وجهة نظر

العروي: قصة مدينة كولونيالية تم الإجهاز على معالمها التاريخية (6/3)

نوستالجيا فرانشيسكو أرينازا

مرافق اقتصادية تشمل:

الحي التجاري:

وكان يشمل شارع محمد الخامس (حاليا) الشارع الرئيسي في عروي العهد الإستعماري، في امتداده من شارع الحسن الثاني شمالا، وصولا إلى منعطف درب اليهود جنوبا، وكل الشوارع التي تتقاطع أو تتوازى معه (شارع عبد الكريم الخطابي ـ شارع المسيرة الخضراء ـ شارع المجاهدين..) وكان يتكون من متاجر عديدة متماثلة عمرانيا، هندستها ناطقة بمميزات العهد الكولونيالي. شكلت امتداداً لمتاجر المستوطنين المختلفة في العهد الإستعماري (بقالات ـ حانات ـ وراقات ـ مخابز ـ محطات وقود ـ صالات حلاقة ..).

وقد ظل هذا الحي، يلعب نفس الدور التجاري تقريبا بعد استقلال البلاد. كما ظل يحتفظ بخصائصه المعمارية الكولونيالية، إلى حدود نهاية السبعينات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي. قبل أن تبدأ آلة الهدم والتشويه والتغيير عملها الدؤوب. الذي طمَس الوجه التاريخي لهذا الحي التجاري، وكاد يجهز عليه تماما وبالكامل. برغم بقاء بعض المتاجر والبنايات المعدودة المحدودة، ماثلة تقاوم عوادي الزمن والمناخ، وأيادي التخريب. وهي في معظمها حاليا مشبعة بالرطوبة والهشاشة، وفي حالة سيئة للغاية، أغلبها آيل للسقوط. من دون أن يحرك ذلك ساكنا، أو متحركا، لدى المعنيين بالأمر، سواء من أصحاب القرار المحلي، أو من غيرهم..

السوق الأسبوعي:

لا زال يحتل مساحة واسعة، في قلب المدينة، تثير لعاب وشهية، بل وجشع لوبي العقار المتربص. ولا زال يلعب نفس الدور التجاري القديم، مع تغييرات استوجبتها التحولات والتطورات الحالية. خاصة على مستوى طبيعة الوظائف التي كان يؤديها، موازاة مع وظيفته التجارية. ناهيك عن بعض الإضافات المعمارية المشوهة والمقززة، التي أدخلت عليه، وأدمجت خلال الثمانينيات، والتي شوهت منظره العام، وأفسدت طابعه التاريخي. نظرا لهندستها غير المتناغمة، مع شكله وطرازه ووظيفته وروح معماره. ويتعلق الأمر أساسا بسوق السمك، الذي لا لون له ولا طعم ولا جمال. لا من الناحية الهندسية ولا البيئية ولا الصحية. لقد كان ولا زال، يمثل بؤرة عفن ونفايات متراكمة، ورائحة كريهة، ومنظر عمراني كئيب ومقزز. إنه كتلة إسمنت متراكمة، تبعث على الغثيان. فاقدة لأي حس جمالي، أو ذوق معماري. لا في منظرها، ولا في طبيعة الوظيفة التي تؤديها. تفتقر إلى أبسط شروط الصحة والنظافة اللازم توفرها.

وبرغم بعض خصائص العمارة الإسلامية التي ظلت تميز هذا السوق، يبقى الطابع الكولونيالي حاضرا في معماره بشكل عام. وتمثل البوابة الرئيسية، أهم معالمه البارزة. وهي اليوم تصارع الأمرين، نتيجة الإهمال الذي تعرفه، وكذا الضغط الكبير الذي تتعرض له، بفعل الإلتئام الأسبوعي للسوق. وما ينتج عنه من شدة وحدة الإحتكاك الذي تخضع له البوابة على يد المتسوقين، ووسائل نقلهم وسلعهم وحمولاتهم المختلفة. ناهيك عن نفس الدور الذي يقوم به باقي التجار خلال باقي أيام الأسبوع.

ويعرف السور المحيط بالسوق، وبعض المرافق الداخلية، من قبيل متاجر الجزارين، المصفوفة بمحاذاة المذبح البلدي، إضافة إلى المتاجر الممتدة في الجهة الجنوبية، والتي ظلت منذ مدة تخصص لبعض الحرف، ولتجارة المتلاشيات. تعرف نفس المصير من الإهمال واللامبالاة، وبالتالي الهشاشة والتدمير والتشويه. فالسور تعرض للتخريب والهدم، وطمْس هويته في كثير من أجزائه، حتى أصبح مظهره مشوها لا تناسق فيه، ولا تناغم مع محيطه، ولا حتى مع بوابته التاريخية. ودكاكين الجزارين بلغت درجة من الإهتراء والسوء والتردي، نتيجة الإهمال المطلق. ما جعلها تتداعى وتتآكل وتحتضر. وقد تحتجب وتختفي عن المنظر العام للسوق، في القريب المنظور.

كما اختفت الكثير من المعالم التي كانت تؤثث السوق، والتي عهدناها خلال سنوات الستينيات والسبعينيات، مثل دكاكين بعض الحرفيين (الحلاقين..) التي كانت مصفوفة عند مدخل البوابة الشرقية، المنفتحة على المسجد المركزي، وكذا الحظائر التي كانت ممتدة على جانبي البوابة نفسها. والتي كانت تؤوي الدواب، الوسيلة الأساسية لتنقل القرويين وقتها، من المداشر المحيطة بالمدينة، إلى سوق “الحد” الأسبوعي آنذاك.

إنه برغم ما يستوجبه التطور الذي تشهده المدينة، ونموها العمراني حاليا، من ضرورة نقل هذا السوق الأسبوعي إلى أطراف المدينة ومحيطها. بالنظر لما أصبح يمثله من مصدر تلوث، وعرقلة لحركة المرور بها. وإزعاج لساكنتها المجاورة له. وبرغم ثقل رمزيته، وقيمته التاريخية والإجتماعية. فهناك ضرورة ملحة اليوم، تستوجب على الأقل، الإبقاء على جانب من إرثه المادي، متجليا في بوابته التاريخية. وبعض مرافقه الداخلية وأجزاء من أسواره، وترميمها وتأهيلها، صيانة للذاكرة والإرث التاريخي. والعمل على الإستثمار الأمثل لوعائه العقاري الضخم، المتمركز في قلب المدينة، في خدمة تطلعات شباب المدينة وانتظاراتهم المختلفة. إن على المستوى الثقافي أو الرياضي أو الإقتصادي أو الإجتماعي..

ملحوظة: (في الوقت الذي كان فيه هذا المقال المتواضع مكتملا جاهزا للنشر، اتخذ قرار تجميد أنشطة هذا السوق الأسبوعي، ونقله مقره خارج المدينة، إلى جماعة بني وكيل اولاد محند المجاورة، والشروع في إقامة بعض المرافق كسوق السمك فوق الوعاء العقاري الذي كان يحتله. مما استوجب التنويه إلى ذلك)

بقايا محطة القطار والسكة الحديدية:

كان العروي خلال العهد الإستعماري، مَعبرا للخط السككي القادم من الدريوش، والواصل إلى مدينة مليلية، مرورا بسلوان والناظور. فقد كانت تتوفر به محطة للقطار ومختلف المرافق الملحقة بها، من مخازن للسلع ورصيف المسافرين. وكانت تتموقع شمالا، خلف مركز القوات المساعدة السابق.. قبل أن يتم الإجهاز عليها، بعد استقلال البلاد.

وقد ظل المعبر السككي، الذي كان عبارة عن مسلك طولي، مرتفع نسبيا ومنزوع السبائك، ممتدا من المكان الذي كانت تشغله محطة القطار المذكورة، خلف مقر القوات المساعدة السابق، ومتجها شرقا بشكل منحرف عن واد ياو، نحو الشمال الشرقي. في اتجاه مدينة سلوان، ومنها إلى مدينة مليلية. كان إلى عهد قريب، بارزا شاهدا، يحكي عن معلمة اقتصادية كانت في المكان.

وكان ساكنة المدينة وقتها، في تنقلهم إلى واد ثياوث، يمرون على طول هذا المسلك. قبل أن يتم محو أثره بالكامل وبشكل نهائي. وتحل محله كتل إسمنت متراص. وقد يكون من حسن حظ المدينة، أن أحد أحيائها لا زال يحمل إسم حي السكة، في إشارة إلى الخط الحديدي الكولونيالي المذكور، برغم الإندثار والإختفاء الكلي للمحطة والسكة معا. وهو ما يمثل إنعاشا مستمرا للذاكرة، حتى وإن كان ذلك بشكل شفوي رمزي.

ولا زالت بعض المرافق والبنايات التي كانت ملحقة بمحطة القطار، موجودة تقاوم التآكل والإهمال وعوادي الزمن. وهي مدفونة وسط تكتلات الإسمنت والبنايات السكنية الحديثة. فيما يشبه مخابئ أو ملاجئ، لا تصلها حتى أشعة الشمس. تتكدس داخلها بعض الأسر تكدسا. ولا أحد يعرف وضعها العقاري الفعلي بالتحديد، ولا طبيعة ملكيتها الحالية. تتوفر على مدخل، هو أشبه بكهف منسي في أقصى شرق شارع الزهور، شمال مقهى المواعيد.

الضيعات الفلاحية:

كانت مدينة العروي محاطة بكثير منها، أغلبها كانت في ملكية المستوطنين الإسبان. تمتد في كل الإتجاهات، وبخاصة جنوبا وغربا وشمالا، تحيط بها السياجات والأسوار وتزين مداخلها بوابات كبيرة، تنتمي إلى الهندسة الكولونيالية. بل إن بعضها كان متاخماً لأحياء المدينة. قبل أن تتداخل معها بعد استقلال البلاد. وتختفي تدريجيا من المشهد منذ السبعينات والثمانينات، بفعل كثافة الهجرة القروية، والنمو العمراني السريع، والتمدد الحضري غير المتحكم فيه للمدينة، والإرتفاع الجنوني لأسعار العقار.

ولعل من أشهر تلك الضيعات، التي أصبحت متداخلة مع أحياء المدينة، بل تشكل جزءا منها، والتي لا زالت بعض معالمها تقاوم عوامل التخريب، ضيعة فلامينكا La Flamenca التي مَنحت إسمها، في وقت من الأوقات، لكامل المنطقة المحيطة بها. حتى أصبحت دلالة اللفظ تعني حيّاً بكامله، يوجد غرب المدينة في اتجاه بلدة تزطوطين (حي فلامينكا).

وقد استمدت هذه الضيعة إسمها زمن الإحتلال الإسباني، بحسب ما ذكره السيد فرانشيسكو باريو، من كون المنطقة كانت تعرف عبور طيور النحام الوردي )الفلامنكو( Flamengo المهاجرة، فأختير لها إسم La Flamenca، المشتق من إسم هذا الطائر نسبة إلى ذلك. وعلى سبيل الإشارة، فلا زال هذا الطائر المهاجر، يتردد على المنطقة إلى الآن، وخاصة بمنطقة مرشيكا، التي يقضي بها جزءا من رحلته الطويلة، حيث أقيمت محمية خاصة به، وبأصناف أخرى من الطيور المهاجرة والمستوطنة بسبخة بوعرك.

وإن تسمية هذه الضيعية ودلالتها في حد ذاته يثير، على سبيل الإشارة، مسألة أخرى غاية الأهمية، تخص جانبا مهما من تاريخ وتراث المدينة. ويتعلق الأمر بالتعاطي مع رصيدها الكبير والزاخر، من تراثها الطوبونيمي Toponymie الكولونيالي الغزير. الذي لا زال عالقا بالذاكرة الجماعية للساكنة، ويختزل أحداثا وتطورات عديدة. والذي لا زالت بعض الأماكن والمواقع والفضاءات والمؤسسات ناطقة به. حاملة لكثير من الأسرار والأحداث التي عاشتها وشهدتها المدينة والمنطقة المحيطة بها ككل. من قبيل: “فلامينكا”، “فابريكا”، “كرانخا”، “ديدينسيا”… وهو تراث يستوجب بحثه واستنطاقه، قبل اختفائه وتلاشيه وانمحائه من الذاكرة. وذلك بهدف إغناء تاريخ المدينة، وإزاحة بعض الغبار عن جوانب العطب والغموض فيه.

كانت البنايات الملحقة بضيعة “فلامينكا” وغيرها من الضيعات، تمثل مَعالم معمارية واقتصادية تاريخية، تحكي جانبا من قصة الإستيطان الزراعي بالمنطقة إبان العهد الإستعماري الإسباني. وكان أصحابها من النفوذ ما كان يجعلهم، يملكون سلطة القرار داخل المدينة.

واليوم، وبعد الإختفاء الكامل لمثيلاتها، تتوارى هذه المعلمة تدريجيا خلف البنايات العشوائية، التي تزاحمها وتلتصق بها كالقُراد. بل وتحتل واجهتها الأمامية ببشاعة، وكأني بها تصر على إخفاء رونقها، وجماليتها، وقيمتها التاريخية. ربما تمهيدا للإجهاز عليها وتدميرها كليا. علما أنها تمثل بعض آخر وأنذر مخلفات الإستيطان الزراعي الكولونيالي المادية بالمدينة، والتي لا زال معمارها يتميز بنوع من الجودة والمتانة والجمال، ناهيك عن القيمة التاريخية.

وقد شهدت معالم كثير من الضيعات الفلاحية المحيطة بالمدينة، إجهازا وتدميرا شاملا، برغم بقاء بعض الشواهد ناطقة تحكي جوانب من الإستيطان الزراعي بالمنطقة. (يتبع)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *