وجهة نظر

“دكان شحاتة “

منذ ولجت القاعة و أنت شاردة الذهن، كنت تبدين لي و كأنك فاقدة للوعي، لم أكن لحظتها أدري ما كان يشغلك ، يبدو أن صراعك كان مع الزمن خاصة وانك كنت تراقبين ساعة هاتفك المحمول، وكنت كلما هممت برفع عيني في وجهك أرى القلق يستبد بك، في سينما كاميرا التي احتضنتنا معا لم نستمتع بأحداث الشريط المعروض و لا موضوعه الرئيسي، كان يبدو لي أنه يخص زنا المحارم أو خيانة الأقارب.
حين التفت إلي صديقي الذي كان يجلس على جانبي رأيت وجهه و قد علته مسحة من الحزن، لست أدري ماذا حصل؟؟ كان مصرا على الرحيل، أيقنت حينئذ أنه لا مجال لمتابعة الفيلم، فلا جدوى من ذلك …… ربما سوء تفاهم حصل …….هكذا كنت أتصور …..سوء تفاهم ليس إلا …. انزويت جانبا،و امتصصت غضبي كما هي عادتي و انخرطت في متابعة ما يجري داخل الفيلم غير مكترث بما وقع خاصة وأنني أعددت مايكفي للحضور في الوقت المناسب، فألغيت جميع التزاماتي لأجل أن أكون في المكان و الموعد.

كنت بمدينة فاس، ولم أجد وسيلة نقل غير حافلة أشبه بعربة مجرورة بحمار منهك، داخلها اختلطت علي الأجواء، لم أكن أبالي لا بالبرد و لا بالحرارة، كان همي أن أصل سالما لأشارك الأصدقاء متعة مشاهدة الفيلم التي لا يقدر بثمن، على طول الطريق تذكرت الأمطار و هي تتساقط بمدينةخنيفرة ،استرجعت و نفسي لحظات عصية على النسيان بمقهى النافورة، ما كنت أملك غير ابتسامة صفراء أقاوم بها ما حصل، حقا ما حصل لايستحق كل القلق الذي تملكني….. تذكرت أشعارا و قصائد ..أحكما و أمثالا، حقا ظلم ذوي القربى أشد مضاضة.

كنت أحلل ما حصل دون أن أجد جوابا لذلك و أبحت يائسا عن أفعالي التي ولدت ردود أفعال صديقي دون جدوى، فاختلطت علي الأفكار و كأنها الموج يتلاطم داخل رأسي، كانت عروقي تغلي و قلبي يعتصر. لست ماضويا حين أتذكر، الذاكرة تاريخ إنسان، طبعا الإنسان هو الكائن الذي يتذكر ماضيه لأنه يحن إليه و عاشه أولا بأول و لحظة بلحظة و مات لأجله “عرق بعرق”.

“كن ما كنت عزيز ما نخرج عندك في هذا الشتاء” قالتها بكل ثقة وصمود، كانت حلمي و كانت تحملني دائما إلى المقهى و أنا محمل بالتفاصيل الدقيقة جدا، كان صوتها الأنثوي الرخيم يخترق أذناي بنعومة، فأحس أن مشاعري تهتز، و فؤادي يصفق لها في جوف ليال باردة لأنها كانت الدفئ وسط البرودة المتراكمة تلك، معذرة لك سيدتي …… معذرة على لحظات الاحتراق تلك.

“دكان شحاتة” فرق بين الإخوة فجعلهم أعداء، أحسست بمعاني الاحتقار و المهانة التي يتعرض لها الإنسان حين يفقد الحماية، فتضيع سنوات عمره الزاهرة بين الجدران و القضبان…..
هل حقا يجب أن نكون متسامحين إلى الحد الذي يمكن أن تذوب ذواتنا في الآخرين؟ هل ينبغي لنا أن ننصهر حد التماهي مع الأقرباء حتى نفقد هويتنا؟ لم ينته الفيلم بعد، الانتقام و التسامح يتصارعان منذ أول ظهور للإنسان، قابيل قتل أخاه هابيل، هي جريمة، أول جريمة في الأرض، هذه لعبة القدر بل إنها المعادلة الصعبة في الحياة أو توازنها المختل.

انتهى العرض الذي كان بداخله عرض آخر، أناس حضروا القاعة، إنهم اشتروا الظلام، عشاق يبحثون عن اختلاس لحظات حميمية خلال الليل، الليل وحده يخفي الأشياء و الوجوه بينما النهار يكشف و يفضح، توزع العشاق على كل الجهات داخل القاعة و جلهم فضل الانزواء في ركن سحيق لا حدود له، أحيانا يتناولون الشوكولاته و الحلوى و حبيبات عباد الشمس أو اليقطين يبدأ التلامس و الاحتكاك لبدء سرقة قبلات.

أشعلت الأضواء و اختفى الرجل الذي كان يحمل المصباح كي يوصل زبائن محتملين لكراسي “بانورامية” تسمح برؤية كل الفضاء الداخلي، الرجل يحمل مصباحا متهالكا ببطاريتين زرقاوين ” للعود الأبيض” ظننت أنه يحمل مصباح علاء الدين و لكن ؟؟؟

خرجت مع صديقي و طوال الطريق الموصلة إلى الهديم كنا نتحادث عن الفيلم عن البطل الذي خرج من السجن الذي كاده له إخوانه و رغم ذلك كان متسامحا، من قال إن الحب يغلب الكراهية كان صادقا، تسكعنا كثيرا كما هي عادتي القديمة قبل أن يستقر رأينا على الذهاب إلى مقهى نرجس بالزيتون لمتابعة مباراة فريقي المفضل ريالمدريد…. كنت حينها منتشيا بفوز فريقي المفضل هكذا كان يومي موزعا بين الشاشة الكبيرة و الصغيرة.

وصلت الساعة الحادية عشرة ليلا استقلنا سيارة أجرة، قاومت النوم كثيرا جراء تعب اليوم لكن غلبني النعاس، حين أكون منهكا أفقد القدرة على الكلام و الحركة لأكون مضطرا أن أسند جسدي إلى كرسي وثير أو أريكة دافئة، لم أعرف ما الذي حدث على طول الطريق و السائق يقطع الكيلومترات ” إربا إربا”، و يطوي المسافات، وبعد مدة كانت لكلماته وقع في أذني و هو يقول ” على سلامتكم” ترجلت و هدير وادي أم الربيع يوذن لي أن الرحلة انتهت ….. إننا في محطة الوصول.

لم أستوعب ما حدث، أحقا أني كنت أحلم ؟ هل ما وقع حقيقة؟ حينئذ استحضرت “دكان شحاتة” و تطلعت إلى “قصر شهرزاد” كان ليلا حالما، لكن لا أزال أقول هل كنت أبني قصرا من رمل يهدمه الموج سريعا؟ أكنت واهما و أنا أبني قصرا من وهم.

لحد الآن لازلت أبحت عن فك لغز هذه الحالة التي استعصى علي فهمها و التي تتوزع بين الحقيقة المطلقة و التمثلات الصعبة التي تختزن الأمل و الألم في آن واحد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *