ست سنوات، حين كان النظام المغربي يعول بشدة على القرب من محيطه الإقليمي والأوروبي، فسقوط الأنظمة وصمود النظام السوري بفضل حلفائه أعطى للنظام المغربي الكثير من الثقة والقوة، فالنموذج التونسي والمصري لم يعد مخيفا، واعتماد أسلوب المواجهة والحرب المديدة بحلفاء مخلصين أضحى خيارا ممكنا يؤتي أكله، وهي الإشارة التي عبر عنها النظام المغربي حين أعاد ثقته بحلفائه في الشرق وأشر عليها بالمشاركة المثيرة للجدل في عاصفة الحزم ضدا على الحلف الإيراني.

إنه رغم كل ما قلناه، فإن السيناريو السوري ليس مستبعدا في المغرب وربما الإقبال على سيناريو آخر مفتوح على كل الاحتمالات لا قدر الله، في وسط شعبي أكثر قدامة ومحافظة وأقل تعليما من الحال في سوريا قبل الحرب. فاختلاف المعطيات لن تعطينا بالقطع نفس النتائج لكن ليس أدناها طبعا، وهو ما يجعل حجة المرجفين والخائفين لا تجانب الصواب.