وجهة نظر

سوسيولوجيا الخطاب الملكي وقضايا الشباب المغربي في ذكرى 20 غشت

من وجهة نظر سوسيولوجيا الخطاب، فالخطاب الملكي معني بما قاله فرانسوا لميدورفر François Leimdorfer في كونه يعمل على تمتين العلاقات وتقويتها، وذلك نظرا لكونه وسيلة للتعبير عن التفاعل الاجتماعي الملكي مع المجتمع بمختلف قضاياه و فئاته، خاصة وأن خطب صاحب الجلالة نصره الله تتميز بخاصية فريدة وهي أنها تستهدف في ذات الآن وبشكل ناجح جدا جميع الفئات الاجتماعية بما في ذلك فئة الباحثين طبعا.

فقد قدمت خطب صاحب الجلالة دوما مفاهيم علمية و براديغمات ( نماذج فكرية) غير مسبوقة، و لا شك أن النموذج التنموي المغربي أحد هذه المقولات العلمية، إذ يمكن أن نعتبره، من وجهة نظر سوسيوأنثربولوجية، إجابة عن سؤال حير المفكرين زمنا طويلا بشأن طبيعة المجتمع المغربي التي شكلت عبر التاريخ مصدر قوته، المجتمع الذي سماه بول باسكون Paul Pasconالمجتمع المركب، ذلك أن بلدنا المغرب يعيش التنوع السوسيوثقافي والسوسيومجالي داخل الوحدة، لذلك أعتقد أن النموذج التنموي المغربي حسب الفكر الملكي يشير بشكل ضمني إلى ضرورة اعتماد هذه الخصوصية المغربية في صياغة هذا النموذج، لهذا فالأمر يتعلق في جانب منه بمجهود علمي ضخم يتعين علينا القيام به من واجبنا كباحثين للمساهمة في هذا المشروع الواعد، وقد حرص صاحب الجلالة على إظهار صرامة مفهوم النموذج التنموي من خلال اقتراح مجموعة من الخطوات العملية، كإعداد السجل الاجتماعي و صياغة استراتيجية وطنية مندمجة تخص فئة الشباب المغربي باعتبارهم قاطرة للتنمية.

لقد أشار خطاب صاحب الجلالة في 20 غشت إلى أحد العناصر الأساسية التي تؤثر في الوضع التنموي بالمغرب وهو فئة الشباب والظواهر المحيطة بها، ولا شك أن هذا التحليل ينسحب على المجتمع الافريقي قاطبة نظرا لأن حوالي أربعين في المائة من الساكنة الإفريقية هم من الشباب.

في هذا الإطار، قدم صاحب الجلالة في الخطاب الأخير تحديدا جديدا لمفهوم الشباب في السياق المغربي، من خلال تجاوز التحديد السوسيوديموغرافي إلى صياغة تحديد متعدد المحددات، تتظافر فيه مختلف السجلات لتعيين وضع الشباب، عبر الانطلاق من معطيات دقيقة، تفيد بوجود ظواهر سلبية ذات طبيعة عنقودية، تحرك ظواهر أخرى سيئة و يتعلق الأمر على الخصوص بظاهرة البطالة.

لقد قدم الخطاب الملكي الأخير مقاربة وظيفية تؤكد أنه يجب تحضير الشباب للقيام بالأدوار المنوطة بهم من خلال تعديل السياق الذي يحيط بهم، بكل تنويعاته الاجتماعية، الاقتصادية، التربوية القيمية، وذلك عبر آلية الادماج الاجتماعي، كل ذلك لن يتحقق إلا من خلال خلق عوامل الجذب الاجتماعي، وهنا نجد كيف برع صاحب الجلالة في نقل مفهوم الجاذبية من معناها الاعتيادي الاقتصادي والمجالي، ليوسع هذا المعنى ليشمل كافة الظروف الاجتماعية دون استثناء، وقد وضع صاحب الجلالة اليد على الشفرة التي تمكننا من تفعيل هذه الجاذبية وهي قيم “الثقة والأمل في المستقبل”، باعتبارها نقطة ارتكاز التمثلات الاجتماعية Représentations sociales التي تعتبر بنية ذهنية حول الواقع الاجتماعي، و هي قيم من شأنها الرفع من منسوب الفعالية والإيجابية خدمة للمجتمع.

ولاشك أن المشروع الملكي للنهوض بواقع الشباب هو مشروع تربوي وحداثي في ذات الآن، لذلك كان التركيز على التكوين العلمي والمهني و التلقين الثقافي، حيث أكد صاحب الجلالة على ضرورة وضع ميكانيزم دقيق يحيل فيه التكوين على التشغيل المناسب، وكل ذلك لن يتحقق إلا من خلال إعادة النظر في التخصصات الجامعية والمهنية وتأهيلها لتلائم سوق الشغل، ذلك أن ربط العمل بالتخصص يعتبر من الشروط الأساسية للانتقال من التحديث إلى الحداثة بمساهمة الكفاءات المغربية من الشباب.

إن مقاربة صاحب الجلالة لموضوع الشباب المغربي هي مقاربة بالفعل، الفعل كما رصده مارسيل موس Marcel Mauss باعتباره فعلا كليا تعتمل في مختلف السجلات الاجتماعية الاقتصادية الثقافية السياسية…وفعلا عقلانيا كما تناوله ماكس فيبرMax Weber بحيث يسير نحو تحقيق هدف مسطر، لذلك يحمل خطاب صاحب الجلالة الأخير سلسة إجراءات عملية وملموسة من شأنها أن تنهض بوضع الشباب المغربي، و ترفع لديهم مشاعر الثقة والأمل في المستقبل.

* أستاذة علم الاجتماع والأنثربولوجيا بكلية الاداب والعلوم الانسانية – جامعة القاضي عياض مراكش

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *