وجهة نظر

العروي.. قصة مدينة كولونيالية تم الإجهاز على معالمها التاريخية (6/1)

نوستالجيا فرانشيسكو أرينازا
الأمة التي تحفظ تاريخها، تحفظ ذاتها..
راشد رستم

السيد فرانشيسكو ديل باريو أرينازاFrancisco Del Barrio Arenaza من الأصدقاء، الذين تعرفت عليهم قبل بضع سنوات، عبر إحدى الشبكات الإجتماعية. وقد تمتنت صداقتي ومعرفتي به مع مرور الوقت، نتيجة التواصل المستمر فيما بيننا. وهو في الأصل ابن أحد المستوطنين الإسبان الغجر، الذي كان يستقر بشرق منطقة الريف، إبان فترة الحماية الإسبانية على المنطقة. ولد بمدينة العروي سنة 1943، وتلقى دراساته الأولية بالمدرسة الموحدة للأطفال Escuela Unitaria De Ninos وبعدها بالمدرسة الإسبانية بالعروي El Colegio Espagnol، التي تحتل مقرها حاليا، مدرسة ابن زيدون الإبتدائية. ترعرع بالمدينة والمناطق المجاورة لها، إلى أن بلغ سنه الرابعة عشر، حيث غادرها رفقة أسرته بعد استقلال البلاد، ورحيل المعمرين . ولذلك، فهو مُتيم بحُب المدينة، وعاشق لها حد الجنون. يتحدث عنها بحب وشوق وحنين، وأحيانا بألم صارخ غير معلن. عارضا على جداره الإجتماعي، كنزا من الوثائق والصور التاريخية، الخاصة بالمدينة خلال عهدها الإستعماري وحتى بعده. صور تستعرض جانبا غنياً من أهم المعالم المعمارية الكولونيالية الإسبانية بمدينة العروي، سواء منها التي مُسحت مسحاً وطُمست طمساً. أو تلك التي لا زالت صامدة منها تقاوم وتصارع من أجل البقاء. وكذا النشاط الإقتصادي الذي كان سائدا بها، والحياة الإجتماعية للمستوطنين خلال تلك الفترة، وعلاقاتهم بالسكان الأهالي. ناهيك عن جوانب أخرى متعددة، من تفاصيل الحياة وتلاوينها. ولا زال الرجل من فرط حبه للمدينة، يتردد عليها في زيارات متواترة. مُنقاداً لِوَلعه وعشقه الكبير لها، ومتفقدا لأصدقائه القدامى بها، من الذين لا زالوا على قيد الحياة.

تبادلتُ مع الرجل بعض المراسلات، حول جوانب من تاريخ مدينة العروي ومآثرها ومعالمها الكولونيالية. وحفزته على إمكانية جمع ما تختزنه ذاكرته من أحداث، وما يحتويه أرشيفه من صور ووثائق تخص هذه المدينة، وتوثيق كل ذلك في مؤلف ما، حتى لا يضيع هذا الإرث النفيس. علما أن الرجل متقدم في السن، ويمكن لرحيله في أي وقت، أن يمثل خسارة فادحة، ويؤدي إلى ضياع هذا الكنز التاريخي، الذي يهم المدينة. غير أن الرجل اعتذر بلباقة وإقناع، متحججاً من جهة بشيخوخته، ومن جهة أخرى بالتغير المستمر الذي يطرأ على مزاجه، وكذا افتقاره إلى الحيوية اللازمة، التي يتطلبها مثل هذا العمل.

معرفة الرجل بتفاصيل المدينة وتاريخها الكولونيالي، وتطوراتها ومواقعها وشخوصها مثيرة للدهشة. فهو يعرف حكاية كل مَعْلم من معالمها، وقصة كل مكان من أمكنتها، ووقائع كل موقع من مواقعها وكل ركن من أركانها، بشكل يدعو إلى التعجب. ميزة الرجل أنه ليس كغيره من المستوطنين، حاملي الفكر العنصري الإستعماري. فهو يؤمن بأهمية التعايش بين الشعوب والأديان، والحضارات إيمانا شديدا. كما أنه ناقم على السياسة الإستعمارية الإسبانية في الريف، ومستنكر لها، ولحرب الغازات الكيماوية غير الأخلاقية، التي شنتها على ساكنة المنطقة. فقد قال لي مرة، في إحدى رسائله بالحرف: “في تاريخ الشعوب، دائما ما يوجد أحمق ما، يقود شعبه إلى الكارثة.. مما يشجع على اندلاع الحروب الملعونة”. هذه الأخيرة، التي قال عنها أيضا: “الحروب هي الرعب للأمهات، اللواتي يعانين الأمرين (طبعا خوفا على فلذات أكبادهن)”.

لا يتردد الرجل في التأكيد على رفضه للإرث الثقيل، الذي خلفته السياسة الإستعمارية الإسبانية في حق ساكنة الريف. كما لا يكف عن التعبير عن حبه الكبير لمدينة العروي وأبنائها، بطرق متعددة. سواء من خلال عرضه كمّاً هائلا من الوثائق المصورة، لتاريخها وحاضرها ومعالمها وشخوصها، وحياتها متعددة الأبعاد، تِباعا على صفحته في الشبكة الإجتماعية، كما سبق. أو من خلال تعاليقه، وشروحه، وإضافاته الكثيرة المتعددة، إلى هذه الوثائق. أو من خلال زياراته التي لا تنقطع إليها كما سلف. فهو لا يتردد في نعت ساكنة مدينة العروي “بالأصدقاء الإخوة” “Amigos-hermanos”. والتعبير عن ارتباطه الكبير بالمدينة. حيث يقول: “في سنة 1957 غادرت جبل العروي.. لا أستطيع نسيانها، ولا أريد نسيانها”. “En el año 1957 sali yo de Monte Arruit.. No lo puedo olvidar y ni quiero olvidarlo.” كما لا يكل ولا يمل من إعلان حبه وشغفه وعشقه الغامر لها، واعتزازه بها بقوله: “أحمل العروي في قلبي”، “Llevo a Arruit en mi corazón” . “لن تنمحي من ذهني سوى بعد مماتي”، ” solo se borrará de mi mente cuando muera”.

لكن الرجل أيضا، لا ينفك يعبر عن حزنه الدفين، وألمه البالغ، لما آل إليه حال معالمها التاريخية الكولونيالية بالتحديد. ولو أنه ألمٌ وحزن مضمر غير مُعلن، يعمل على لملمته وكتمانه. لكنه يحاول التعبير عنه، كلما سنحت له الفرصة لفعل ذلك، من خلال عقد مقارنات لحال بعض تلك المعالم، في مختلف الأمكنة، بين الماضي والحاضر. اعتمادا على الصور، باعتبارها أكثر تشخيصا ونطقا بحقيقة ما وقع. كل مكان بصورتين متباينتين، لحال المَعْلم التاريخي سابقا، ووضعه الحالي.

وعلى سبيل المثال لا الحصر، عقده مقارنة معبرة جدا، بين صورتي الكنيسة الكاثوليكية للعروي، التحفة الهندسية الكولونيالية الرائعة من جهة. ومن جهة أخرى، مركز بريد المغرب بالمدينة الذي حل محلها، وبُني على أنقاضها، بقسوة جارفة لا تحتمل. في صورة غاية في التأثير والبشاعة. ومقارنات أخرى لأمكنة متعددة، إن كانت لا تكشف عن إجهاز صارخ على المعالم التاريخية للمدينة، فهي تكشف على حجم الندوب الكثيرة التي لحقتها. والناتجة عن الجهل والإهمال واللامبالاة. مع أن المجال الترابي والوعاء العقاري للمدينة كان، ولا زال، واسعاً مترامي الأطراف، يسمح بإمكانية إقامة مختلف المرافق الحديثة، دون المساس بإرثها التاريخي، وتعريضه للمسح والمسخ والتشويه والاتلاف.

نوستالجيا الرجل لماضي المدينة وتاريخها ومعالمها، حرك في قلبي ووجداني وأعماقي، فيضاً من الحنين والشوق إلى ماضي المدينة البسيط والجميل. وغير قليل من الأشجان والآلام والمواجع، تجاه ما لحق إرثها المعماري التاريخي الكولونيالي، الذي كبرنا في أحضانه، وترعرعنا ونحن صغارا بين معالمه. ما لحقه من إهمال وتدمير وإجهاز.

شوق وحنين إلى ماضي المدينة التليد الرائع، وأيامها الخوالي، على بساطتها، ورتابتها، وسكينتها. أيام مرحلة الطفولة والمراهقة في الستينيات والسبعينيات. حنين لمدينة كانت تتنفس عبق التاريخ، وتحيى طمأنينة باذخة، على إيقاع بساطة أهلها، وطيبوبتهم الصارخة في ذاك الزمن الجميل. مدينة صغيرة، هادئة، حالمة حد الإلهام. كانت أشبه ما تكون بقطعة من أحياء مدن أندلسيا Andalucia الإسبانية. لا في تصميمها الجميل، الذي تتخذ فيه الشوارع الواسعة نسبيا، أشكالا متوازية ومتعامدة. كما كان ذلك يتمظهر بجلاء، في الحي الكولونيالي، الواقع بين السوق الأسبوعي غربا، والكنيسة/البريد شرقا. والمقر السابق للقوات المساعدة وشارع الحسن الثاني شمالا، و”درب اليهود” جنوبا. ولا في معالمها العمرانية المتعددة، ذات الطابع الإقتصادي، والإجتماعي، والديني، والأمني.. التي كانت تعج بها، إلى جانب المعمار المحلي البسيط آنذاك، الذي كان يحيط بالأحياء الكولونيالية في شكل حزام محدود محتشم..

كما حرك حنين الرجل وأنينه تجاه المدينة في نفسي، من جهة أخرى، أشجانا ومواجع تنهش الفؤاد. مردّها ما آل إليه هذا الإرث التاريخي، من تخريب وإتلاف وإجهاز وضياع. حتى أن معظمه أصبح أثرا بعد عين. وما بقي منه، لا زال يصارع أخطار الجهل واللامبالاة وانعدام المسؤولية، من أجل الصمود والبقاء. وذلك، نتيجة تظافر و”تواطؤ” عوامل الطبيعة وعوادي الزمن المختلفة من جهة. ومن جهة أخرى، تسلط الإنسان وعبثه وإصراره على الإهمال والتهميش. وتربص بل تهافت لوبي العقار وأطماعه وجشعه، الذي لا يميز بين ثقافة ولا تاريخ ولا تراث.

هي معالم تاريخية كانت تؤثث مواقع المدينة وأركانها المختلفة. ألفناها خلال مرحلة طفولتنا وصبانا. واعتدنا رؤيتها، كجزء من طوبوغرافيا معمار المدينة ومآثرها، وتركيبتها الحضرية. وأحببناها ببراءة وصدق. برغم أنها كانت ـ ولا زال ما بقي شاهدا منها ـ تحكي ألما حارقا، وترمز إلى جرح نازف، بالكاد تمت لملمته بعد استقلال البلاد. جرح عهد استعماري جاثم بغيض ولـّى. وما واكبه من تسلط، واستغلال كريه مقيت. لكن برغم خلفيتها ودلالاتها الإستعمارية البغيضة تلك، كنا نريدها أن تظل صامدة شامخة، تحكي للآجيال الحالية واللاحقة، من أبناء المدينة والوطن عن قرب وكثب، حكاية وطن اغتُصِب ذات لحظة ضعف وهوان. وظل يدفع الثمن ردحاً مديدا من الزمن. مِن حريته، ودمه، وإنسانه، وآلامه، وخيراته، وفضاءاته، ومساحاته وأرضه. كنا نريدها أن تبقى كذلك، لأننا ندرك أن “الهندسة المعمارية، كما يوضح المعماري رشيد الأندلسي، تحكي كل شيء، تفضح جميع ما نريد ستره، يمكن قراءة التاريخ من خلالها.. إنها ذاكرة يجب الحفاظ عليها وإنقاذها..”. عساها تحكي لأبنائها اليوم وغدا، حكاياتها ويومياتها الكولونيالية القاسية الأليمة.

وعليه، كان ينبغي لمسؤولي بل وحتى لساكنة المدينة بجميع مكوناتها، العمل ليس فقط من أجل الحفاظ على موروثهم المعماري هذا، ولكن العمل أيضا على أن يدمجوه “في سرديات وحكايات هوياتهم وأفقهم المستقبلي، وفي مكونات تاريخ المدينة، وتراثها المجتمعي..” كما يقول الباحث الأنتربولوجي محمد الصغير جنجار، عن مدينة الدار البيضاء. ذلك لأن العهد الكولونيالي للمدينة، هو بقوة التاريخ وحقائق الجغرافيا، جزء لا يتجزء من هويتها وإرثها التاريخي وسيرورتها.

(يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *