منوعات

صلاح الدين الأيوبي وتهافت يوسف زيدان 6/5

كان الناصر صلاح الدين، وهو يخوض الحرب، يعرض دائما وأبدا السلم على أعداءه، مما حولهم إلى الإعجاب به والانبهار بسلوكه، فصاروا إلى الآن أبواق دعاية له.وهذا ما لم يفهمه زيدان، أو بالأصح تغافل عنه، فهو لم يسبر أغوار هذه الشخصية ،بل يكتفي بسوق أخبار من السيرة الناصرية وينزعها من سياقها ويعزلها عن الإستراتيجية الشاملة التي كان يقود بها صلاح الدين المعركة مع الصليبيين .ما يعيبه أيضا زيدان على صلاح الدين ،كونه كان متسامحا مع النصارى واليهود، لدرجة إرساله الفاكهة والمثلجات لريتشارد قلب الأسد ،وتعويضه لحصانه الذي قتل بمعركة حطين بحصانين وإخلاءه سبيل الصليبيين، بل ومساعدة العاجزين منهم على افتداء أنفسهم. ويرى ذلك تآمرا من طرفه معهم ضد الحكم المركزي ببغداد. ولكنه غير مصيب في هذا. لأن الخلافة العباسية كانت بدورها قد اهترات، ولا تستطيع شيئا لصلاح الدين في تلك الحقبة التاريخية، لأنه كان فارسها الأوحد الذي يصول ويجول، ويحمي الديار في تلك الفترة. ولأنه كان يقاوم بالسيف وبالمثال.وهو نوع ما من المقاومة أصيل و خاص به رسخه في التاريخ واشته ربه، بالضبط كما ارتبطت المقاومة السلبية بالمهاتما غاندي، وذلك على الرغم من أن العديد من المفكرين الإسلاميين قد لاموا صلاح الدين على نسامحه وتساهله هذا مع الأعداء وعدم تعاقبهم واستئصال شافتهم، لأنهم لم يعاملوه بالمثل، إذ غالبا ما كانوا يعودون بعد إستجماع قوتهم لمحاربته من جديد رغم النذور والوعود التي قطعوها له. أما بالنسبة لليهود، فيكاد زيدان و يا للغرابة يجعله مسؤولا عن قيام كيان إسرائيل سنة 1948 بسماحه لليهود بالسكن بالقدس، هم الذين كانوا ممنوعين من ذلك منذ 400 سنة خلت بمقتضى عهد عمر الفاروق لأهل هذه المدينة من المسيحيين بأن لا يخالطوهم فيها. ولعله لم يصل إلى المعنى من هذه السياسة العمرانية الخاصة بالقدس التي نهجها صلاح الدين المنتصر، فقد كان يريد أن يقدم وجها إسلاميا مغايرا لوجه الاحتلال الصليبي الذي عندما استوطن القدس سنة قام بطرد المسلمين واليهود الذين كانوا قد تسربوا طبعا للعيش هناك ،بالإضافة إلى المسيحيين غير الكاثوليكيين، والغرض من كل هذا تقديم بديل إسلامي لإمكانية التعايش بين الديانات التوحيدية الثلات، مادام الإسلام هو الدين الوحيد الذي يعترف بكلتا الديانتيين الاخريتيين، وتكوين جبهة داخلية قوية تكون دعامة دائمة للسلم.هذا هو الوجه الآخر لصلاح الدين الذي تعمد زيدان ان يحجبه وأن لا يستثمر فيه. وإذا كان هذا شأن صلاح الدين الرحيم بالأعداء، فكيف نفسر شدته على المسلمين من السنة والشيعة على السواء بحسب يوسف زيدان.أولا لا يمكن القبول بهذه الشخصية المزدوجة للناصر صلاح الدين التي يرسمها كاتب النبطي،و التي تنطوي على الشدة مع المسلمين والرحمة مع اليهود والمسيحيين إلا إذا كان صلاح الدين مصابا بانفصام خطير في الشخصية، وهي الحالة المرضية التي يستحيل معها كل ذلك المسار الناجح وتلك المنجزات التي حققها. ثم إنه يتناقض مع التوجيه الالاهي الوارد في القرآن الكريم.(محمد رسول الله والذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم آية2ح سورة الفتح). بل وكيف ينكل صلاح الدين بأولائك الذين سيحارب بهم ؟دون أن يتوقع أن ينفضوا عنه ؟ وهو لابد يعي قول الله تعالى)(ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك آية 159سورة آل عمران).

لقد خاض صلاح الدين الحروب الضرورية لتوحيد أمة الإسلام والشام على وجه الخصوص، بعد اندثار وانشطار الدولة الزنكية لعدة ممالك بين أيدي أمراء صغار الهمة تقعد بهم عن الجهاد، وهي حرب دامت 12 سنة كاملة.لقد كان الوريث الموضوعي لنور الدين محمود زنكي. كان عليه أن ينهي تجزئ البلاد الإسلامية قبل أن يوجه ضرباتها إلى نحور العدو. أن الخصال التي أطرت تعامل صلاح الدين مع الصليبيين هي نفسها مضاعفة من أطرت تعامله وحكمه لرعيته من المسلمين. هذه هي الصورة المتساوقة الممكنة التي يقبلها العقل قبل أن يحققها التاريخ الفعلي كما جرى. إذ يستحيل أن يحقق صلاح الدين تلك التعبئة الروحية لخوض حرب مقدسة طاحنة، وهو يظلم رعيته، ويستعبدها، ويستبد بها ،وهذه الصورة الرائعة هي التي تجعلنا نعود لنجزم انه كان إنسانيا بالتأكيد مع العاضد الفاطمي، ووفيا دون ريب لنور الدين زنكي. و لو كان العكس ما وقع، فهل كان الغرب سينحت له تلك الصورة البهية مع كل هاته الشوائب التي يصر زيدان بإصرار و ظلم ذوي القربى على إلصاقها به في تعامله في أبناء جلدته؟. وإلى هنا يثور السؤال الأخلاقي الذي طرحه ضمن مثالب صلاح الدين :هل استولى صلاح الدين على أموال ومدخرات الدولة الفاطمية ؟. نعم ،فذلك أمر حتمي لأن الدولة الأيوبية هي التي ورثت الدولة الفاطمية. والمؤكد أنه رصد تلك الأموال أو أغلبها لتألف قلوب الجند من المسلمين. وقد يكون صلاح الدين قام بتأميم ممتلكات الفاطميين. فلم ينصب زيدان نفسه ظهيرا للخليفة الفاطمي العاجز المريض دون الشعب المصري؟. هل هذه هي الديمقراطية؟؟.المؤكد أن صلاح الدين لو كان قد استأثر بكل تلك الأموال، ولم يصرفها في تجهيز الجيش، وتنظيم الحملات و تمويل شؤون السياسة والعمران ،ما كان ليسطع نجمه العسكري في الحرب ضد الصليبيين. ولو كان قد كنزها للقي مبكرا مصير المستعصم العباسي من بعده الذي قتله هولاكو، وخزائنه تفيض بالأموال الطائلة، والذهب الكافي، لرد عدوان أضعاف جيش المغول الغزاة .ثم ألم يتساءل زيدان هل كان في حياة الناصر صلاح الدين متسع لنعيم العيش ورغده في قصور مصر، وهو من حارب طيلة 24 سنة 16سنة منها قضاها تحت الخيام العسكرية وفوق ظهور الجياد، لدرجة أنه بعد وفاته قام صديقه القاضي الفاضل بدفن سيفه معه في قبره قائلا: هذا سيفك معك تتوكا عليه إلى الجنة.؟فهل كانت هذه المشاهد الحقيقية مجرد إخراج ووهم انطلى أيضا على مجاييله؟؟.أو مجرد مقطع سقط سهوا من التصوير في فيلم أحمد مظهر العقدة الكبرى لزيدان.
لقد انصرف صلاح الدين إلى بناء المدارس الدينية لتدريس الشريعة الإسلامية، ومنها كان يستوحي أسلوبه الراقي في التعامل مع العدو ومع الأسرى . كما وحد مذهب الأمة في المذهب الأشعري السني، وقد قام بإغلاق الأزهر الشريف كما قال زيدان، والذي كان آنذاك مدرسة إيديولوجية تلقن مبادئ المذهب الشيعي الباطني للدولة الفاطمية التي حكمت مصر لقرنين من الزمن.وكان ذلك إجراء إحترازيا منه، خصوصا وأن هذا الجامع على ما يشير لذلك الكثير من المؤرخين، كان يحمل نقوشا على الجدران تقدح في الخليفتين الأول والثاني أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب رضي الله عنهما. وكانت هذه النقوش من الكثرة بحيث يستحيل إصلاحها أو محوها دون ترميمات وإصلاحات طويلة زمنيا. هذه الإصلاحات التي طالت إلى أن قام الظاهر بيبرس بعد 100 سنة بافتتاحه من جديد، بعد أن طال الأمد بالناس بخلفيته الشيعية، ليكون هو هذا الأزهر السني الذي وصل إلينا.كان صلاح الدين ينفذ سياسة دينية تنسجم وقناعته التي درج عليها كسني منذ نعومة أظافره، و تتماهى مع إخلاصه لنور الدين زنكي وللخلافة السنية في بغداد. لذلك لسنا نرى ما الذي يضير زيدان في ذلك؟؟. خصوصا و أنه كان يجب للإنصاف مناقشة صلاح الدين في سياق عصره، و بمعايير عصره، لا بمعايير هذا العصر. وهذا ما يقصر الكثير من الناقدين التارخيين عنه …… يكفي هذا الآن….. لكن للمقال صلة….