وجهة نظر

هل تمانع اتجاهات السياسة الدولية المشروع الديمقراطي العربي؟

تنشغل القوى الديمقراطية في العالم العربي بسؤال مهم يحدد أو يؤثر بشكل دال على مستقبل المشروع الديمقراطي، ويعين الجواب عنه على تلمس طبيعة الخط السياسي الذي يمكن أن تعتمده في المرحلة الراهنة.

سؤال السياق الدولي والمحيط الإقليمي وهل التحولات الجارية في مسرح السياسة الدولية والاتجاهات الإقليمية تعيق هذا المسار أو تشجعه أو تسمح بمساحات للمناورة؟

في مرحلة الربيع العربي، لم يكن هناك أدنى شك أن المحيط الدولي كان داعما للمسار الديمقراطي مع بعض التوجسات من مستقبل هذا المسار، وطبيعة القوى التي يمكن أن تستفيد منه، وأثر ذلك على المصالح الاستراتيجية الأمريكية والأوربية، كما كانت هناك تخوفات من مخاطر الإدماج السياسي للإسلاميين، وعلامات استفهام كثيرة حول قدرة هذه التجربة على دفع هذه القوى نحو الاعتدال.

وقد شكلت التجربة المصرية منطقة توتر كبيرة فجرت كثيرا من الخلافات بين تقديرات صناع القرار السياسي الدولي، وذلك بسبب ضغط الجغرافية واعتبارات الأمن الإسرائيلي، ونفوذ اللوبي الصهيوني في رسم كثير من متجهات مستودعات التفكير الأمريكية والأوربية المعنية بتوجيه وتأطير السياسة الخارجية.

لكن، بعد تعثر مسار تجربة الانتقال الديمقراطي في دول الربيع العربي، ومآل بعضها إلى التوافق السياسي (تونس والمغرب)، ووقوع بعض الدول في دائرة مخرجات سياسة الفوضى الخلاقة (سوريا وليبيا)، واحتداد الصراعات الإقليمية في اليمن، وبعد أن أصبح العنوان الناظم للسياسة الدولية هو اللانظام، وبعد تراجع دور أمريكا في قيادة العالم والتباس سياستها الخارجية في عهد إدارة ترامب.

فضلا عن بروز انقسامات حادة في السياسة الأوربية، وبروز أدوار أخرى لفاعلين دوليين في مسرح السياسة الدولية، وتغير كثير من قواعد الأحلاف والشراكات الاستراتيجية التقليدية، بعد كل هذه المؤشرات، أصبح سؤال أثر الوضع الدولي والمحيط الإقليمي في المسار الديمقراطي مشوبا بكثير من الغموض والالتباس.

ثمة قراءات تحاول أن تنطلق من واقع ما يحدث من تطورات في كل من سوريا وليبيا واليمن، فضلا عن استحضار التجربة المصرية، وتحشد إلى جانب ذلك ظاهرة صعود اليمين المتطرف في أوربا، وظاهرة صعود ترامب، وانهيار الأحزاب التقليدية في الغرب، وهيمنة جماعات ولوبيات المصالح على مسرح السياسة، للتأشير على أن السياسة الدولية تسير في اتجاه معاكس للديمقراطية.

وأن مسؤولية القوى الديمقراطية في هذه المرحلة يتجه لحفظ المكتسبات أو تحصين الأهم منها أكثر مما ينبغي أن ينصرف إلى مراكمة المسار والتقدم خطوات فيه، وأن الأنظمة السياسية ربحت مرتين، الأول بحدوث تحولات دولية وإقليمية خففت الضغط عليها في مجال الديمقراطية وحقوق الإنسان، والثاني بالمكتسبات التي حققتها القوى الديمقراطية التي صعدت إلى الحكم سواء على مستوى إعادة الثقة أو بعضها للسياسة أو على مستوى تحقيق بعض العافية للاقتصاد الوطني والتخفيف من اختلال التوازنات المالية الكبرى للدولة.

إلى جانب ذلك، ثمة قراءة أخرى معاكسة، تحاول أن تلطف من تعقيدات الوضع الدولي والإقليمي، وتخفف من أثره، وتفرد السياق القطري بمساره الخاص الذي يستوجب قراءة حيثياته بعيدا جزئيا عن تأثيرات الوضع الدولي، وتعطي للبعد الانتخابي دورا حاسما في رسم خارطة الفعل الديمقراطي.

والحال، أن القراءتين معا بغض النظر عن النتائج المترتبة عنهما، تحتاجان إلى إعادة ترتيب معطيات السياسة الدولية والإقليمية وتحليل متجهاتها واستخلاص أثرها على الوضع الداخلي فضلا عن انعكاساتها على مستقبل المشروع الديمقراطي في الوطن العربي.

والتقدير أن التحولات التي تعرفها السياسة الدولية والمحيط الإقليمي لا تقدم أي مؤشرات قطعية على وجود اتجاه لإيقاف المشروع الديمقراطي، فكل ما تدل عليه معطيات السياسة دوليا هو تراجع أولوية دعم الديمقراطية، في مقابل عدم وضوح خارطة المناطق المشمولة بسياسة الفوضى الخلاقة، وهو ما يضع الدول العربية برمتها في سياق إشكالي يرتبط بفك معادلة الأسبقيات وكيفية تدبير أولوية تجديد الأنظمة لمشروعها السلطوي، وفي الوقت ذاته البحث عن خيارات تحصينها من الوقوع ضمن رقعة مناطق التوتر وذلك بسبب عدم القدرة على تأمين الاستقرار السياسي.

فإذا انضاف إلى ذلك حيثيات ومعطيات الوضع الاقتصادي والاجتماعي الداخلي، وتباين الأقطار العربية على هذا المستوى، وأيضا على مستوى توقع حجم الحركات الاحتجاجية المستقبلية، ومدى قدرة السلطة السياسية على احتوائها، تصير المعادلة أكثر ضيقا. ولعل هذا بالضبط ما يفسر التباين البين في سياسات الدول العربية في التعاطي مع المسار الديمقراطي.

إذ في الوقت الذي اتجهت فيه بعض الأنظمة لتجديد مشروعها السلطوي بأدوات خارج السياسة (مصر)، لجأت أخرى إلى البحث عن توافقات طوعية أو قسرية لتأمين الاستقرار السياسي من جهة، وضمان الحد الأدنى من استمرار المسار الديمقراطي ولو في جانبه الشكلي (المغرب وتونس) من جهة ثانية، فيما لا تمنع التحولات الجارية في السياسة الدولية والمحيط الإقليمي بعض الدول من تكثيف الطلب على مزيد من الديمقراطية كما يحصل في موريتانيا.

أما القوى الديمقراطية داخل العالم العربي، فقد وقعت هي نفسها ضمن إسار هذه المعادلة، واختلف التقدير عندها بين من يقرأ في معطيات السياسية الدولية اتجاها نحو إجهاض التجارب الديمقراطية في العالم العربي، وفرملة تجربة إدماج الإسلاميين، وبين من يقرأ في صراع مكوناتها ونقاط التوتر فيها توفر هوامش للقرار السياسي العربي، يسمح للأنظمة في التفكير في خيارات تجديد مشروعها السلطوي دون الإضرار بالاستقرار السياسي أو الوقوع في دائرة الأقطار المشمولة بسياسة الفوضى الخلاقة، كما يسمح للقوى الديمقراطية أن تقوم بترتيب تكتيكاتها من أجل تحقيق تراكم أكبر في المسار الديمقراطي.

تقدم الوقائع أكثر من مؤشر على هذا التباين في السياقات العربية، إذ بقدر ما تقدم الحالة المصرية نموذجا لوجود مؤشرات لعرقلة التجربة الديمقراطية في العالم العربي، يوفر السياق الموريتاني مؤشرات على عدم وجود أي ممانعة دولية للاتجاه العربي نحو الديمقراطية، فيما تقدم تونس والمغرب نماذج لأشكال تكيف السلطة السياسية مع تقلبات الوضع الدولي ومع اتجاهاتها وتمتعها بقدر من استقلالية القرار السياسي سمح لها بإمكانية تجديد المشروع السلطوي دون الاضطرار للإجهاز الكلي على مرتكزات المسار الديمقراطي.

خلاصة تحليل معطيات السياسة الدولية وتحولات المحيط الإقليمي أنه من الصعب الحكم بحالة عامة تخترق المجال العربي بكامله، وأن الحالات تتباين بدرجة قربها أو بعدها من مربع تفاعل وتناقض الإرادات الدولية المتصارعة، وأن حالة الفوضى واللانظام وتعدد الفاعلين في مسرح السياسة الدولية جعل هامش المناورة مفتوحا بالنسبة للأنظمة والقوى الديمقراطية على السواء.

لكن ذلك ليس دائما على إطلاقه، فهناك من جهة سقف الخوف من الانفلات الذي يهدد الاستقرار وإمكان وقوع الدول في دائرة الدول المشمولة بسياسة الفوضى الخلاقة، وهناك سقف الخوف من تأثير الانفلات على التوازنات الاستراتيجية في المنطقة أو على أمن واستقرار الدول في الجوار أو في الضفة المتوسطية الشمالية، وهناك من جانب ثالث قوة ومناعة الاقتصاد الوطني ومدى قدرته على تلبية جزء هام من تطلعات شرائح المجتمع، وهناك من جانب آخر أيضا قدرة المشهد السياسي على استيعاب الحراك الاجتماعي وإمكان توسع الحركات الاحتجاجية.

بعبارة أخرى، مسؤولية القوى الديمقراطية اليوم، خاصة في الدول البعيدة عن مربع صراع وتناقض الإرادات الدولية، أن تعيد قراءة وضعها الداخلي، وأن ترتب خطها السياسي ليس بمنطق الحفاظ على المكتسبات أو بعضها، ولكن بمنطق مراكمة مزيد من المكتسبات، لكن مع الوعي الحذر بالسقوف المؤطرة والتوظيف الذكي لإكراهاتها على الأنظمة السلطوية.

نقلا عن عربي21