رمضانيات

“من الوهابية إلى الإسلام”.. لشهب: غلو الوهابية في أصحاب الرسول (الحلقة 23)

ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة “العمق” سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب يروي فيها تجربته من “اعتناق” مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة …

السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه بـ «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد.

جريدة “العمق” ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب منجما في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا.

الحلقة23: غلو الوهابية في أصحاب رسول الله

إن الصورة التي يحملها المتدين الوهابي لا تختلف كثيرا عن الصورة التي يحملها العامة، فالتدين الوهابي يتماهى مع كثير من المقولات العامية. وتقوم هذه الرؤية على النظر لزمن النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته من بعده كمجتمع مثالي ملائكي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه؛ ويستدلون في ذلك بآيات وأحاديث ما رعوها حق رعايتها، وعلى عادتهم في التعامل مع النصوص أنزلوا الخاص محل العام، وحكموا على الكل بمقتضى الجزء. وقد تبعهم في هذا أهل الوعظ والتبشير والسير المنقحة المصححة المطبوعة المنمقة المنتقاة بدقة؛ فألبسوا على الناس دينهم وغموا على منطوق الكتاب المنزل بأهوائهم ونظرهم واشتغالهم بالأثر والقيل والقال؛ بل وأغفلوا كثيرا من الخبر الذي ينبه فيه النبي صلى الله عليه وسلم إلى ما يجب أن يحمله المسلم من تصور عن مجتمع النبي صلى الله عليه وسلم.

وهذا الأمر ليس بهذا الهون، بل قد لا ينتبه إليه الكثيرون فيقولون إنه من الأفضل وخير أن نجعل الناس ينظرون بمثالية لمجتمع النبي ولا نكسر نظرتهم حفاظا على بيضة الدين، وهذا من الخطأ الجسيم ، فبهذا المنطق الذي انبنت عليه تصورات أخرى قد تكون نفعت في زمن الحجر واحتكار المعلومة؛ لكن اليوم بسبب هذه المغالطات خرج كثير من الشباب من الإسلام لما علموا أنهم استغفلوا في كثير من النظر، ومن بينه النظر لمجتمع الصحابة من زاوية مثالية مغلوطة لا أقرها الكتاب المنزل ولا الصحيح المؤول من السنة. والعلة في ذلك إغفال مفهوم القرآن إلى منطوق الأثر والتدليس الذي روج له بنو أمية للتغطية على جرائمهم في قتل المؤمنين، وأرادوا أن يوهموا الناس بعصمة الصحابي حتى لا تنظر العامة إلى أفعالهم كذنوب لا تغتفر فيكون لهم أن يقتلوا ويغزوا ويسبوا المؤمنات بلا حسيب أو رقيب؛ فقط لانهم رأوا النبي صلى الله عليه وسلم.

إن الخطأ الذي غمت به الوهابية على الناس مرده إلى مراجعهم من أهل الحديث حيث وسعوا مفهوم الصحابي ليشمل كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم. يقول ابن الصلاح: (اختلف أهل العلم في تعريف الصحابي؛ فالمعروف من طريق أهل الحديث: أن كل مسلم رأى رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فهو من الصحابة) . ويدل على هذا قول الإمام البخاري والإمام أحمد حيث جعلوا الرؤية كافية؛ بل وقلدهم في هذا غالب مدرسة أهل الحديث المسماة اليوم سلفية؛ فقال الشيخ ابن تيمية: (كل من صحب النبي صَلَّى الله عليه وسلم سنة أو شهرًا أو يومًا أو رآه مؤمنًا به فهو من أصحابه له من الصحبة بقدر ذلك). ويقول المروزي وهو من أصحاب الشافعي وعرف بانتصاره لأهل الحديث: (أصحاب الحديث يطلقون اسم الصحابة على كل من روى عن النبي صَلَّى الله عليه وسلم حديثًا أو كلمة، ويتوسعون حتى يعدون من رآه رؤية من الصحابة، وهذا لشرف منزلة النبي صَلَّى الله عليه وسلم، أعطوا كل من رآه حكم الصحبة).

وهذا القول هو وإن كان غرضه؛ سواء نية أهل الحديث في تشريف النبي صلى الله عليه وسلم كما قال المروزي؛ أو نيتهم توسيع باب الأخذ في الرواية؛ فإن هذه النظرة لمجتمع مختلف جنت على الأمة كثير الجناية، فالمعلوم عند كل المدارس العقلية والاجتماعية والنفسية والواقعية ؛ أن النظر لكم غير منسجم من الناس على أنه كم متشابه متفق قلبا وقالبا بما يخالف الطبيعة البشرية هو مستحيل عقلا قبل أن يستحيلا شرعا. وعلى هذا اختلف أهل العلم من أهل السنة والجماعة بل بعض من أئمة السلف القريبين من مجتمع النبي؛ اختلفوا مع أهل الحديث في النظر لمجتمع النبي صلى الله عليه وسلم، ورأوا أن القول بما رأى أهل الحديث لا يصح عقلا، يقول المازري في شرح البرهان: “لسنا نعني بقولنا: الصحابة عدول كل من رآه -صلى الله عليه وسلم- يوما ما، أو زاره يوما ما، أو اجتمع به لفرض وانصرف عن كثب, وإنما نعني به الذين لازموه وعزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون” وسمع عن سعيد ابن المسيب ذهابه أكبر من هذا إلى القول: لا يَعُدُّ الرجل صحابيا إلا من أقام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة أو سنتين أو غزا معه غزوة أو غزوتين” وأقل من هذا في غير الاكتفاء بالرؤية ذهب الآمدي والباقلاني وجملة من الأصوليين من أهل السنة والجماعة.

فيظهر أن ما ذهب إليه أهل الأصول تقبله العادة ويستسيغه العقل وهو على الأقل متقدم جدا على نظر أهل الحديث ، فالصحبة ليس شرطها فقط الرؤية، وليس كل من رأى شخصا أو جالسه أو سمعه يوما يسمى صاحبه؛ وإنما شرط الصحبة الإيمان والملازمة والتضحية، والتي على أساسهما تفاضل الصحابة ومدحوا على قدرهم، فخالد ابن الوليد لن يشك أحد في أنه من صحابة النبي صلى الله عليه وسلم، لكن النبي صلى الله عليه وسلم فضل أهل بدر عليه رغم ذوده الشديد عن حرمة الدين. فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: يا خالد لا تؤذ رجلا من أهل بدر، فلو أنفقت مثل أحد ذهبا لم تدرك عمله. بل على هذا الأساس في التفاضل قام المدح فقال عز وجل: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ).

ويقول أيضا: ( لَا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ)
فالناظر في منقول الكتاب لا يجد أن شرط الصحبة والفضل هو الرؤية، ولكن الشروط التي يضعها القرآن في الخيرية هي السبق للإسلام ونصرته صلى الله عليه وسلم والجهاد بالمال والنفس. فهذا هو صريح القرآن وهو الوحي المنزل وليس الحكم قول الرجال. بل على هذا الشرط من الاتباع بإحسان يتفاضل أهل هذا الزمان مع أهل السبق كلهم ماعدا من نزل القرآن مادحا لهم وشاهدا على نجاتهم، وإلا بعد انقطاع الوحي لا يكون التفاضل إلا بالعمل الصالح كما دلت على هذا أخبار النبي، بل إن فضل المهاجرين والأنصار حده العمل الصالح ولا يتعداه إلى جعلهم قدوة في كل شيء، فحد التضحية والإيمان والتقوى لا يوازيه حد رجاحة العقل ومهارة النفس التي قد يتفاضل بل قد يبرع فيها الكافر على المؤمن لأن شروطها حكمة الله والأخذ بالأسباب. فلو كان الصحبة شرطها الملازمة والرؤية ما فضل الله ورسوله بعض الصحابة على بعض.

فعلة الوهابية هي جعلهم كل من رأى النبي صلى الله عليه وسلم فهو عدل، بل غالوا في تقديسهم وإعلائهم من غير شرط، وعلى أساس الرؤية فقط قالوا رضي الله عنهم أجمعين؛ يقصدون من رأى النبي صلى الله عليه وسلم دون اشتراط ما اشترطه القرآن، فالقرآن بالنسبة لهم عالة على الأثر وقول الرجال مما اشتبه عليهم وضع بني أمية، حتى قالوا قولا شنيعا: غبار دخل في أنف معاوية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من عمل عمر بن عبد العزيز. وهذا قول لو أخبرت به أحدا من العالمين لأشعنه عليك. فنقول للعالمين: اقرؤوا دستور المسلمين واتركوا أقوال هؤلاء، فالقرآن فضل الناس بإيمانهم وعملهم وتقواهم وليس بشرط الرؤية مع شنيعة الفعل. يقول القرآن: إن أولى الناس بإبراهيم للذين اتبعوه وهذا النبي والذين آمنوا والله ولي المؤمنين . فولاية الله مقرونة بالإيمان والتقوى والصبر والصلاح، ولا وجود مطلقا في دستور المسلمين جعل الولاية مقرونة بالرؤية. ولا يوجد في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم إقرار بالعصمة والنجاة بالصحبة بله بالرؤية والإسلام فقط. فحتى الذين بايعوا النبي صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ورضي الله عنهم بصريح القرآن إنما سماهم المؤمنين وزكى ذلك بعلمه سبحانه بما في قولبهم، إذ أن صلى الله عليه وسلم لا يحكم لأحد بالإيمان إلا بوحي وعلم، فهو عليه السلام لا يعلم ما في القلوب، ولا يعلم عدد من حوله من المنافقين والذين كان يعاملهم على أساس أنهم مؤمنون، فنفى الله علم نبيه لما في قلوبهم فقال عز من قائل: لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين …

فالذي يقرأ القرآن يلفي بواضح العبارات وصريحها أنه كان يتحدث عن الصحابة كمجتمع مختلف فيه الصالح والطالح، فهو يلومهم تارة ويثني عليهم تارة ويمدح أفعالهم وأقواهم تارة ويذم أفعالهم وأقوالهم تارة أخرى، وهذا يمكن أن يفهمه بسهولة أي قارئ للقرآن متدبر لا متبرك معطل فهمه ونظره. فالصحابي مهما علا شأنه ليس معصوما وصريح النصوص تظهر في عشرات المواضع أنهم معرضون للخطيئة، يقول الله عز وجل في أحب الناس إلى قلب النبي أزواجه أمهات المؤمنين: يا نساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ” وقال عن ابنته فاطمة رضي الله عنها: لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها’ ويقول الله عز وجل في قصة الوليد بن عقبة: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوما بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين .

ولا يسع الحيز لذكر عشرات الآيات والأخبار التي لا تتطلب الكثير من الجهد بل هي مشهورة جدا. هذا مع أنه لا يخفى على مطلع أن أهل الحديث يعترفون بكون الصحابة تقع منهم الهنات والمعصية والكبائر، فهذه أمور لا نختلف فيها، بل إني قد أسلم لهم في كون من رووا عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس منهم منافق أو متهم في دينه إلا قلة قليلة لا ينتبه إليها. ولو أنا وضعنا المعيار الذي يضعه رواة الحديث بصرف النظر عن صلاح أو فساد الصحابي فإن الحكم على مجتمع بأتمه بكونه لا ينسى فهذا ما لا يقبله عقل ولا شرع بدليل تكذيب الصحابة لبعضهم بعضا في مناسبات كثيرة، والذي على أساسه كان خبر الواحد فيه نظر عند أهل السنة من الأشعرية وغيرهم بينما نظر أهل الحديث إلى أن كل ما صدر عن الواحد ملزم في العمل والاعتقاد فجاؤوا بالكوارث العظام وأدخلوا من الدين ماليس منه، فاتخذ هذا الجهال وجعلوه دليلا على فساد دين الإسلام.

وأصل هذه النظرة لا تختص بها الوهابية وحدها وإنما انتقلت حتى للجماعات الإسلامية كلها حيث يطغى خطاب الوعظ والرد لبناء النموذج الأخلاقي، فالوعظ لجعل العامة ينظرون للبديل في ماضيهم المثالي، والرد مخصوص لصد النموذج الغربي في السياسة والاجتماع ببديل إسلامي ولو على حساب التاريخ. فانتشرت العمريات المنتقاة بدقة وعناية وغابت بشرية الصحابة في صرخات ومثاليات الوعاظين والدجالين. ونحن لا نختلف بكون زمن الصحابة يبقى من خير القرون لما جمعه من خيرة الناس، ولا يكون غرضنا من إثارة هذه النقطة إحداث النواعر والطعن في ميت أفضى إلى ما قدم ولا فائدة عندي في ذلك، ولكن حاجتي هي القطع مع ثقافة جعل الإسلام ضعيفا في حاجة للكذب والافتراء ليكون. فالذين تضعف نفوسهم فيكذبون يعتقدون أن الإسلام هو أيضا على قياس نفوسهم حتى أغرقوا الإسلام في الخرافة ظنا منهم أنهم ينتصرون له. وقديما عندما قيل لأسلافهم ما تواتر من الحديث في من كذب علي متعمدا؛ قالوا نحن لا نكذب عليه وإنما نكذب له؛ وهذا من الجهل البئيس أن يضعف الإسلام حتى يكون في حاجة لمن يكذب له.

إن الناظر في كتب السير يلفي حقيقة مجتمع الصحابة خاصة بعد وفاته صلى الله عليه وسلم؛ فالفرد في المجتمع يعيش حياته كما نعيشها نحن اليوم؛ بين سكير عربيد وصالح زاهد وغشاش ومقسط ومحب للحياة زهو بها، وبين نافر منها يرجو الآخرة؛ من الذين رباهم النبي صلى الله عليه وسلم، وزمن الفتنة شاهد على تلك الطبيعة البشرية التي ينصدم منها فقط المغشي عليه من خطاب الوعظ والمثاليات، لكن العارف بطبائع النفس والاجتماع لا ينصدم في ذلك مطلقا؛ بل لا يكون له عليه أي تأثير في الثقة في من وصفوا بالصلاح في مجتمع النبي فيتخذهم قدوة من غير غلو يأخذ منهم ويرد؛ وهذا خير من أن ينصدم فتنقلب حياته كما كادت أن تنقلب بي لولا الفضل من الله. يقول الله تعالى عن أصحاب النبي المصطفى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُم بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُم مِّن بَعْدِ مَا أَرَاكُم مَّا تُحِبُّونَ مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنكُمْ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ . فالكتاب يقر أنه في جيش رسول الله من يريد الدنيا ومن يريد الآخرة؛ ولكن خطابات الشيوخ والوعاظ تابى إلا أن تغم على حقيقة الخطاب القرآني.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *