منوعات

بويخف يكتب: درس المقاطعة الباهظ الثمن

تحولت دعوات مقاطعة بعض المنتجات عبر شبكات التواصل الاجتماعي إلى ظاهرة تستحق وقفات تأمل لاستخراج الدروس والعبر. فعلى مستوى السوق أعطت الحملة نتائج فاقت التوقعات من حيث التجاوب الكبير للمواطنين معها، وهذا النجاح الكبير يمكن لأي شخص الوقوف على حقيقته الساطعة في الأسواق الكبرى وجميع محلات بيع المواد الغذائية ومحطات المحروقات.

وتؤكد تلك النتائج الكبيرة النجاعة الاستثنائية لتلك الحملات. وهو ما يتطلب النظر إليها بجدية كبيرة ليس فقط من طرف الفاعلين الاقتصاديين، بل من طرف صناع القرار السياسي منه والاقتصادي والاجتماعي، وتحليل الميكانيزمات التي تعطيها فرص النجاح أكثر مما تعطي للأساليب التقليدية.

إن المرونة الكبيرة التي تميز شبكات التواصل الاجتماعي، ومجانية الإبحار النشيط خلالها، وانتشارها الواسع في الأوساط الشعبية، وإتاحتها الفرصة للمواطنين للتمتع بحق الاعتراف الذي يحرمون منه في الواقع، والتمتع بحرية التعبير وما تجنيه من “اللايكات” و “البرتاجات” وتشابكات النقاش، وما إلى ذلك يجعل من تلك الشبكات وسيلة مثالية لانتشار دعوات المقاطعة وغيرها من الأنشطة.

غير أن نجاح حملة المقاطعة المشار إليها لا تتوقف فقط على الخصائص التي ذكرنا أهما لشبكات التواصل الاجتماعي، بل يرجع نجاح تلك الحملة إلى عناصر حيوية أخرى نجمل أهما في الآتي:

الحملة تأتي في سياق اكتسبت فيه شبكات التواصل الاجتماعي موقعا حيويا في ثقافة المغاربة المتعلقة بحرية التعبير والرأي، وفي سياق أصبح فيه “شعب الأنترنيت” في حالة تعبئة عالية التوتر، تجعل كل قضية تدخل طاحونة تلك الشبكات تقفز إلى واجهة الاهتمام والتفاعل. وقد عشنا تجارب همت فنانين ووزراء، وزعماء أحزاب، …

حالة التوتر العالي التي تميز شبكات التواصل الاجتماعي ساهمت فيه عدة عوامل يمكن اعتبار أكبرها على الإطلاق، “البلوكاج السياسي” المشهور، والذي قلب موازين نتائج الانتخابات التشريعية الأخيرة، وخلف تدمرا واسعا بين المغاربة، وكانت شبكات التواصل الاجتماعي مسرح التعبير عن الغضب من الممارسات السلطوية التي عرفها المغرب.

نجاح التفاعل الشبكي في مواقع التواصل الاجتماعي يرجع أيضا إلى غنى وتنوع الخطاب التواصلي فيه بشكل غير مسبوق. فنجد إبداعات فنية كبيرة، سواء على مستوى النكتة او على مستوى الكاريكاتير، او على مستوى القصة، او على مستوى الأغنية، او على مستوى الأفلام الكرتونية…والحملة الحالية غنية بأعمال فنية وإبداعية راقية بغض النظر عن الانحرافات التي تطبع بعضها خاصة ما يتعلق بعدم احترام أخلاقيات النشر وقوانينه.

والديناميكية الإبداعية التي تقدمها المضامين التواصلية لتلك الشبكات بمناسبة معالجة قضية ما تقف خلفها دوافع ليست بالضرورة سياسية او حزبية، فمعظم الدينامكية التي أطرت سخونة أغلب القضايا التي عرفت حضورا قويا ممتدا في تلك الشبكات، نجد خلفه ظاهرة إنسانية، تتعلق بإتاحة الفرصة لكثير من الشباب للتنافس الاقتصادي لإنعاش مواقعهم الالكترونية وقنواتهم على اليوتوب، وأعطائهم مواضيع لإعمال ذكائهم ومهاراتهم الابداعية، كما تتعلق بفرصة تنمية رصيد الاعجاب والمتابعين بالنسبة لشق غير يسير من النشطاء.كما أن القاعدة العريضة من المشاركين في ترويج خطاب الحملة الغني والمتنوع يعملون ذلك إما قناعة ونضالا، او تماشيا مع ثقافة شبكات التواصل الاجتماعي التي تقضي بعد العادات فيها بإعادة النشر والتعليق والجمجمة التلقائية.

والخلاصة أننا أمام عالم خاص، تعتبر بعض التصرفات وردود الفعل تجاههه عوامل إضافية لإشعال واستدامة حريق القضايا فيه. وهكذا نجد أن مواجهة طاحونة ذلك العالم الافتراضي بمواقف العناد وإعلان الحرب والتحدي، ليست سوى أخطاء فادحة تصب الزيت على نيران تلك الحرائق. وهكذا نجد أن الذي يغذي حرارة النقاش والتفاعل المتنوع في الحملة الجارية هو تصريحات ومواقف من مسؤولين حزبيين وحكوميين وفي الشركات المعنية. وأكدت ردود الفعل تلك ضعف الوعي بتكنلوجيا الاتصال والتواصل الحالية.

فمثلا العمل على إطلاق حملة مضادة على شبكات التواصل الاجتماعي لا يعني في لغة التدافع على شبكات التواصل الاجتماعي إلى وضع الحملة الأصلية أمام تحدي جديد، فبعد أن كان التحدي الأصلي هو النجاح في استقطاب المشاركين، ينضاف تحدي له طابع وجودي، ويتعلقبوجود نقيض منافس على شبكات التواصل الاجتماعي ينبغي إضعافه على الأقل. مما يعني مزيدا من استدامة الظاهرة وتقويتها مع كل ما يطرحه ذلك من مزيد من التحفيز بالتحدي للنشطاء.

إن البدائل الخاطئة التي طرحت لمواجهة الحملة الجارية محكوم عليها بالفشل لكل الاعتبارات السابقة، ولاعتبارات أساسية خاصة، وهي أن المنخرطين في تلك البدائل الخاطئة أغلبهم منتفعون من ريع “المعركة” الدائرة، ومن مصلحهم أن تدوم وتستمر، فهم لا يومنون بالقضية التي يزعمون أنهم يدافعون عنها، بل يستفيدون من تومقعهم فيها فقط. لذلك لا نستغرب أن يغلب طابع الاتهام والاستفزاز والاختلاق على مبادراتهم، والتي لا يكون لها سوى نتيجة واحدة وهي توسيع دائرة المقاطعة واستدامتها.

إن الفخ الذي سقط فيه معارضو حملة مقاطعة بعض المنتجات التجارية هو اعتبارهم الحملة من إنتاج فاعل سياسي، وسقطوا في الخطأ الفضيع المتعلق بالبحث عن الحل في الضغوطات السياسية تجاه ذلك الفاعل السياسي. والواقع أن طبيعة المعركة التي تدور رحاها في الأسواق عبر شبكات التواصل الاجتماعي، ينبغي أن تواجه بسياسات تنطلق من الأسواق في اتجاه شبكات التواصل الاجتماعي. وليس استدامتها وتنشيطها بالاعتبارات الحزبية والسياسية. وقد أبانت “المعركة” الضعف الكبير في التفكير الاستراتيجي المتعلق بالتسويق في الشركات المعنية، بل وكشفت الوقائع أن وجود سياسيين على رأس تلك الشركات غلب المعالجة السياسية على المعالجة التجارية التسويقية.

إن الحملة لذى القاعدة العريضة المشاركة فيها لا تتأسس على اعتبار المنتجات المطروحة للمقاطعة محرمة الاستهلاك شرعا، بل غالية الاقتناء. وبالطبع فالجميع يعلم أنها ليست الوحيدة في ذلك. وإذا تم اختيار تلك المنتجات، لأي اعتبار كان، فلأنها ينبغي في لغة المستهلك أن تتجاوب مع مطلب الحملة المتعلق بالسعر، لتكون عبرة لغيرها، وليس إعلان تحدي لي الدراع.

إن من أكبر مخاطر سياسة مواجهة حملة المقاطعة الموجهة لبعض المنتجات هي أن تلد لغة التحدي ولغة لي الدراع نتيجة مأساوية في لاشعور المستهلك، وهو أن ينتقل استهدافه من السعر إلى المنتوج، ولقد كشفت تحولات لغة الاحتجاج في الحملة عن توجهات تصنف تلك المنتجات تصنيفات تجعلها مرفوضة لذاتها، وهذا أمر لا ينبغي أن تسقط فيه المعكرة الدائرة اليوم، لأن الموقف الجماعي الرافض للمنتوج مهما رخص ثمنه لا ينبغي أن يوجه سوى لمنتجات تحكم الموقف منها اعتبارات عقدية (حرام)، او سياسية (المنتجات الصهيونية)، او المنتجات المقلدة التي تدخل السوق المغربية لتنافس المنتجات الوطنية بطرق غير شريفة وغير قانونية. وهذا يبين أن الأخطاء التي قد تنزلق إليها حملة المقاطعة الحالية قد تنتج موقف سياسية رافضة للمنتجات المعنية حتى ولو راجعت سياستها في الأسعار. وهذا هو الذي ينبغي للمعنيين بتلك المنتجات اعتباره والعمل على تفاديه بلغة السوق وليس بإغراق الحملة في أوحال السياسة بلغة التحدي والعناد. مع العلم أن الفباء التسويق يرتكز على سلوك المستهلك والتأطير اللاشعوري الذي يحكمه، فإذا تكرس لدى المستهلك سلوك استبعاد منتجات معينة لاعتبارات جماعية لمدة معينة، فمن الصعب تغيير ذلك السلوك بسهولة وفي وقت وجيز.

إن عدم التعامل الرصين والمهني مع ظاهرة المقاطعة تلك، وإغراقها في مستنقع السياسة، انحراف خطير لا ينبغي المساهمة فيه من أي موقع كان، لأننا ببساطة لسنا أمام منتجات مرفوضة لذاتها لاعتبارات المشار إليها سابقا، ولا أما حملة يؤطرها حزب سياسي، بل أمام منتجات اختار المستهلكون، لأية دواع كانت، ان يخاطبوا من خلالها السوق، والبحث عن ضبط المعركة المدارة عبر شبكات التواصل الاجتماعي بمقاربات سياسية مستفزة خطأ لن يزيد الأمر إلا تفاقما.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *