منوعات

مقاطعة السمك.. هل تنهي ريعه؟

يتمتع المغرب بأفضل واجهتين بحريتين، البحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي، يصل طولهما إلى 3500 كلم. وحسب وزارة الفلاحة والصيد البحري، (تتميز المنطقة الاقتصادية الحصرية المغربية بتنوع كبير لمواردها السمكية، بحيث تتوفر على ما يقرب من 500 نوعا، منها 60 نوعا في طور الاستغلال. وتشكل الأسماك السطحية الصغيرة أساس هذه الموارد بأزيد من80% من المصايد من حيث الحجم). ويصنف المغرب في المرتبة 25 عالميا من حيث إنتاج السمك، والمرتبة الأولى في افريقيا.

غير أن المفارقة الكبيرة المسجلة بهذا الصدد هي أن استهلاك المغاربة من السمك ما زال ضعيفا، وان معدل استهلاك كل مغربي من السمك أقل بكثير من المعدل العالمي. وإستراتيجية تطوير وتنمية قطاع الصيد “اليوتيس” التي تم تجديدها تهدف إلى زيادة استهلاك الأسماك بالمغرب بحلول عام 2020 لتصل إلى 16 كجم للفرد سنويًا، مقارنة بـ 10 كجم في الوقت الحالي! في حين تؤكد منظمة الأغذية والزراعة (الفاو)، التابعة للأمم المتحدة، (سنة 2016) أن (الاستهلاك العالمي من الأسماك لكل شخص ارتفع إلى أزيد من 20 كيلوجرام سنوياً مند 2014). وهذا يعني أن المغربي لا يستهلك في المعدل سوى نصف معدل الاستهلاك الفردي في العالم. فكيف يمكن تفسير هذه المفارقة؟
ولمقاربة الجواب عن السؤال السابق سنعالجه على مستويين مترابطين، مستوى عدم التوازن بين السوق الداخلية والخارجية، ومستوى ارتفاع الأسعار الذي يحد من القدرة الشرائية للمواطنين.

فعلى مستوى عدم التوازن بين السوقين الداخلي والخارجي، يخبرنا الموقع الرسمي لوزارة الفلاحة والصيد البحري بمعطيات صادمة وهي أن (صناعة تحويل وتثمين منتجات الصيد البحري في المغرب تعالج ما يقارب 70% من إفراغات الصيد الساحلي وتصدر ما يناهز 85% من إنتاجها إلى 100 دولة بالقارات الخمس)، وهو ما يعني أن معظم خيرات المغرب السمكية موجهة إلى السوق الخارجية على حساب السوق الداخلية. وبالأرقام يستنتج من المعطيات السابقة أن 30 في المائة فقط من كمية الأسماك المفرغة لا توجه إلى التصدير بما أنها لا تعالج وتوجه بذلك إلى الاستهلاك الداخلي المباشر، وأن 15 بالمائة فقط من الأسماك المعالجة توجه إلى السوق الداخلية أيضا. وبعملية بسيطة نجد أن قرابة 40,5 بالمائة فقط من مجموع ما يتم صيده من الأسماك يوجه إلى السوق الداخلية. وهذا يعني أن صناعة السمك بالمغرب صناعة تصديرية بامتياز. وهو وضع يمكن اعتباره إنجازا عظيما لو أن الحصة الموجهة للسوق الداخلية تغطي حاجياتها بأسعار معقولة تكون في متناول الجميع.
وعلى مستوى أسعار السمك في السوق المغربية، فتوجيه قرابة 60 بالمائة من الأسماك إلى الأسواق الخارجية يفرض على السوق الداخلية وضعا تعيش فيه باستمرار على وقع نقص مزمن في العرض، ما ينتج عنه ارتفاع الأسعار، في ظل تزايد الطلب على الأسماك. وإذا أدركنا هذا سيزول الاستغراب من استمرار أسعار السمك في الارتفاع مع وجود واجهتين بحريتين بآلاف الكيلومترات، وتبوء المغرب المراتب المتقدمة من حيث الانتاج.

ورغم أن سلسلة إنتاج وتسويق السمك في السوق الداخلي تعرف تعدد الوسطاء، ما يعني تفاقم الأسعار، إلا أن اختلال التوازن بين الكمية الموجهة للتصدير والكمية الموجة للاستهلاك الداخلي هي العامل المتحكم بشكل أكبر في السوق، حيث تعطي تلك الوضعية للمنتجين الكبار القدرة على فرض الأسعار التي يريدون، وأن يكيفوا تحكمهم في الأسعار مع فترات يزداد فيها الطلب على الأسماك، وخاصة في شهر رمضان المبارك.

وبمزيد من التدقيق في المعطيات المتعلقة باستهلاك السمك في المغرب، وبمقاربة المعدل الوطني المحدد في 10 كلغ لكل فرد في السنة مقاربة سوسيو اقتصادية، نجد أن غلاء الأسعار يعطينا خارطة صادمة لاستهلاك السمك. فالمعطيات التي كشفت عنها دراسة سابقة للمندوبية السامية للتخطيط، وعممتها سنة 2016، تؤكد وجود تباين فج في معدل استهلاك السمك بين الطبقة الميسورة والطبقة الفقيرة، حيث تفيد تلك المعطيات أن 10 بالمائة الأكثر يسرا من المغاربة يبلغ معدل استهلاك الفرد فيها سنويا 25,1 كلغ من السمك في السنة، فيما 10 بالمائة الأقل يسرا يبلغ معدل استهلاك السمك لديها 4,8 كلغ للفرد في السنة. أي أنه بفعل ارتفاع الأسعار نجد فارقا بقرابة 5 أضعاف الاستهلاك السنوي للفرد بين الطبقتين. وهذا التفصيل يفضح دور غلاء الأسعار في الحد من استهلاك السمك. ويؤكد استحالة تحقيق “اليوتيس” لأهدافها المحددة.

ما سبق يكشف كيف أن المغاربة لا يحرمون فقط من ثروتهم البحرية بشكل خطير، بل يؤدون ثمن اختلال السوق لضمان تموين الأسواق الخارجية حتى دون تلبية حاجيات السوق الداخلية، وأن عدم التوازن ذلك يؤديه المغاربة على شكل فاتورة ارتفاع الأسعار. وتزداد صورة الظلم قتامة حين نضيف معطى إعفاء أنشطة الصيد البحري من الضريبة، ما يعني حرمان الخزينة العامة أيضا من ملايين من الدراهم.
وبالعودة إلى دعوات مقاطعة السمك التي أطلقت عبر شبكات التواصل الاجتماعي، يمكن القول إن من شأنها بعث رسالة قوية إلى لوبيات سوق السمك في المغرب، والذين لا يكفيهم اقتصاد الريع الذي يعيشون فيه في شبه احتكاريات ضخمة مند عقود، بل يستغلون محطات مقدسة لابتزاز المستهلك المغربي، وذلك بالقصد إلى رفع الأسعار في شهر رمضان. والمستهلك إذا وعي بمسارات الانتاج والاستهلاك في السمك، وأدرك كيف يحرم من ثروته الوطنية لصالح لوبيات احتكارية، جاز له أن يقاطع ذلك المنتوج.
إن إشهار فزاعة مئات الآلاف من المغاربة الذين يعيشون من اقتصاد السمك مجرد مراوغة عاطفية، ذلك أن غالبيتهم العظمى يشتغلون في مستويات هشة من سلسلة الانتاج، ولا يستفيدون من الثروات البحرية التي يُستغلون فيها إلا النزر القليل، وهم بحاجة إلى مشاريع تنموية لتعزيز حصتهم في الدورة الاقتصادية في القطاع.

إن الدرس المستفاد من قضية غلاء أسعار السمك المزمن، والقصد الجرمي إلى مفاقمتها في الشهر الكريم، يفرض تدخل الدولة لوضع معايير تحمي المستهلك المغربي، وعلى رأس تلك المعايير فرض “كوطا” معقولة توجه للسوق الداخلية لا تقل عن خمسين بالمائة من إنتاج السمك. ووضع حد لجنة الإعفاء الضريبي في القطاع، ودمقرطة رخص الصيد، وتشديد محاربة الصيد خارج القواعد التي تحمي الثروة الوطنية من الاستنزاف، ومراقبة مشاريع تنمية القطاع التي ينبغي أن تدعم الصيد التقليدي صديق المستهلك المغربي بامتياز.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *