منوعات

بويخف يكتب: مقاربة تفسير البعد التدميري في دينامية “الولاية الثالثة”

خصصنا المقالات الثلاثة السابقة من سلسلة (“البيجيدي” على مفترق الطرق بين السياسة والديموقراطية) لمقاربة الخسائر الفادحة التي تكبدها حزب المصباح وسيتكبدها من جراء الدينامية المرتبطة بما اصطلح عليه بـ”الولاية الثالثة”. وتم رصد مظاهر البعد “التدميري” للدينامية المرتبطة بها ، من جهة اولى، في الانزلاقات اللاأخلاقية التي عرفها الجدل الدائر في اوساط “البيجيديين” والتي أضرت بصورة الحزب بشكل غير مسبوق. ومن جهة ثانية، في “التطرف” الذي عرفته الرغبة في تعديل القانون الأساسي للحزب، والتي استسهلت تعديل مادة خاصة بشكل يضرب في الشرعية الديموقراطية للقرار الذي قد يترتب عنها، ناهيك عن الشرعية القانونية لذلك التعديل كما سنقف عندها لاحقا. من جهة ثالثة، في “إرباك” الإعداد للمؤتمر الثامن مما جعله بدون رهانات حقيقية. ومن المفيد في هذا المقال محاولة تفسير كيف انزلقت تلك الدينامية إلى هذا الطريق المكلف جدا؟ وكيف استحكم منطق دخيل على أدبيات الحزب ومبادئه في جزء من أعضائه؟ وكيف تشكل ما يشبه تيارا شبابيا يريد ولاية ثالثة للأستاذ ابن كيران مهما كلف الثمن؟

في يناير من سنة 2016 كتبنا مقالا بعنوان (فخ الولاية الثالثة لابن كيران: هل تجنبه الحزب؟) وكان ذلك قبل قرار المجلس الوطني و المؤتمر الاستثنائي للحزب تأجيل المؤتمر الثامن، وقبل الانتخابات التشريعية الأخيرة، وقبل البلوكاج الذي تلاها، وقبل عزل الأستاذ ابن كيران، وقبل ميلاد الموجة الحالية التي تطالب بتلك “الولاية الثالثة”، وقبل أن تتخذ لجنة المساطر في الحزب قرارها الشهير باعتماد تعديل المادة 16 المعنية في القانون الأساسي في انتظار مصيرها في المجلس الوطني المقبل. بمعنى أن الموقف الذي ندافع عنه لا علاقة له بالاصطفافات الجارية داخل الحزب، ويتعلق بمبدأ أصيل يتعلق بنقد السعي نحو الالتفاف المؤسساتي على الشرعية الديموقراطية والقانونية والانحراف عن الديموقراطية الداخلية للحزب. لكن كيف جاءت فكرة “الولاية الثالثة” في ذلك الوقت، وكان يناصرها قياديون يقفون اليوم ضدها؟

كان النقاش الجاري بين قيادات الحزب في فترة كتابة ذلك المقال مؤطر بردة فعل الحزب على قرار وزير الداخلية تأجيل تاريخ إجراء الانتخابات التشريعية إلى ما بعد تاريخ الانعقاد العادي لمؤتمر الحزب. وفُهم حينها أن جهات في الدولة تستهدف شخص الأستاذ ابن كيران بذلك التأجيل، على اعتبار أن انتهاء ولايته الأخيرة قانونا سوف يفسح المجال لأمين عام جديد يمكن اختياره رئيسا للحكومة بدلا منه. وكان رد فعل الحزب أن أجل مؤتمره إلى ما بعد الانتخابات التشريعية، وطُرحت فكرة التمديد للأستاذ ابن كيران حينها في ولاية ثالثة لضمان أمرين استمراره كرئيس للحكومة وتجنب أن يكون الحزب برأسين، لكن مخاض “الولاية الثالثة” حينها لم يصل إلى مستوى متقدم يكرسها بتعديل المادة 16 في المؤتمر الاستثنائي. والمقال المشار إليه يسجل تراجع النقاش الحاد السائد قبيل انعقاد المجلس الوطني الذي صادق على مشروع قرار تأجيل المؤتمر الثامن، وقبيل انعقاد المؤتمر الاستثنائي في اليوم الموالي وصادق على القرار. لكن كان واضحا حينها أن مطلب “الولاية الثالثة” لم يكن قط مجرد “كبوة” في النقاش، بل كان مشروعا سياسيا عند من كان يراهن عليه، لذلك احتفظ المقال بالصيغة التي جاء بها عنوانه رغم انتهاء النقاش بعد التأكيد الرسمي للحزب أن لا شيء مما له علاقة بموضوع “الولاية الثالثة” مطروح في أجندة المجلس الوطني حينها. والحديث عن الفخ أملته دلالات ذلك “المشروع”، إذ رغم ما يظهره من لمعان سياسي، فهو يؤسس لضعف الحزب الداخلي، ليس على مستوى ديموقراطيته الداخلية ومصداقيته فحسب، بل على مستوى تماسكه الداخلي أيضا، وهو ما يتأكد اليوم بمؤشرات مقلقة.

والذي تغير في طرح “الولاية الثالثة” بعد البلوكاج وإعفاء الأستاذ ابن كيران، هو أنها تحولت إلى دينامية ضاغطة من خارج الحزب ومؤسساته، وإلى ظاهرة مقلقة حول مستقبل الديموقراطية الداخلية، وما يتعلق بحرية الرأي والحق في الاختلاف، وما يتعلق بتحرير الجدل من العنف الرمزي بكل درجاته. وسؤال كيف وصلت الأمور إلى هذا المستوى يستحق الدراسة لفهم التطرف في اعتماد المقاربة السياسية الشخصانية في التعاطي مع مسألة تنظيمية وقانونية دقيقة تعتبر من أسس الديموقراطية الداخلية. وأهمية هذا الفهم تتجاوز الجدل حول “الولاية الثالثة” إلى التنبيه إلى ما تعنيه تلك الظاهرة لمستقبل الحزب.

لقد وضع الحزب بقيادة الأستاذ ابن كيران نفسه في “طنجرة الضغط العالي”، وأحكم إغلاقها بنفسه بعد أن وضعها على نار متقدة من المواقف والتنازلات، التي تزيد من اشتعال نيرانها وارتفاع ضغطها مع كل صدمة من الصدمات التي يتلقاها أعضاء الحزب من تطورات المشهد السياسي.

وكان دخول تلك “الطنجرة” وإحكام إغلاقها قد انطلق من مرحلة الحملة الانتخابية، حيث سجل كل متابع لخطابها أنه قسم المشهد الحزبي والسياسي تقسيما صارما إلى جبهتين، الأولى “جبهة الإصلاح” وهي مقاومة للفساد والاستبداد والتحكم ويتزعمها حزب المصباح، والثانية “جبهة الفساد” وتضم أحزاب التحكم بزعامة حزب الجرار. وساهمت الممارسات السلطوية المفسدة للعملية الانتخابية، والتي بلغت اوجها بمسيرة “ولد زروال” الشهيرة، في تكريس تلك الثنائية، وتعزيز الانطباع أن كل جهود جبهة السلطوية موجهة ضد حزب المصباح.

التقسيم الثنائي المشار إليه سابقا نشطه الأستاذ ابن كيران، الذي قرر قيادة الحملات الانتخابية لحزبه في جل مناطق المغرب، مما كرسه لا شعوريا كزعيم لجبهة مقاومة الفساد والاستبداد، ليس عند أعضاء حزبه فحسب بل عند شريحة مهمة من المغاربة. وكان لمستوى التعبئة العالي الذي انتهجه أثر كبير في بث حماسة عالية الشحنة في أعضاء الحزب ومتعاطفيه. لكن خاصية تلك الشحنة العالية التوتر هي أنها موجهة لرفض أحزاب “جبهة الفساد” جملة وتفصيلا، وهي أنها تولد عنها شعور عام وعارم بكون حزب المصباح برئاسة الأستاذ ابن كيران هو مركز “الحل”.

وبعد ظهور نتائج الانتخابات التشريعية بالخصوص ساهمت “تحليلات” سياسية فوق واقعية في توجيه الانتظارات الحماسية نحو سيناريو افتراضي هو تشكيل تحالف حكومي بما سمي إعلاميا بـ”الكتلة التاريخية” بزعامة حزب المصباح، وحصرت “التحالفات المنطقية” وفق ذلك السيناريو في حزب المصباح وحزب الاستقلال وحزب الاتحاد الاشتراكي وحزب التقدم والاشتراكية. وبناء على حسابات “الخيال السياسي” فتلك الكتلة، التي لم تخرج يوما عن نطاق التحليلات النظرية، تملك أغلبية مريحة (تقريبا 203 مقعد من أصل 395) وهو ما عمق الإيمان بالسيناريو الذي يقارب المشهد السياسي من خلالها.

المسار “السيكولوجي” الذي رسمنا معالمه الكبرى في الفقرات السابقة هو الذي دخل عبره حزب المصباح تدريجيا “طنجرة الضغط العالي” وأحكم إغلاقها على نفسه بالأوهام السياسية الكثيرة، والتي فصلنا فيها في مقالات سابقة، وعلى رأسها تضخم الشرعية الانتخابية في النفوس حد الغرور بأرقامها، على حساب المشروعية المرتكزة على موازين القوة.

والزخم العاطفي المتراكم لأبناء البيجيدي إلى حدود تعيين الأستاذ ابن كيران رئيسا للحكومة مكلفا بتشكيلها، كان مشحونا بجرعة عالية من الحساسية المفرطة تجاه أي تنازلات سياسية. لكن سيتلقى صدمات عاصفة، سوف تغذي فيه نزعة الرفض القريبة من العدمية.

وكانت أولى تلك الصدمات موقف الأستاذ ابن كيران القاضي بكون حزب الأحرار، المصنف ضمن أحزاب الإدارة، طرف أساسي في الحكومة التي كلف بتشكيلها، و”انتظاره الشهير” قرابة شهر من العمر الذهبي لتشكيل الحكومة كي يعقد حزب الحمامة مؤتمره ويختار زعيمه. وهذا الموقف أربك الصورة الوردية التي استحكمت في النفوس والتي تدور حول حكومة من أحزاب “الكتلة التاريخية”، لتحل محلها صورة قاتمة مضطربة تتغذى من سيناريوهات تحالفات الاكراهات السياسية الغارقة في البراغماتية، والتي تتناقض مع “روح” التعبئة العامة التي خضع لها أبناء البيجيدي. مند تلك اللحظات أخذت أحلام البيجيديين المشحونة ضد أحزاب التحكم، تغرق في الأوحال المتحركة لسياسة فرضها المشهد الحزبي الهش والضعيف، وهي تتمسك بقشة صناديق الاقتراع في بحر موازين القوة والتنازلات، والتي دشنها الأستاذ ابن كيران نفسه بـ”الانتظار الشهير”.

والصدمة الثانية التي أفقدت البيجيديين، قواعد وقيادات، توازنهم العاطفي في التعامل مع معطيات الساحة السياسية وتطوراتها، هي الاشتراطات التي رفعها زعيم حزب الحمامة الذي انتظر الأستاذ ابن كيران توليته قيادة حزبه، والبلوكاج الشهير الذي نتج عنها. وكانت مرحلة البلوكاج الذي دامت قرابة نصف السنة، قد أفقدت قواعد الحزب وعموم المهتمين بالشأن الحكومي والسياسي الثقة في الانتخابات وفي المؤسسات، واشتد التوجه الراديكالي الرافض في اوساط شباب الحزب. وشحنت تلك المرحلة أعضاء الحزب بشحنة عالية التوتر بحمولة رافضة.

والصدمة الأخرى التي فاقمت من التوتر العالي لشحنة الرفض في اوساط البيجيديين تتعلق بقرار الملك إعفاء الأستاذ ابن كيران من مهمة تشكيل الحكومة وتكليف الدكتور العثماني بدلا منه بها، وتفاعل الحزب الإيجابي معه بقبول الاستمرار في تشكيل الحكومة. وهذا المستجد كان صادما لقواعد الحزب الذين رأوا فيه تنازلا خطيرا، ورأوا في الأستاذ ابن كيران ضحية لممارسات تحكمية مهينة، فخرج من رحم هذا الوضع الجديد توجه لا يتعاطف فقط مع ابن كيران بل لا يرى بديلا غيره، لذلك لما أغلق باب رئاسة الحكومة، توجه الاهتمام إلى “فتح / كسر” باب قيادة الحزب من جديد.

إن من الطبيعي أن يتم تفريغ الشحنة الرافضة المتفاقمة خلال مرحلة البلوكاج، وأن ذلك التفريغ إما أن يتم في سياقات بانية ( قوة الاستقطاب) أو في سياقات مدمرة (الانكفاء، معاداة الحزب، … او البحث عن كبش فداء).

والشحنة العالية التوتر التي تركزت في نفوس وأدهان البيجيديين لو اتخذ الحزب قرار الاعتذار للملك والانسحاب من الحكومة، لسمح لها بأن تصرف بشكل طبيعي خارج الحزب على شكل قوة استقطاب هائلة ترفع من شعبيته، وتساهم بشكل فعال في رفع معنويات الأعضاء لمواصلة المسار الذي كرسه الأستاذ ابن كيران خلال الحملة الانتخابية وخلال فترة البلوكاج، ولكانت نتيجتها قوية وبانية، خاصة على مستوى الكسب السياسي في بعده الجماهيري، مما قد يربك كل الحسابات الانتخابية الممكنة وعلى مدى متوسط على الأقل.

لكن قبول الحزب بقرار إعفاء الأستاذ ابن كيران، وتعويضه بالدكتور العثماني جعله في وضعية ضعيفة أمام الرأي العام من جهة، وأمام تلك الشحنة الداخلية الرافضة/المعارضة، من جهة ثانية. وهذا ما جعل تفريغ تلك الشحنة خارج الحزب أمرا صعبا، فتم التوجه نحو تفريغها داخل الحزب بسهولة. وانطلق ذلك برفض كل التنازلات التي قام بها د العثماني وصنفت في أعلى درجات الخطورة والانبطاح، واعتبر السيد أخنوش رئيس الحكومة الفعلي، ووضعت جميع مبادرات الحكومة ورئيسها موضع التنقيص والسخرية…

لقد اتخذ تفريغ تلك الشحنة العالية التوتر داخل الحزب عدة أشكال حسب مستوى الأعضاء ونوعيتهم، لكنها تلتقي في نتيجة واحدة وهي وضعية الضعف غير مسبوقة التي يوجد عليها الحزب، سواء على مستوى مشاركته في الحكومة، أو على المستوى الداخلي. ومن بين أشكال تفريغ تلك الشحنة العالية التوتر، نذكر ثلاثة من أهمها:

الأولى، الانزلاقات اللاأخلاقية في الجدل، والتي بلغت حد تخوين القيادات المشاركة في الحكومة.

الثانية، تنزيل ثنائية تقسيم المشهد الحزبي بين جبهتين على أعضاء الحزب، حيث تم تقسيمهم إلى تيار يشايع ابن كيران، يقدم نفسه على أنه التيار المناضل داخل الحزب، الرافض للتنازلات، والمقاوم للفساد والاستبداد. و”تيار الاستوزار” الذي يُتهم ببيع الحزب مقابل المناصب، وبتهديد استقلاليته، بل وبتنفيذ أجندة التحكم في حزب المصباح.

الثالثة، السعي إلى تتويج التشبث بالأستاذ ابن كيران كزعيم روحي وسياسي ينبغي رد الاعتبار له، بتمكينه من ولاية ثالثة على رأس الحزب ضدا على قانون الحزب وعلى الديموقراطية الداخلية.

إن عدم استحضار ما سبق في مقاربة دينامية “الولاية الثالثة” لا يساعد على فهم واستيعاب البعد المدمر فيها، والذي لا تعتبر الولاية الثالثة للأستاذ ابن كيران إلا مركز استقطابها. مما يطرح الأسئلة الكبرى عن سيناريوهات مستقبل ومآل البعد التدميري في تلك الديناميكية بعد المجلس الوطني للحزب ومؤتمره الثامن؟ والمدخل الطبيعي لمقاربة ذلك هو تقييم مدى استعداد دعاة “الولاية الثالثة” لتقبل نتائج تلك الاستحقاقات حين تعاكس طموحاتهم، خاصة وأن فرصة تمكين الأستاذ ابن كيران من ولاية ثالثة، مع ما تعنيه من “طحن” للديموقراطية الداخلية، معدومة قانونا كما سنقاربه في المقال المقبل بحول الله. مما يطرح السؤال حول الأشكال الأخرى التي قد يستلزمها تفريغ ما قد يتبقى من تلك الشحنة العالية التوتر في أوساط الشباب، بعد المؤتمر الثامن الذي ينتظر أن يخرج بأمين عام جديد غير ذ ابن كيران، بالمساطر الداخلية للحزب او بقرار من القضاء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *