وجهة نظر

السر الأعظم

تأسست العلوم المعاصرة خلال عصر النهضة، حيث خرجت من تحت رداء الفلسفة وانشقت عنها. وقد آمنت في بداية نشأتها أن ما من حقيقة يمكننا الاقتناع بها غير تلك التي تثبتها التجارب، وبالتالي لا توجد أي حقيقة مفارقة ومتعالية عن الظواهر الملاحظة. لقد كان المبدأ العام الذي بنيت عليه العلوم التجريبية مبدأ مادياً أو على الأقل يفصل بين عالم المادة وعالم الروح، غير أن تطور العلوم وصل منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر إلى ظهور موضوعات جديدة تشتغل عليها، خاصة في العالم المتناهي في الصغر، «عالم الذرة والجزيئات الصغيرة «والعالم المتناهي في الكبر، «عالم الكواكب والمجرات»، وهي موضوعات لا يمكن مقاربتها والتجريب عليها بالطريقة نفسها التي كنا نجرب على الطبيعة المعتادة، ما أدى إلى ظهور ما عرف بـ «أزمة التجربة ».

تعمقت «أزمة التجربة» مع الفيزياء الكوانطية التي قدمت عالماً غريباً يختلف شكلاً ومضموناً عن العالم المعتاد لدينا، إذ كيف يمكن للشيء أن يتحرك بقفزة فجائية، فينتقل من مكان إلى آخر دون أن يضطر إلى قطع المسافة الفاصلة بينهما، بل كيف يمكنه أن يوجد في الآن ذاته في أكثر من مكان واحد، وكيف للشيء أن تكون له طبيعة مزدوجة طاقيّة ومادية، وأن يؤثر عنصر على عنصر آخر رغم غياب رابط بينهما، وهو ما اصطلح عليه بالتشابك.

إن روحانية الفيزياء المعاصرة معناها أن المادة ليست مجرد مادة جامدة، وأن الطبيعة ليست مجرد جوهر ممتد خال من الروح وقابل فقط للملاحظة والقياس. ثمة شيء خفي في هذا العالم يتجاوز فهمنا العادي، نظام سام يقبع خلف الظواهر، في إمكان الإنسان التواصل معه، وهذه هي الخلفية العميقة للكون برمته، التي يسميها غريغ برادن الماتريكس الإلهي.

ما هو إذن هذا الماتريكس أو المصفوفة الإلهية المبثوثة في الكون كله، والتي يتعين علينا إدراكها كي نعيش في انسجام وتناغم معها؟
ثم ما الذي يمكن أن تقدمه روحانية الفيزياء المعاصرة في حل مشاكل الحاضر ؟

المصفوفة الإلهية
يعتبر غريغ برادن المولود عام 1954 واحداً من أهم الباحثين المعاصرين الذين يطمحون إلى مد الجسور بين العلم والروحانية، ودراسة حكمة القدماء بغرض دمجها في الحياة المعاصرة، خصوصاً ما يتعلق بإيجاد علاجات لبعض الأمراض التي استعصت على الطب الحديث، إضافة إلى العمل على بلورة رؤية جديدة تضع الإنسان في مكانه الصحيح داخل الطبيعة والكون بصفة عامة، ويعتبر غريغ برادن عالماً في مجال العلوم الطبيعية، ومصمم البرامج المرتبطة بعلوم الفضاء. له العديد من الكتب التي احتلت لسنوات أفضل الكتب مبيعا في العالم، نذكر منها على الخصوص كتابه الماتريكس الإلهي، وشيفرة الله، وكتاب اليقظة عند النقطة صفر وغيرها من الكتب.

إن فكرة الماتريكس ليست جديدة، فقد وردت عند ماكس بلانك، الأب الروحي للفيزياء الكوانطية، والذي صدم العالم سنة 1944 حينما أكد أن الماتريكس هي المنبع الذي ولدت فيه كل ظواهر الكون، سواء الحية أو الجامدة من نجوم وكواكب، بل وحتى جزيئه الحمض النووي DNA ، والآن مع التطورات التي عرفتها العلوم المعاصرة، خاصة الفيزياء الكوانطية، هناك إثباتات بأن هذا الماتريكس موجود بالفعل، وليس مجرد نظرية علمية افتراضية، ولكن ما هذا الماتريكس الذي يقبع خلف كل شيء موجود، وكيف يمكننا فهم وإدراك اللغة التي يتحدث بها؟

يؤكد برادن أن الماتريكس ما هو إلا حقل طاقي يوحد كل ما هو موجود، وكانت الميكانيكا النيوتونية تعتبر أن الفراغ الكوني خال من أي شيء، غير أن الفيزياء الكوانطية تؤكد أنه مليء بالطاقة، فما تسميه بالفراغ الكوانطي هو عبارة عن طاقة تتصرف بشكل ذكي، ليس الفراغ هو المكان الذي لا يحدث فيه أي شيء، بل بالعكس، إنه المكان المليء بالأحداث التي تجري على المستوى المتناهي في الصغر، والتي تترك تأثيراً كبيراً في عالمنا الكبير. فالمسألة ليست مجرد فرضية، بل تم التحقق منها تجريبيا.

تأثير كازيمير الشهير
اكتشف الهولندي هندريك كازيمير سنة 1948 أنه بين لوحين متوازيين تفصل بينهما مسافة صغيرة، يوجد مع ذلك حقل قوة متبادل، رغم أن اللوحين غير مشحونين بطاقة تؤثر عليهما، وفي الفضاء الخارجي فإن الجسيمات الصغيرة تظهر من لا شيء، وهذا ما يطلق عليه « الفراغ الكمي» ، فنحن لا نعيش داخل الفراغ، بل الكون برمته، بما يتضمنه من كواكب ونجوم ومجرات يسبح داخل رغوة كمية من الطاقة المتذبذبة، بالنسبة إلى غريغ برادن الماتريكس، فهو هذه المادة الحية والذكية التي توحد الكون من ظواهره الصغرى، وإلى غاية ظواهره الكبرى.

وتظهر الطبيعة كما لو أنها شبيهة ببرنامج حاسوبي هائل يمكننا التواصل معه فقط، بواسطة قوة الوعي والتأمل والحس العاطفي الصادق، على أن نفهم أن الماتريكس ليس شيئاً يمكن تعينه في مكان ما، إنه القوة الخفية الشاملة التي توحد وتجمع كل شيء من اللامتناهي في الصغر إلى اللامتناهي في الكبر، وبهذا الفهم الجديد للكون يؤكد غريغ برادن أنه يمكن للعلم أن يتصالح مع الروحانية، بحيث لا يلغي أحدهما الآخر.

التواصل مع الماتريكس
يمكن القول بأن الماتريكس هو حلقة الوصل بين الجامد والحي، حيث يمكننا التواصل معه ـ كما أشرنا سابقاً ـ عبر القوة الروحية التي نحملها داخلنا، ويعتقد غريغ برادن أن الإنسان فقد القدرة على مثل هذا التواصل، غير أن هذه الإمكانية مازالت حاضرة بقوة داخل الثقافات القديمة، في كتابه تأثير إشعيا، أو كذلك كتاب الأسرار الضائعة لفن الصلاة، يعود برادن إلى الاستشهاد بهذه الثقافات كي يستثمر مثال هذا النبي، ويستعيد إمكانات هذا العلم الضائع، علم التنبؤ بالمستقبل، أو علم المعجزات الروحية.

لقد كانت الفيزياء الكلاسيكية تؤمن أن الموضوعية تقتضي أن يدرس العالم الظاهرة الموضوعة أمامه، دون أن يقحم ذاته فيها، لكن هاهي الفيزياء الكوانطية تكتشف من خلال تجربة الشق المزدوج أن حضور الذات له تأثير كبير على الظواهر الملاحظة. ولأول مرة في تاريخ البشرية يتم النظر إلى الوعي، وهو ظاهرة لامادية، ككيان يؤثر على الظواهر المادية، وكأن الطبيعة تتعامل معنا، ليس كمجرد ملاحظين، بل كمشاركين، والفكرة لم تكن مستساغة حتى بالنسبة إلى أينشتاين، الذي ظل يؤمن أن الإنسان يقتصر دوره على ملاحظة الظواهر، وأنه لا يمارس أي تأثير عليها. غير أن جون ويلر، وهو آخر معاوني أينشتاين يؤكد أنه علينا أن نغير نظرتنا إلى الإنسان من كونه مجرد ملاحظ سلبي للظواهر إلى مشارك لها.

ما تفيده تجربة الشق المزدوج هو أن الفوتونات تتصرف كموجة عند عبورها لشقين على اللوح، رغم أنها عبارة عن حبيبات صغيرة، ولا تتوقف غرابة هذا الأمر هنا، بل إنها تتزايد عندما نعلم أن ملاحظتنا لهذه الظاهرة من أجل الوقوف على سببها، أي معرفة لماذا تتصرف الفوتونات كموجات، وليس كجسيمات، هذه الملاحظة بالذات جعلت الفوتونات تغير سلوكها وتتصرف من جديد كجسيمات، وما تؤكد عليه حكمة القدماء، وتبرهن عليه الفيزياء الكوانطية هو أننا جميعاً مترابطون كجنس بشري، وما يقع على الأرض من أحداث يؤثر علينا كلنا، ويؤثر على الكرة الأرضية كذلك، وهذا ما أثبتته أجهزة الرصد خلال ضربات 11 من سبتمبر، حيث الترددات الكهرومغناطيسية للأرض مباشرة خلال الخمسة عشرة دقيقة التي أعقبت الضربات. إن هذا مثال حي يؤكد أن الوعي وهو ظاهرة لامادية، كما يمكن أن يؤثر على الظواهر المادية، وكأن الطبيعة تتعامل معنا ليس كمجرد ملاحظين، بل كمشاركين.
لقد بنيت الحضارة الغربية برمتها على مبدأ الثنائية الضدية، إما أنك بجانب العلم أو أنك بجانب الروحانية. الطرفان يلغيان بعضهما البعض. هذه هي نفسها الثنائية التي وجدت تجليها الأكبر في الفلسفة الديكارتية، الجوهر المادي في مقابل الجوهر الروحي، حيث علينا أن نختار أحدهما ضد الآخر. أما اليوم فقد أصبحت الأمور أكثر تشابكاً. فعندما نتحدث عن الفيزياء الكوانطية فنحن نتحدث في حقيقة الأمر عن علوم غير تقليدية، تعمل على قلب المفاهيم العتيقة التي رسختها العلوم التجريبية خلال عصر النهضة، متجاوزة تلك القسمة الثنائية الحادة بين عالم المادة وعالم الروح. وتتراكم الأبحاث بشكل تدريجي منذ أواخر القرن العشرين باتجاه بلورة علوم تتصالح مع الروحانية التي عرفتها كل شعوب الأرض منذ قديم الزمان.

الوعي المريض
حكمة القدماء في نظر غريغ برادن لا تتناقض مع العلوم المعاصرة، فالروحانية التي نجدها لدى الصينيين ورهبان التيبت والشامانيين والهنود الحمر في أميركا وغيرها من التراثات الصوفية والروحية العالمية، تمتلك إمكانات هائلة لتقديم حلول كبيرة لبعض مشاكل الإنسان المعاصر، وعلى رأسها علاج بعض الأمراض المستعصية كالسرطان مثلاً. إن الوعي والعواطف والمشاعر البشرية تلعب دوراً كبيراً في تشكيل طبيعة علاقتنا بأنفسنا وبالكون، أي أن عالمنا الداخلي له تأثير على العالم الخارجي الذي نعيش فيه، أليست هذه الحقيقة وحدها تؤكد أن وعينا المريض ومشاعرنا المضطربة هي السبب في الأزمات الصحية والروحية التي نعيشها اليوم؟

رنين الأرض
من بين أهم الإنجازات العلمية التي قام بها غريغ بران حسابه للبطء التدريجي لدوران الأرض حول نفسها، وكذلك حساب تسارع موجات الرنين المغناطيسي الأرضي، المعروف برنين شومان، وهي ترددات كهرومغناطيسية تحدث في الطبقات العليا من الكرة الأرضية، وبالضبط في طبقة الأيونوسفي، وكان الفيزيائي الألماني ويلفريد أطو شومان قد افترض وجودها سنة 1950 وتم إثبات وجودها بعد ذلك في الستينيات من القرن الماضي، أما غريغ برادن فقد أثبت أنها لم تعد مجرد ترددات طبيعية منخفضة، بل هي في تصاعد، ما يجعل لها تأثيراً كبيراً على موجات دماغ الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *