وجهة نظر

في مآلات ومخرجات المقاطعة

في مقال سابق عن هذا، كنت تحدثت عن المقاطعة باعتبارها ثقافة وسلوكا مدنيا للرفض والاحتجاج، مارسته الشعوب الحديثة ضدا على سياسة الاحتكار والإفساد. وكنت تساءلت عن هل من الممكن أن تكون ثقافة المقاطعة بديلا عن ثقافة التجمهر في الشارع. وكنت خلصت إلى أنه حتى وإن كان الاحتجاج بالتجمهر السلمي قد آتى أكله لعقود طويلة فإنه طالما تم التشويش عليه بالأجندات والحسابات ألا أخلاقية داخل مجتمع دولي تخلى عن أي وازع، ولطالما حاربت الدولة هذا السلوك المدني بالقمع والاعتقالات . وهو ما جعل الشعب يبحث عن سلوكات أخرى تكون أكثر جدوى وفعالية وأقل إيلاما … فنطرح السؤال من جديد عن مآلات ومخرجات هذا السلوك المدني داخل التداول المغربي اليوم.

رغم أن الغالبية تتحدث عن نتائج ومخرجات المقاطعة بمستواها المادي، فإني أسجل بداية أنه داخل الأنظمة الفاسدة ربما يكون من الصعب الحديث عن خسائر مادية يتكبدها المقصودون بالمقاطعة. لقد كان هذا ممكنا لو أننا كنا حقا نعيش داخل بلد ديمقراطي يحدد القانون مخرجاته ومآلاته بمنطق المؤسسات والعرض والطلب. ولكن في بلد يحل فيها القانون متأخرا غالبا ما يكون من الصعب الحسم في المخرجات المادية باعتبارها خسائرا تصيب المعنيين. ذلك أن تزاوج السلطة والمال غالبا ما يتجاوز القانون في شقه الصوري وحساباته الاقتصادية والرياضية إلى مدخلات فاسدة تؤدي إلى مخرجات بأقل الخسائر.

ومثال ذلك أنه قبل سنة أو سنتين عندما قرر التجار الصغار مقاطعة واحدة من شركات توزيع الحليب، عمدت السلطة إلى حيل فاسدة حالت بين الخسارة والشركة المقصودة، وهو ما جعل فعل المقاطعة يعجز عن تحقيق مبتغاه وازدادت الشركة المعنية استعلاء.

إن المقصودين بالمقاطعة ليسوا أصحاب رؤوس أموال عاديين يتأثرون ويؤثرون بمنطق القانون، ولكن المقصودين بالمقاطعة هم كائنات جمعت بين المال والسلطة، وهو ما يخول لهم بمنطق الفساد التحكم في المدخلات للحصول على مخرجات مرضية، وهنا يقع المشكل. إذ إنه يصبح بمقدور هؤلاء البحث عن صيغ احتيالية للإبقاء على حظوظهم داخل مجال المال والأعمال، بل وخلق بدائل متشابهة بأسماء مختلفة لغايات واحدة تجعل المواطن يفاضل بين أشياء متشابهة كما هو الوضع في الأحزاب المغربية على كثرتها.

إن فكرة المقاطعة لا ينظر إليها المقصودون بنظرة مادية غالبا، فهم حصدوا من المال الشيء الكثير الذي يصعب عده. لكن ما يخشاه هؤلاء هو تلك الرسائل الرمزية التي حملتها فكرة المقاطعة. فاتحاد شعب طالما تم استبعاد اتحاده واحتجاجه واستغباؤه وتخوين المستفيقين منه ورميهم بالسفاهة، هو في الحقيقة شيء يجعل الأمور مختلفة ومقلقة. فليس من السهل على السلطة أن تستسيغ اليوم أن جماعة كبيرة من الشعب بدأت تفهم أن سبب فقرها وحرمانها من حقوقها الأساسية هم مجموعة من المقاولات على كثرتها في البلد اغتنت خارج القانون في بلد يزداد فقراؤه كل يوم فقرا.

لقد تحول السيد عزيز آخنوش من طامح للاستواء على عرش رئاسة الحكومة إلى متهم بسرقة أموال الفقراء والكادحين، فأينما وليت وجهك تجد صورة الرجل داخل الحسابات الشخصية والصفحات الاجتماعية والمواقع المستقلة كأنه مجرم خطير مطلوب للعدالة. وهي أمور لم تكن لتخطر على بال السيد عزيز آخنوش يوما الذي حاول مرارا وتكرارا رفع شعار غاراس آغاراس الذي امتاز به الإنسان السوسي عبر قرون.

لا يتعلق بمخرجات مادية صرفة يمكن لتزاوج المال والسلطة أن يتجاوزها بسرعة كبيرة، ولكنها ورطة السلطة التي بدأت تفقد السيطرة على شعب احترف المقارنة بينه وبين شعوب كانت تحسب إلى عهد قريب على جمهوريات الموز، فعقد مقارنة بين نظام الجزائر والنظام المغربي هو عقد وقياس فاسد بين نظامين فاسدين لم يعد يقنع الأجيال الصاعدة، وأن خطابات الماضي البئيس ستصبح متجاوزة أمام شعب مل من الفساد والتفقير.

إن قاعدة ‘ جوع كلبك اتبعك’ لم تعد تنتج فقط الكلاب الخانعة اللاهثة، بل إن كثيرا من الشعب أصبح يفهم أن عليه أن يعيش كريما بما تقتضيه الكرامة في الأعراف بعيدا عن قياس قواعد الموز بين المغرب والجزائر.

إنها ورطة السلطة التي كانت تعول على صعود حزب الحمامة بعد فشل حزب الجرار والحكم على حزب المصباح بالأفول. ففكرة الإصلاح لم تعد مقرونة بحزب ولا جهة وصية ولكنها فكرة بل قيمة أصبحت تسكن وجدان الشعب المقهور الذي فطن إلى تلاعبات السلطة والمفسدين بدلاء عن القانون ومؤسساته. لقد أظهرت المقاطعة أن الفساد ليس فقط لترات من الماء والحليب والبنزين، بل هي كائنات وكيانات جمعوية وحزبية وإعلامية مستفيدة من الوضع غرضها توجيه نظر الشعب إلى العبث والميوعة صدا له عن اهتماماته الحقيقية.

لقد أظهرت المقاطعة أن الإعلام أصبح بيد الشعب وأنه لا مجال للاحتكار والمصادرة، فما ينتجه الإعلام الشعبي بأدواته البسيطة والجميلة يفهم منه تحرر الإعلام الذي لن يعقبه إلا تحرر الاقتصاد والإنسان.

إن سلاح المقاطعة لن يكون إلا بديلا مؤقتا يفهم منه وعي شعب بمسببات آلامه ومدى امتعاضه وانزعاجه بسياسات الفساد والإفساد الممتدة لعقود في تحالف المال والسلطة، والتي جعلت غالبية الشعب المغربي ينظر للمستقبل بعين الريبة والمجهول. فمعادلة الوعي والتعلم تؤدي للاحتجاج، وبالتالي يجب قتل التعلم والوعي لذرء الاحتجاج، ربما لم تعد ممكنة أمام أجيال صاعدة وليس لديها أصلا ما تخسره، وهو ما ينبئ بأشكال احتجاجية واضطرابات لن تنفع معها أساليب السلطة البائدة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *