منتدى العمق

المرأة والمشاركة في المجتمع

هذا من أهم المباحث التي أسالت الكثير من المداد خاصة بين المؤيدين والمعارضين لقضية مشاركة المرأة داخل الصف الإسلامي، فبين مؤيد لمشاركتها واستناده إلى جملة من النصوص والأدلة الشرعية، ومعارض لهذا المسار، واضعا تلك النصوص في حدود ضيقة، ومستدلا بما يراه قاطعا بمنع وحضر تلك المشاركة، وفي كلا الأمرين لا بد من إيراد مقولات الفريقين لاختيار ما يسعى هذا البحث إلى نصرته وترجيحه.

للأسف الشديد، لا بد من التذكير بحقيقة مهمة، مفادها أن المرأة المسلمة عاشت في ظل الإسلام أبهى عصورها، حيث نالت من الحقوق ما لم تنله قبلها امرأة في عصور وصفت بالزاهرة كالعصر اليوناني والروماني، وقد حصلت على تلك الحقوق، ونعمت بتلك الكرامة دون حاجة إلى مظاهرات، أو ندوات، أو مؤتمرات تعقد باسمها، وتصرف في سبيلها الأموال، بل كان كل ذلك منة إلهية على الإنسان بصفة عامة، وعلى المرأة بصفة خاصة، لكن لم ينظر إلى المرأة من خلال هذا التكريم الإلهي، وما نعمت به في ظل الإسلام الذي حررها من كل ألوان القهر والظلم الذي تجرعته خلال قرون خلت، بل نظر إليها من خلال التقاليد التي سطت على كرامتها، وانتقصت من أنوثتها، وحصرت وظيفتها في المتعة المادية والاستيلاد الحيواني.

وقد نشأت عن هذه التقاليد القائمة على ظلم المرأة تقاليد ثانوية أخرى تخضع لها المرأة من المهد إلى اللحد، وتصيبها بهزال شديد في جسمها وعقلها ودنياها ودينها.

وكانت النتيجة الطبيعة لهذا الانحدار، أن تحولت المرأة عن دينها وعقيدتها، باحثة عما يريها بريقا من الحياة والأمل، وقد وجدت في الغرب ما يغريها بالارتماء بين أحضانه، ولأن تقاليد الغرب تعتمد على:

1 – التسوية المطلقة بين الرجل والمرأة في المكانة المادية والأدبية.
2 – إقامة المجتمع على الاختلاط التام وترك المرأة تتقلب فيه كما تشاء!.
3 – النظر إلى الناحية الجنسية على ضوء الاستقلال الشخصي والتصرف الطبيعي.!( ).

المرأة المسلمة رهينة المحبسين: الجهل والقهر

هذه العودة غير الميمونة لتقاليد المهانة والاستخفاف التي التصقت بالمرأة في العصور التي سبقت الإسلام، وجدت من يبررها بنصوص وأدلة، وهكذا شاع في تراثنا، للأسف الشديد، الترويج لمرويات مرفوضة من قبل المحققين لتبرير وضعية المرأة، وجعلها رهينة المحبسين: الجهل والقهر.

وللتدليل على ما تعانيه ثقافتنا من ثقوب وفجوات، وما يحتاجه تراثنا من نقد علمي رصين ودقيق لنفي الغبار الذي لحق به، هذه بعض من تلك المرويات.
فقد أورد الحاكم عن عائشة رضي الله عنها، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تنزلوهن الغرف ولا تعلموهن الكتابة» يعني النساء «وعلموهن المغزل وسورة النور»، قال الحاكم: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه( )، وقد ورد النص في كثير من كتب الحديث( )، لكن المحققين رفضوه، قال الشوكاني: وفي إسناده محمد بن إبراهيم الشامي، قال الدارقطني: كذاب( )، وقال الذهبي مستدركا على تصحيح الحاكم لهذا الحديث: بل موضوع وآفته عبد الوهاب بن الضحاك. قال أبو حاتم: كذاب( ).

وإن كان ابن حجر قد ذكر أن له متابعات، مما يشعر بتقويته( )، كما اعتبره الألباني حديثا موضوعا( ).

لكن هذا الحديث بقي يحكم المجتمع في تعامله مع المرأة، مع العلم أن كتب الفقه والتفسير والحديث لم تخضع للنقد والتمحيص، وتمييز النقول الصحيحة من المنكرة إلا في القرن العشرين، وليست هذه الكتب في متناول خلق كثير، إضافة إلى المستوى الثقافي الذي لا يسمح للمرأة المسلمة بالاتصال المباشر مع مصادر دينها الصحيحة، كل هذا شكل عاملا مهما ضمن عوامل أخرى لترويج تلك النقول الضعيفة والموضوعة.

ومن النصوص التي كان لها الوقع السيء على المرأة المسلمة، ما روي عن نبهان، أن أم سلمة حدثته قالت: كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة، فأقبل ابن أم مكتوم حتى دخل عليه، وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «احتجبا منه» فقلنا: يا رسول الله، أليس أعمى، لا يبصرنا ولا يعرفنا؟ قال: «أفعمياوان أنتما، ألستما تبصرانه؟»

هذا الحديث رواه أبو داود( )، والترمذي( )، وأحمد( )، وغيرهم، قال الترمذي هو حديث حسن، لكن المحققين ضعفوا الحديث، فقد ضعفه الألباني في «مشكاة المصابيح»( )، و«في ضعيف سنن الترمذي»( )،وقال معلقا: ضعيف عند المحققين من الحفاظ كالإمام أحمد والبيهقي وابن عبد البر، ونقل القرطبي أنه لا يصح عند أهل الحديث، وعلى ذلك جرى كثير من الحنابلة من المقادسة وغيرهم، وهو الذي يقتضيه علم الحديث وأصوله( ).

وعلى هذا الحديث المريض المردود وغيره من الأحاديث الموضوعة والضعيفة قام المجتمع الإسلامي حقبا من الدهر مات فيها نصفه( )، لأن المرأة المسلمة نصف المجتمع، فكيف به وبنصفه الآخر إذا كانت المرأة فيه على هذا النحو.

يقول محمد الغزالي متجهما من هذا الموروث الذي ينتقص من قدر المرأة المسلمة: إن تقاليد المسلمين في معاملة النساء لا تستند إلى كتاب أو سنة.. وقد نشأ عن ذلك أن المثقفات في العصر الحديث تجهمن للتراث الديني كله يحسبنه السبب في تجهيل المرأة، وهضم مكانتها، وإنكار حقوقها المادية والأدبية التي قررتها الفطرة وأكدها الوحى وبرزت أيام حضارتنا واستخفت مع انتشار القصور وغلبة الأهواء( ).

وهكذا لم تعامل المرأة بتعاليم الإسلام خلال قرون مضت!

لقد فرضت عليها الأمية وحظرت عليها المساجد، وأقصيت إقصاء حاسما عن ميادين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وقطعت صلاتها بشئون الإسلام الحضارية والسياسية والعسكرية، بل مسها الضيم في شئونها الخاصة وأمست لا تحسن إلا الخدمة البيتية والغرائز البدنية، واتسعت مسافة البعد الروحي والعقلي بينها وبين النساء في سلفنا الأول كما تتسع المسافة بين الإنسان والحيوان( ).

ومن أمثلة ذلك ما نجده في كتب الفقه والتفسير والحديث من أحكام تزري بالمرأة المسلمة، وهذه نماذج:

قال أبو بكر العربي: “والمرأة كلها عورة؛ بدنها وصوتها، فلا يجوز كشف ذلك إلا لضرورة أو لحاجة، كالشهادة عليها، أو داء يكون ببدنها، أو سؤالها عما يعن ويعرض عندها”( ).

ومع ذلك يصف ابن العربي واقع المرأة المسلمة بغير ذلك، يقول:
“ولقد دخلت نيفا على ألف قرية من برية، فما رأيت نساء أصون عيالا، ولا أعف نساء من نساء نابلس التي رمي فيها الخليل عليه السلام بالنار، فإني أقمت فيها أشهرا، فما رأيت امرأة في طريق، نهارا، إلا يوم الجمعة، فإنهن يخرجن إليها حتى يمتلئ المسجد منهن”( ).

وقال الكاساني:
“وأما النسوة فهل يرخص لهن أن يخرجن في العيدين؟ أجمعوا على أنه لا يرخص للشواب منهن الخروج في الجمعة والعيدين وشيء من الصلاة؛ لقوله تعالى: []( )، والأمر بالقرار نهي عن الانتقال، ولأن خروجهن سبب الفتنة بلا شك، والفتنة حرام، وما أدى إلى الحرام فهو حرام”( ).

ويقول القرطبي في تفسير هذه الآية السابقة:
معنى هذه الآية الأمر بلزوم البيت، وإن كان الخطاب لنساء النبي صلى الله عليه وسلم فقد دخل غيرهن فيه بالمعنى. هذا لو لم يرد دليل يخص جميع النساء، كيف والشريعة طافحة بلزوم النساء بيوتهن، والانكفاف عن الخروج منها إلا لضرورة( ).

المرأة المسلمة في عصر الرسالة

تلك التأويلات السالفة لا تتناغم مع نصوص أخرى، فمن الطرائف أن امرأة كريمة موسرة كانت تصنع وليمة بعد الجمعة يحضرها من شاء، روى البخاري عن سهل بن سعد قال: «كانت فينا امرأة تجعل على أربعاء في مزرعة لها سلقا، فكانت إذا كان يوم جمعة تنزع أصول السلق، فتجعله في قدر، ثم تجعل عليه قبضة من شعير تطحنها، فتكون أصول السلق عرقه، وكنا ننصرف من صلاة الجمعة، فنسلم عليها، فتقرب ذلك الطعام إلينا، فنلعقه وكنا نتمنى يوم الجمعة لطعامها ذلك»( ).

هذه امرأة مؤمنة سمحة تدخل السرور على الناس بما آتاها الله من فضله! ولو فعلت ذلك في عصرنا لأنكر المتزمتون عليها! ولقال كل جريء على الفتوى: كيف يُلقى عليها السلام؟ وكيف ترده؟ وكيف تلقى الضيوف؟

لقد تحدث الهدي القرآني عن دائرتين من دوائر المشاركة والاشتراك والارتفاق بين الرجال والنساء( ):

الأولى: هي دائرة الأسرة، وهي اللبنة الأولى في بناء الأمة، والخلية التي يبدأ بها الاجتماع الإنساني.
الثانية: دائرة المشاركة في العمل الاجتماعي العام.

ولو عدنا إلى عصر الرسالة، سنجد المرأة المسلمة مشاركة في المجتمع مشاركة فعالة، إلى جانب الرجل، فالمرأة المسلمة شريكة الرجل في تعمير الأرض أكمل عمارة وأطهرها، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول: «النساء شقائق الرجال»( )، لذا كان لا بد لها من المشاركة بجد واحتشام في مجالات الحياة، هذه المجالات بطبيعتها لا تخلو من وجود الرجال، بل للرجال في معظمها الدور الأكبر، وعند استعراض صحيح البخاري، سنجد أن أبوابه وتراجمه دالة على هذه المشاركة، قال ابن الملقن( ): ولقد صدق من قال: «إن فقه البخاري في تراجمه» ذلك أن تراجم الصحيح تعطي الصورة الواضحة والدليل القاطع، على مقدرة البخاري وسعة علمه، وقوة حفظه ودرجة تفوقه في فهم الكتاب والسنة، واستنباط الأحكام منهما، والاستدلال لأبواب أرادها من الأصول والفروع، والزهد والرقائق، واستخراج فقه الحديث وماله صلة بالحديث المروي فيه، فكان فيها كما قال عنه ابن حجر: “استخرج بفهمه من المتون معاني كثيرة، فرقها في أبواب الكتاب بحسب تناسبها، واعتنى فيه بآيات الأحكام فانتزع منها الدلالات البديعة، وسلك في الإشارة إلى تفسيرها السبل الوسيعة”( ).

وهكذا باستقراء صحيح البخاري من خلال أبوابه، سيكون حضور المرأة المسلمة في مجالات المجتمع ملفتا، وهذا مسح لحضورها من خلال تلك الأبواب:
كتاب العلم( ):
باب عظة الإمام النساء وتعليمهن
باب: هل يجعل للنساء يوم على حدة في العلم؟
كتاب الصلاة( ):
باب نوم المرأة في المسجد
باب خروج النساء إلى المساجد بالليل والغلس
باب صلاة النساء خلف الرجال
باب سرعة انصراف النساء من الصبح وقلة مقامهن في المسجد
باب استئذان المرأة زوجها بالخروج إلى المسجد
كتاب الجمعة( ):
باب فضل الغسل يوم الجمعة، وهل على الصبي شهود يوم الجمعة، أو على النساء
كتاب العيدين( ):
باب خروج النساء والحيض إلى المصلى
باب موعظة الإمام النساء يوم العيد
باب إذا لم يكن لها جلباب في العيد
باب اعتزال الحيض المصلى
باب إذا فاته العيد يصلي ركعتين، وكذلك النساء، ومن كان في البيوت والقرى
أبواب الكسوف( ):
باب صلاة النساء مع الرجال في الكسوف
أبواب العمل في الصلاة
باب التصفيق للنساء
كتاب الجنائز( ):
باب قول الرجل للمرأة عند القبر: اصبري
باب اتباع النساء الجنائز
كتاب الحج( ):
باب طواف النساء مع الرجال
باب حج المرأة عن الرجل
كتاب صلاة التراويح( ):
باب اعتكاف النساء
باب اعتكاف المستحاضة
كتاب البيوع( ):
باب البيع والشراء مع النساء
كتاب الشهادات( ):
باب شهادة النساء
باب شهادة المرضعة
باب تعديل النساء بعضهن بعضا
كتاب الجهاد( ):
باب الدعاء بالجهاد والشهادة للرجال والنساء
باب جهاد النساء
باب غزو المرأة في البحر
باب حمل الرجل امرأته في الغزو دون بعض نسائه
باب غزو النساء وقتالهن مع الرجال
باب حمل النساء القرب إلى الناس في الغزو
باب مداواة النساء الجرحى في الغزو
باب رد النساء الجرحى والقتلى إلى المدينة
باب إرداف المرأة خلف أخيها
باب دواء الجرح بإحراق الحصير، وغسل المرأة عن أبيها الدم عن وجهه، وحمل الماء في الترس
كتاب فرض الخمس( ):
باب أمان النساء وجوارهن
كتاب التفسير( ):
باب []( )
باب []( )
كتاب النكاح( ):
باب قول الرجل لأخيه: انظر أي زوجتي شئت حتى أنزل لك عنها؟
باب عرض المرأة نفسها على الرجل الصالح
باب عرض الإنسان ابنته أو أخته على أهل الخير
باب الدعاء للنساء اللاتي يهدين العروس وللعروس
باب النسوة اللاتي يهدين المرأة إلى زوجها ودعائهن بالبركة
باب ذهاب النساء والصبيان إلى العرس
باب قيام المرأة على الرجال في العرس وخدمتهم بالنفس
باب لا يخلون رجل بامرأة إلا ذو محرم، والدخول على المغيبة
باب ما يجوز أن يخلو الرجل بالمرأة عند الناس
باب نظر المرأة إلى الحبش ونحوهم من غير ريبة
باب خروج النساء لحوائجهن
باب استئذان المرأة زوجها في الخروج إلى المسجد وغيره
كتاب الطلاق( ):
باب إذا قال لامرأته وهو مكره: هذه أختي، فلا شيء عليه
باب شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم في زوج بريرة
كتاب المرضى( ):
باب عيادة النساء الرجال
كتاب الطب( ):
باب: هل يداوي الرجل المرأة أو المرأة الرجل
باب في المرأة ترقي الرجل
كتاب الأدب( ):
باب الساعي على الأرملة
كتاب الاستئذان( ):
باب تسليم الرجال على النساء، والنساء على الرجال
كتاب الحدود( ):
باب الرجم بالمصلى
باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت
باب البكران يجلدان وينفيان
كتاب الديات( ):
باب قتل الرجل بالمرأة
باب القصاص بين الرجال والنساء في الجراحات
كتاب الأحكام( ):
باب من قضى ولاعن في المسجد
باب بيعة النساء
كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة( ):
باب تعليم النبي صلى الله عليه وسلم أمته من الرجال والنساء مما علمه الله، ليس برأي ولا تمثيل
باب التلاعن في المسجد
ويمكن إيراد بعض النصوص الشاهدة على سبيل التمثيل لا الحصر:
1 – عن أنس رضي الله عنه، قال: «لما كان يوم أحد، انهزم الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: ولقد رأيت عائشة بنت أبي بكر، وأم سليم وإنهما لمشمرتان، أرى خدم سوقهما تنقزان القرب، وقال غيره: تنقلان القرب على متونهما، ثم تفرغانه في أفواه القوم، ثم ترجعان فتملآنها، ثم تجيئان فتفرغانها في أفواه القوم»( )
2 – عن سهل، قال: لما عرس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما صنع لهم طعاما ولا قربه إليهم إلا امرأته أم أسيد، بلت تمرات في تور من حجارة من الليل «فلما فرغ النبي صلى الله عليه وسلم من الطعام أماثته له فسقته، تتحفه بذلك»( )
3 – عن عائشة، أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة، وعك أبو بكر وبلال رضي الله عنهما، قالت: فدخلت عليهما، قلت: يا أبت كيف تجدك؟ ويا بلال كيف تجدك؟( )
4 – عن سهل، قال: «كنا نفرح يوم الجمعة» قلت: ولم؟ قال: ” كانت لنا عجوز، ترسل إلى بضاعة – قال ابن مسلمة: نخل بالمدينة – فتأخذ من أصول السلق، فتطرحه في قدر، وتكركر حبات من شعير، فإذا صلينا الجمعة انصرفنا، ونسلم عليها فتقدمه إلينا، فنفرح من أجله، وما كنا نقيل ولا نتغدى إلا بعد الجمعة»( ).
اعتراضات وردود
بالرغم مما ذكر، فإن هناك من يرى أن هذه النصوص وقعت في ظروف خاصة، وهي وإن وقعت فإنما لضرورة ليس إلا، وفي المقابل نجد نصوصا قاطعة بلزوم المرأة المسلمة لبيتها، وضرورة الاحتجاب عن الرجال، وهذه النصوص في نظر هؤلاء لا تبيح مشاركة المرأة المسلمة في المجتمع إلا في الحدود القصوى.
ويورد معارضو مشاركة المرأة المسلمة نصوصا عدة يرونها قاطعة في منعها من المشاركة في الحياة الاجتماعية ولقائها الرجال.
ومن تلك الاعتراضات ما يلي( ):
1 – النصوص الواردة بشأن فعل الرسول صلى الله عليه وسلم هي من خصوصياته
2 – وقائع لقاء الصحابة النساء تعتبر وقائع أعيان لا عموم لها
3 – وقائع اللقاء الواردة في السنة كانت لضرورات شرعية، والضرورات تبيح المحضورات
4 – مجتمع العهد النبوي تؤمن فيه الفتنة بعكس مجتمعاتنا المعاصرة يكثر فيها الانحلال الخلقي وتشتد فيها الفتنة
وقد استند المعارضون على أدلة من الكتاب والسنة، وهذا أوان فحصها وتدقيق النظر في بعضها:
النص الأول: قوله تعالى: []( ):
اعتمد المعارضون لمشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية هذه الآية دليلا لمنعها من الخروج، لكن سياق الآية يفيد تخصيصها بأمهات المؤمنين، هذا النص إذن خاص بنساء النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا فكيف بخروج النساء إلى المسجد، والجهاد في سبيل الله، وما قيمة النصوص التي ساقها البخاري حول مشاركة المرأة المسلمة في الحياة الاجتماعية ولقائها الرجال، قال ابن حجر:
“قوله تعالى []، فإنه أمر حقيقي خوطب به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، ولهذا كانت أم سلمة تقول: لا يحركني ظهر بعير حتى ألقى النبي صلى الله عليه وسلم، والعذر في ذلك عن عائشة أنها كانت متأولة” ( ).
وقال ابن عطية:
“فأمر الله تعالى في هذه الآية نساء النبي بملازمة بيوتهن”( ).
وقال ابن الجوزي:
“قال المفسرون: ومعنى الآية: الأمر لهن بالتوقر والسكون في بيوتهن وأن لا يخرجن”( ).
النص الثاني: قوله تعالى: []( ):
المقصود بالحجاب هنا ليس اللباس التي تلبسه المرأة المسلمة، وإنما المقصود الستر الذي تجلس خلفه المرأة المحجبة.
قال القاضي عياض:
“فرض الحجاب مما اختص به أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، فهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك لشهادة ولا غيرها، ولا يجوز لهن إظهار شخوصهن وإن كن مستترات إلا ما دعت إليه الضرورة من الخروج للبراز، قال الله تعالى: []، وقد كن إذا قعدن للناس جلسن من وراء الحجاب، وإذا خرجن حجبن وسترن أشخاصهن”( ).
وقال ابن جزي:
و”هذه الآية نزلت في احتجاب أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، خصصن بذلك دون سائر النساء”( ).
وقال ابن بطال:
“إن الحجاب ليس بفرض على نساء المؤمنين، وإنما هو خاص لأزواج النبي، كذلك ذكره الله في كتابه بقوله: []”( ).
وقال ابن قتيبة:
“إن الله عز وجل أمر أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم بالاحتجاب؛ إذا أمرنا أن لا نكلمهن إلا من وراء حجاب، فقال: []، وهذه خاصة لأزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم، كما خصصن بتحريم النكاح على جميع المسلمين”( ).
وقال الطاهر بن عاشور:

“هذا أمر خصصن به، وهو وجوب ملازمتهن بيوتهن توقيرا لهن، وتقوية في حرمتهن، فقرارهن في بيوتهن عبادة، وهذه الآية تقتضي وجوب مكث أزواج النبيء صلى الله عليه وسلم في بيوتهن وأن لا يخرجن إلا لضرورة”( ).
وقد أورد صاحب كتاب «تحرير المرأة في عصر الرسالة» نصوصا من البخاري ومسلم وغيرهما تفيد اختصاص لفظ الحجاب بأمهات المؤمنين( ).
النص الثالث: قول عائشة رضي الله عنها: لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل( ).
للإشارة، فإن قول عائشة رضي الله عنها هنا جاء في مورد الزجر، لا في مورد ما يشبه النسخ لقوله صلى الله عليه وسلم: «لا تمنعوا النساء حظوظهن من المساجد، إذا استأذنوكم» فقال بلال: والله، لنمنعهن. فقال له عبد الله: «أقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وتقول أنت: لنمنعهن»( ).
لكن المعارضين يستدلون بهذا الحديث على منع النساء المساجد، وللعلماء كلام في تأويل هذا الحديث:
قال ابن حجر:
“وتمسك بعضهم بقول عائشة في منع النساء مطلقا وفيه نظر؛ إذ لا يترتب على ذلك تغير الحكم لأنها علقته على شرط لم يوجد بناء على ظن ظنته… ولو كان ما أحدثن يستلزم منعهن من المساجد لكان منعهن من غيرها كالأسواق أولى”( ).
وجاء في المدونة:
“قلت: فهل كان مالك يكره للنساء الخروج إلى المسجد أو إلى العيدين أو إلى الاستسقاء قال: أما الخروج إلى المساجد فكان يقول لا يمنعن”( ).
وقال ابن حزم:
“فلم يوح قط إلى نبيه – صلى الله عليه وسلم – بمنعهن من أجل ما استحدثنه، ولا أوحى تعالى قط إليه: أخبر الناس إذا أحدث النساء فامنعوهن من المساجد؛ فإذ لم يفعل الله تعالى هذا فالتعلق بمثل هذا القول هجنة وخطأ؟
ووجه ثالث: وهو أننا ما ندري ما أحدث النساء، مما لم يحدثن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا شيء أعظم في إحداثهن من الزنى، فقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجم فيه وجلد، فما منع النساء من أجل ذلك قط، وتحريم الزنى على الرجال كتحريمه على النساء ولا فرق؛ فما الذي جعل الزنى سببا يمنعهن من المساجد؟ ولم يجعله سببا إلى منع الرجال من المساجد؟ هذا تعليل ما رضيه الله تعالى قط، ولا رسوله صلى الله عليه وسلم”( ).
وهكذا تتهافت هذه الأدلة التي اعتمدت في غير موقعها، وبالتالي تتهافت أطروحة سجن المرأة في البيت ومنعها من المشاركة في المجتمع.
لكن مشاركة المرأة المسلمة تلزمها آداب، يمكن سردها كالتالي( ):
(أ) غض البصر: فإن أثمن زينة للمرأة هو الحياء، وأبرز عنوان للحياء هو غض البصر.
(ب) عدم الاختلاط بالرجال اختلاط تلاصق وتماس، كما يحدث ذلك في دور السينما ومدرجات الجامعات وقاعات المحاضرات ومركبات النقل ونحوها في هذا الزمان.
(ج) أن تكون ملابسها موافقة لأدب الشرع الإسلامي.
(د) أن تلتزم الوقار والاستقامة في مشيتها وفي حديثها وتتجنب الإثارة في سائر حركات جسمها ووجهها.
(هـ) ألا تتعمد جذب انتباه الرجال إلى ما خفي من زينتها بالعطور أو الرنين أو نحو ذلك.
خلاصة
كان ذلك رصدا تفصيليا لأهم ما التبس بعالم المرأة المسلمة من تقاليد، بعضها يجد مستنده في نصوص فهمت على غير سياقها، أو في ذهول عن مصدرها وسبب ورودها، وقد نتج عن ذلك أن تدحرجت مكانة المرأة المسلمة إلى الوراء، وعادت إليها الأغلال والقيود، ولكن هذه المرة باسم الدين والعفة والأصالة، فكان ذلك وبالا على الأسرة وعلى المجتمع برمته.
وقد كانت مساهمات العلماء العدول كبيرة، في تنقية تراثنا الإسلامي مما علق به من فهوم منكرة، أولئك الذين أنيطت بهم مهمة جسيمة، تتقصد ملاحقة تأويل الجاهلين، وانتحال المبطلين، وتحريف الغالين( ).

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *