“من الوهابية إلى الإسلام”..لشهب: هل الوهابية هم أهل السنة والجماعة (الحلقة 16)
ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة “العمق” سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب يروي فيها تجربته من “اعتناق” مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة …
السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه بـ «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد.
جريدة “العمق” ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب منجما في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا.
الحلقة 16: هل الوهابية هم أهل السنة والجماعة
لقد تحدثت في الحلقة السابقة ناقضا القول بمنهج السلف، وبينت وبالله التوفيق أنه لا يوجد في تاريخ المسلمين منهح اسمه منهج السلف، وقد ذكرت اعتبرات يمكن العودة إليها في الحلقة السابقة.
وعليه نبني نقضنا لهذا الادعاء الآخر بالنسبة لمذهب أهل السنة والجماعة. فلو أنك سألت أي وهابي اليوم عن من هم أهل السنة والجماعة فسيشير لك بسبابته إلى علماء محدودين جدا على رؤوس الأصابع في امتداد تاريخ هذه الأمة الحافل، بينما سيشير لك بسبابه إلى عموم علماء الأمة من المحققين والبارعين. فالسلفي ينظر إلى ثلاثة في المائة من فقهاء الحنابلة على أنهم أهل السنة والجماعة والفرقة الناجية بينما عموم الأمة ستدخل النار لأنها من الثلاث والسبعين فرقة المذكورة في الخبر على عليته.
والحقيق أن الناظر في تراث المسلمين سيلفي أن عموم المالكية والشافعية والحنفية وكثير من متقدمي الحنابلة كانوا على مذهب أبي الحسن أو أبي منصور إلا ما مال منهم للاعتزال. وهذا ما دفع بعض المتأخرين من الحنابلة يحاول أن يعيد الاعتبار لمذهب الإمام أحمد لما تبين له أن الوهابية أساءت للمذهب بجهلها وتعصبها وتكفيرها للمسلمين، فألف الشيخ مصطفى حمدو عليان كتابا وقع في ثمانمائة صفحة بين فيه المؤلف وجه الخلاف بين مذهب الإمام أبي عبد الله وبين تنطع الحنابلة بعد الشيخ ابن تيمية وابن عبد الوهاب. وعلى منواله ألفت الكتب الغزيرة مثل ما ألف العلامة البوطي بما وسمه ب” السلفية مرحلة مباركة لا مذهب إسلامي”.
قلت: فإذا حاججت الوهابي ألقى على أسماعك آيات وأحاديث سطحا وسذاجة من غير فهم كما هي عادتهم، وعليها فسقوا وبدعوا عموم علماء المسلمين، حتى وصل الأمر ببعضهم إلى التحذير من الإمامين ابن حجر العسقلاني والإمام النووي لما رأوا إقبال شبابهم على قراءة كتبهم حين افتقر الحنابلة لمثل هذا النوع وغيره من التأليف والفنون في شرح وتفسير الخبر ببراعة. بل الأدهى من ذلك أني سمعت بعض متنطعيهم والفيديو على اليوتوب يجعل إيمان الأشاعرة كإيمان المشركين في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
لقد طرحت من قبل سؤالا بخصوص لماذا لم يكن أهل المذاهب من المسلمين على مذهب السلف، وكنت قلت إن هذا المفهوم لم يكن موجودا أصلا في ذلك الزمن إلا تفويضا بمعنى اعتزال الفهم واعتزال الخوض. فلما ظهر مذهب أبي الحسن ومذهب أبي منصور اجتمع عليه من ورثوا مذهب السلف استنباطا، فسموا أهل السنة والجماعة لما اقتفوا طريقة ومنهج السلف في التعامل مع النصوص وهو ما سمي فقها، بينما وجدوا في مذهب العقل على طريقة الإمامين الحجة البالغة للدفاع عن المذهب بدلا من الركون للتسليم والتفويض؛ الذي يجعل حجج المخالفين أقوى، لأن طريقها استدلال بالعقل، والعقل أكثر نفاذا إلى النفس. فالادعاء بأن التفويض كان كافيا باطل بدليل قول الولي للنبي عليهما السلام: وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا” فدل هذا القول على أن التسليم في العقائد ربما كان ممكنا في طبيعة عربية أمية، لكن لما دخل غير العرب في الإسلام وجب الإجابة على تساؤلاتهم بالدليل والحجة وليس أن نقول لهم هذا دين الله آمنوا به كما نقول لكم. بل على هذا الأساس حينما يحاول شاب سلفي إعمال عقله ينتقل مباشرة للجهة الأخرى فيلحد اعتقادا منه أن هذا الدين لا مجال فيه للاستدلال. ولهذا قال واحد من أعلام الوهابية: استمعوا للدكتور عدنان إبراهيم فقط حين يرد على الملاحدة.
قلت: وقد استمر المسلمون في مشارق الأرض ومغاربها عملا بأصول الفقه والتفسير بينما انتصروا في عقائدهم لمذهب الإمامين. وقريبا منهم كان أهل الحديث يؤمنون بالتفويض في الأصول بينما قلدوا رأي السلف في الفروع من غير منهج. فلما اكتشف البترول وانتشرت الأمية وضعفت مدارس وجامعات الدين في صدامها مع التقدميين والاستئصالين وجدت الوهابية طريقها لعموم المسلمين حتى غمت عليهم فلا تكاد تسمع لمذهب أبي الحسن ركزا، وقلد العوام والهوام مذهب الحنابلة المتأخرين فنبذوا العقل والفهم حتى أصبح لدينا صنفان من الشباب، إما جاهل متزمت لا يسمع ولا يعقل همه رمي الناس بالبدع والفسق والفجور والتكفير كاره لكل جمال، وإما ملاحدة ينشرون الميوعة والقذارة بل ونذروا حياتهم للحرب على الإسلام.يقول ابن خلدون: فأما أحمد بن حنبل فمقلده قليل، لبعد مذهبه عن الاجتهاد وأصالته في معاضدة الرواية وللاخبار بعضها ببعض، وأكثرهم بالشام والعراق من بغداد ونواحيها وهم أكثر الناس حفظا للسنة ورواية الحديث.
وقد يحتج عليك بعض الجهلة من الوهابية بالقول إن علماء القرون الأولى لم يكونوا أشاعرة. فتقول له: إنهم أيضا لم يكونوا سلفيين. بل إن مجتمع الصحابة كما قلنا كان مجتمعا خليطا لم تتحد هويته، وإنما كان المتعلمون من الصحابة على قلتهم يتعاملون بما تمليه عليهم سجيتهم وهم ليسوا مصومين بدليل اختلاف أقوالهم في المسألة الواحدة. ولو كان لهم منهج واضح معلوم في الفهم لما احتاج الإمام جعفر الصادق وأبو حنيفة وليت ومالك والشافعي إلى وضع قواعد في التعامل مع النوازل، ولو كان مذهب السلف منهجا واضحا كما يتصوره الوهابي اليوم لما احتاج الشافعي لوضع أصوله، ولو كان واضحا ما اختلف الأئمة مع بعضهم بعضا. ولو كان للسلف منهج لما اختار الإمام أحمد جمع الرواية بدلا من اقتفاء قوانينها في ما سمي فقها، وهذه أمور ناقشها من قبل تفصيلا وفيها ألف العلامة البوطي كتابه حتى آلم الوهابية في ذلك.
لقد سبق للعلامة البوطي أن طرح سؤالا: هل كان واحد من الأئمة في زمانه ينكر عليه قوله أو يرميه بالبدعة؟ لماذا كان الشافعي والمالكي ومتقدموا الحنابلة مضطرين للدخول في مذهب أبي الحسن؟ فالجواب هو أن مذهب أبي الحسن هو نفسه مستنبط من مذهب السلف أصولا كما استنبطت من مذهبهم أصول الفقه فروعا، وعلى هذا كان ما يزيد عن التسعين في المائة من علماء المسلمين من الأشاعرة: يقول التاج السبكي الشافعي المؤرخ الفقيه في فصل من كتابه: ذكر بيان أن طريق أبي الحسن الأشعري هي التي عليها المعتبرون من علماء المسلمين من المذاهب الأربعة في معرفة الحلال والحرام” وكلام التاج لا يحتاج لدليل عند من يهتمون بالعقائد والمذاهب، فيكفي أن تختار فقيها مفسرا بارعا مجتهدا أصوليا لتبحث عن مذهبه فتجده على مذهب الإمام إلا من قارب التشبيه من متأخري الحنابلة أو انحاز نحو بعض من مقولات الاعتزال. وهذه حقيقة يعرفها شيوخ الوهابية ولكنهم يصرون على رمي عموم الأمة بالبدعة والتضليل على طريقة شيخهم الأكبر ابن عبد الوهاب؛ الذي فسق وبدع عموم الأمة بل وغزاها كما يغزو المشركين. فالوهابي يحس أن إسلامه ناقص ما لم يمارس هوايته في رمي المخالفين.
ولا تكون حاجتنا إخراج هؤلاء من أهل السنة والجماعة، فالخلاف بين أهل الحديث والغالب من أصحاب أبي الحسن وأبي منصور هو قليل لا يكاد ينتبه له، بل هو محمود وطبيعي، وليس على حجم ما تروج له الوهابية المقيتة. ولكن الإشارة هنا لا زمة ليعرف الوهابي قدره في تاريخ الإسلام فلا يتطاول على رمي المحققين المعتبرين بالبدعة والضلال وقد علم أن شيوخه عالة على اجتهاداتهم أصولا وفروعا. إنها سنتهم في رمي المخالفين، بل سنتهم التنطع والتزمت، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
إن الوهابية سرقت الوصاية بدليل أن ما انتشر من إسلام في كل البقاع التي خف فيها صوت العربية إنما لا تزال إلى اليوم وفية لمذهب العقل والروح مثل المغرب الكبير وفارس وما تاخم بلاد العجم في أوروبا وآسيا. فمذهب أهل السنة والجماعة مذهب قائم على العرفان والتصوف ليس في حدود ما تقرره الوهابية من الجفاء والغلظة بكل مدارسه المنتشرة تاريخيا في بلاد المسلمين . مذهب قائم على العقل والنظر الذي يكسب الإسلام ما تتمتع به الأديان عادة من السماحة والرشاد والتربية، وليس ما تريد الأصولية أن تورط فيه الإسلام حتى أصبح ثقلا على الإنسانية . والذي جعل شباب المسلمين مخيرا بين الانبطاح السلفي أو الخروج من الدين للبحث عن فضاء أرحب للحياة في وئام مع العقل والروح ظنا منه أن الإسلام يخاصم العقل والروح..
اترك تعليقاً