وجهة نظر

المشاركة السياسية: الحكم المحلي نموذجا.. (3/4)

(1)

خَلُصْنا في الحلقات السابقة إلى أن للحكم المحلي العربي في إسرائيل وجهان. الأول، يخص المجتمع العربي ولا دخل للحكم المركزي فيه غالبا.. أعنى: 1. حسن استعمال وتنفيذ قانون الانتخابات البلدية بما يحقق الأهداف ويضمن ممارسة الاختصاصات بما يخدم مجتمعاتنا العربية بأعلى مستوى ممكن من الاحترافية. 2. تطوير الثقافة والأداء السياسيين في مجتمعنا العربي من خلال اختيار أفضل المرشحين وأكثرهم كفاءة ومهنية للرئاسة والعضوية.. 3. اختيار التشكيلات السياسية الأقرب إلى روح العصر التي تخوض الانتخابات (قوائم عائلية او حزبية محسنة ومتطورة، أو…).. 4. تحديد البرامج السياسية البعيدة عن الإيغال في الأوهام واللاممكن، والملامسة للواقع والمستجيبة لتحدياته، وذات المصداقية والموضوعية والواقعية العالية.5. اختيار أساليب الدعاية الانتخابية عالية المستوى في مبناها ومعناها، وغيرها من القضايا. 6. تمثيل المجتمع العربي بالشكل اللائق في المؤسسات ذات الثقل النوعي والتأثير الكبير على مجمل أداء الحكم المحلي ك – “مركز السلطات المحلية في اسرائيل”، والذي يشكل الرؤساء العرب فيه نسبة لا يستهان بها، يمكنها ان تضع بصمتها على عمل المركز بما يخدم مصالح البلديات والمجالس العربية، و “الشركة الاقتصادية للسلطات المحلية” وهي الرافعة الاقتصادية للحكم المحلي وغيرها من المؤسسات الفاعله. 7. التطوير المستمر لعمل “اللجنة القطرية لرؤساء البلديات والمجالس العربية”، وهي الممثل الشرعي والوحيد للحكم المحلي العربي أمام المؤسسات ذات الصلة عل المستويين الرسمي والشعبي في إسرائيل..

علينا ان نعترف أن هذه كلها إنما تقع تحت سيطرة مجتمعاتنا نفسها، وهي التي تتحمل المسؤولية الكاملة عنها سلبا او إيجابا.. فكلما كان أداؤنا كمجتمع عربي مهنيا واحترافيا ومبدئيا، كانت النتائج أفضل، والعكس صحيح..

اما الوجه الثاني، فهو في قبضة الحكم المركزي بالكامل، ويتحدد في: 1. مناطق النفوذ التي حددها لكل بلدية سعةً وضيقا، ومدى استجابتها لحاجات سكان المدينة الحقيقية. 2. الخرائط الهيكلية المصادق عليها، ومدى مطابقتها للواقع، وشمولية الحلول التي تطرحها لحل أزمات المدينة العربية المتراكمة. 3. حجم حرص الحكم المركزي على تطوير مصادر دخل البلدية العربية من خلال المصادقة على مناطق صناعية وتجارية متطورة. 4. حجم الميزانيات المقررة للحكم المحلي العربي (عادية وتطوير وغيرها)، مقارنة مع تلك المخصصة للحكم المحلي اليهودي. 5. قدرة البلدية العربية على تقديم الخدمات المتنوعة والمتطورة لسكانها مقارنة بقدرة البلدية اليهودية. 6. مدى جدية الحكم المركزي في دعم الحكم المحلي العربي في مواجهة المخاطر والتحديات التي تواجهها المدينة العربية، بما في ذلك التحرك الحقيقي لمكافحة العنف والجريمة المتفشية أسوة بتحركها في المجتمع اليهودي. كل هذه القضايا وغيرها هي بيد الحكم المركزي الإسرائيلي حصريا، وهو المسؤول الأول والأخير عن تنفيذها وتقديمها، ولذلك لا يمكن تحميل الحكم المحلي العربي المسؤولية عن أي تقصير في هذا الصدد ما لم يوفر له أدوات الفعل الحقيقية!

(2)

نستطيع أن نقول بلا تردد أننا في الحركة الإسلامية، ومن خلال تجاربنا في إدارة عدد من البلديات والمجالس المحلية، أننا أحدثنا اختراقا نوعيا في الملفين المذكورين.. بالرغم من الكثير من المعوقات والعراقيل التي تضعها الحكومات في وجه البلديات والمجالس العربية.

أما في الملف الأول، فقد نجحت الحركة الإسلامية في نقل مجتمعاتها من نمط الانتخابات التقليدي (عشائري وحمائلي) إلى نمط سياسي جديد يتميز ب – 1. انه أيديولوجي فكري عابر للعائلات التي ظلت تحظى بالاحترام والتقدير مع الحرص على تطوير أدائها بما يتفق مع روح العصر 2. يقدم الكفاءة فقط سواء على مستوى الرئاسة او العضوية 3. يحمل رسالة تركز على المصلحة العامة بعيدا عن المصالح الخاصة غير القانونية وغير المشروعة 4. يكرس ثقافة العمل السياسي الرصين المبني على البرامج الواضحة والشفافة وتداول السلطة من خلال تحالفها 5. المزاوجة الذكية بين الوطني والخدماتي المطلبي 5. يحاول قدر المستطاع تحرير الجهاز الإداري من ابتزاز مجموعات الضغط، ومراكز القوى وأصحاب المصالح الخاصة 6. يعزز ثقافة احترام القانون، وحماية المُلك العام 7. تعزيز ثقافة الانتماء المجتمعي والالتزام الذاتي من خلال تنفيذ مشاريع تطوعية دورية، وتعميق القيم الوحدوية على قاعدة أن قوة الوطن إنما هو ثمرة لترابط المجتمع وتماسكه، وتمسكه بعقيدته، وأن ضعفه في تفككه وانتشار الخلافات والخصومات والامراض الاجتماعية المختلفة فيه، وتعطيل المكونات الحية وخصوصا فئة الشباب. 8. استكشاف المهارات والطاقات المميزة في كل فئات المجتمع وخصوصا في قطاع الطلاب والشباب، ووضعها على الطريق الصحيح حتى تحقق ذاتها. 9. الاهتمام بالمؤسسات التربوية والتي عليها الدور الأكبر في تنمية وتدعيم الانتماء في الوطن، كالأسرة، والمدرسة، والمسجد، والنادي والمراكز الجماهيرية، وحتى المقهى الذي يجتمع فيه الشباب لقضاء أوقات فراغهم، وتشجيع الاعلام الهادف والبَنَّاء للمساهمة في تنمية الوعي الوطني، وتوجيه طاقاته نحو نهضة المجتمع وتقدمه، وغرس الانتماء لدى المجتمع، والعمل على وحدته العضوية. 10. الوقوف بحزم وقوة وبشكل منهجي ومؤسساتي في مواجهة جميع الملوثات الفكرية والأخلاقية التي تهدد تماسك المجتمع العربي، ومحاربة السلبية والانكفاء نحو الذات والانانية، والعمل على خلق تربية وثقافة وطنيتين ذات مرجعية اسلامية، ووعي مواطني، لدى عموم أفراد المجتمع، وغرس القيم الإسلامية الإنسانية بوصفها الضمان الوحيد لتحقيق السلم والاستقرار والآمن المجتمعي.

اما في الملف الثاني، فقد كان أداء الرؤساء من الحركة الإسلامية مهنيا حتى النخاع، الأمر الذي حظي باحترام كل المسؤولين على جميع المستويات الحكومية، وهيأ الظروف المناسبة للحصول على الدعم وإن ظل حتى هذه اللحظة تحت المستوى الذي نطمح اليه ونتمناه.. أذكر هنا انه وفي انتخابات العام 1989 وبعد ان حققت الحركة الإسلامية انتصارات كاسحة في عدد من المدن والقرى، خرج وزير الداخلية حينها (آرييه درعي) من حزب (شاس) الاصولي مصرحا: سنشتاق من الآن فصاعدا إلى (راكح/الحزب الشيوعي)، في إشارة منه إلى أن انتصار الحركة الإسلامية سيشكل مشكلة للحكومة المركزية قد تكون أشد تعقيدا من تلك التي شكلها الحزب الشيوعي حتى ذلك الوقت. لكنه عاد بعد بضعة أشهر وبعد ان التقى بالرؤساء من الحركة الإسلامية، ليعترف أنه كان مخطئا في انطباعاته الأولى، وأنه مقتنع الآن ان أمامه رؤساء شباب يعرفون ما يريدون، وأنهم جاءوا ليكونوا خدما لمجتمعاتهم لا سادة عليهم.

(3)

جعلت الحركة الإسلامية في صلب استراتيجياتها السياسية المحلية ضرورة تفعيل كل المجاميع المجتمعية وَمُكَوِّناتها، واستخراج أجمل ما فيها من إمكانات وقدرات وطاقات ومهارات، ونَظْمِها في إطار يتسم بالانسجام والتكامل على قاعدة أن البلد للجميع، وأنه لا حق لأحد فيها أكثر من الآخر، وأن الجميع فيها كَرُكَّابٍ في سفينة واحدة، مُهِمَةُ حمايتها وصيانتها والحفاظ عليها، أمانةٌ في أعناق الجميع بلا استثناء، وأن نجاتَها فيه نجاة للجميع، وغرقَها فيه حتفٌ الجميع.. منطلقنا في هذا كله الإسلام كدين جعل الوازع الداخلي (الضمير) هو الأساس في تحريك الانسان في اتجاه العمل الإيجابي تجاه نفسه وتجاه غيره، ودفعه إلى الابتعاد عن كل ما ينغص العيش الهادئ والمستقر في المجتمع، وتعزيز عملية ضبط النفس والهوى والميول الغرائزية الضارة، ومنعها من أن تنطلق من عقالها فتعيث في الأرض الفساد، كما في قوله تعالى: ( ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ).. لتحقيق النجاح في إنتاج (الضمير الحي) لا بد من تضافر كل الجهود على المستوى الخاص (البيت) والمستوى العام بما في ذلك هيئات المجتمع المختلفة وعلى رأسها البلديات والمجالس كجهات منحها القانون صلاحيات تنفيذية تستطيع من خلالها ان تساهم جنبا إلى جنب مع منظمات المجتمع الأهلي، في صياغة الانسان الأقرب إلى الصلاح منه الى الفساد، وهو الضمان للتطور الطبيعي للمجتمع بعيدا عن اية اهتزازات

ترى الحركة الإسلامية في المجتمع كله بكل مكوناته: البلدية او المجلس المحلي، والحركات والأحزاب والمنظمات الاهلية الفاعلة على الساحة بكل أطيافها وألوانها وأجنداتها الملتزمة بثوابت الأمة، أدوات في خدمة المجتمع، وتعبير عن إرادة الشعب، وهي قبل غيرها مطالبة بان تكون في طليعة عملية التغيير التي ننشدها، والإصلاح الاجتماعي الذي ننشده.

إن سَلَّمْنا بأن تَحَسُنّاً ما قد طرأ على مستوى حياة الأقلية العربية في البلاد، فليس هذا بالتحسن الحقيقي، وهو أقرب إلى الوهم منه إلى الحقيقة المؤَسِّسَّةِ لتقدم جدي في مجالات الحياة المختلفة. مرجع ذلك إلى البنية الأيدلوجية للدولة والتي ترى في العرب تهديدا استراتيجيا، يجعل من إمكانية تحقيق الذات أمرا شبه مستحيل، سواء كان ذلك في المجال المدني/ الحياتي/ المطلبي، لأن الدولة ترى في قوة المجتمع العربي في هذه المجالات تمهيدا للخروج عن الطوق وكسر أغلال التبعية، الأمر الذي تعتبره إسرائيل تهديدا لوجودها، لذلك نراها في سباق محموم وعلى الدوام لفرض مزيد من القيود على المجتمع العربي حتى يظل مقطوعا من شجرة كما يقولون في المثل العامي …

(4)

من هنا اولت الحركة الإسلامية ملف (الحكم المحلي) أهمية كبرى من خلال ايمانها بدوره وتأثيره المباشر على مئة بالمائة من المواطنين العرب في إسرائيل، والأداة التي من حق المجتمع العربي أن يصوغها بنفسه كل خمس سنوات بالشكل الذي يراه مناسبا خدمة لأهدافه الكبرى، في إطار انتخابات ديمقراطية نزيهة وسرية، أو هكذا يجب أن تكون.

للحركة الإسلامية – والحمد لله – إرثها الذي لا يُنكَرْ في هذا المجال منذ أن خاضت الانتخابات للسلطات المحلية في العام 1983 في قرية كفر برا برئاسة الاستاذ كامل ريان، وحتى اليوم … لقد حققت الحركة الإسلامية نجاحات مميزة في الحكم المحلي، وما تزال رغم كل الظروف، مما جعلها واحدا من العناوين الأصيلة التي أيدتها نسب عالية من المصوتين في أكثر من مرة وفي أكثر من موقع..

تجربة الحركة الإسلامية في هذا المجال أوصلتنا إلى قناعة نرى من الضروري أن نضعها بين يدي جماهيرنا وقياداتنا إذا كنا فعلا حريصين على حماية هذه المؤسسات الهامة، والقلاع القومية والوطنية الخطيرة… نعم الحكومة تتحمل المسؤولية الكبرى فيما آلت إليه سلطاتنا المحلية بسبب السياسة الظالمة، والتقليصات المستمرة، والتضييق المستديم وفي جميع المجالات الحياتية… هذه حقيقة… لكننا لا بد أن نصارح أنفسنا بان هنالك أيضا مسؤولية ذاتية… مسؤولية المواطن… مسؤولية الرئيس… مسؤولية النخب… ومسؤولية الهيئات التمثيلية العليا للجماهير العربية… هنالك نقص خطير في كم الوعي لدى المواطن العربي تجاه بلده… ضعف في الانتماء ينعكس في نسبة الجباية المتدنية في أغلب البلدات العربية، في الوقت الذي يدفع فيه المواطن لكل الجهات ذات الصلة بحياته ما لم تكن بلديته أو مجلسه المحلي، رغم ما يدعيه من ضيق ذات اليد ومحدودية الدخل وضعف القدرات المادية، وينعكس كذلك في أعمال التخريب المستمرة للمرافق العامة، وفي اتساع نطاق العنف الذي بدا يهدد امن الجميع، إضافة إلى استفحال ثقافة الاتكال على البلدية والمجلس كما لو كانا هيئة تشغيل، يجب عليها لاعتبارات في اغلبها غير عادلة وغير مقبولة قانونا أو عقلا، تأمين العمل لكل من هب ودب، لحاجة أو لغير حاجه، بكفاءة أو بغيرها ..

من جهة أخرى نرى أن قسما لا بأس به من الرؤساء تحولوا إلى جزء من المشكلة المستعصية والمتفاقمة بسبب سياساتهم العمياء، الخارجة من رحم الانتماءات العائلية أو حتى الحزبية، والتي تجر وراءها في الغالب ممارسات تهد كيان السلطة المحلية الذي يعاني من ضعف أصلا، بدل أن يكونوا أداة الحل وصمام الأمان !!!…

يبدو لي، وحتى نستطيع أن نخرج من أزمة السلطات المحلية العربية وهي واحدة من الإنجازات الكبيرة التي حققها مجتمعنا العربي بعد سنوات طويلة من النضال والجهاد المدني، والذي دفع في سبيله ثمنا باهظا من دماء وعرق وحرية أبنائه وبناته وقطاعاته المختلفة وما يزال، وهو التحرر إلى حد ما من قبضة السلطة المركزية من خلال انتخابات نختار فيها قياداتنا المحلية، ونصوغ من خلالها صورتنا المدنية وهويتنا الدينية والقومية والوطنية بعيدا عن الوصاية مهما كان نوعها او شكلها …

(5)

ليس أمامنا من أجل إنقاذ حكمنا المحلي إلا أن نؤمن جميعا جماهير وقيادات، أن البلدية أو المجلس هي أحد قلاعنا الهامة، التي تجسد حقنا في الاختيار الحر لقيادتنا، والتي ستحمل بدورها همنا جميعا، إن سقطت سيكون لهذا السقوط أثره المدمر بعيد المدى على قدرة هذه الجماهير على الصمود في وجه العواصف والرياح القواصف من التحديات …

لا بد لنا جميعا كجماهير وكقيادات وكنخب من إعادة النظر في إرثنا السياسي المحلي بما يضمن تحقيق قفزة نوعية تضعنا في موقف أقوى في مواجهة سياسات الحكومة ووزاراتها المختلفة: قيادة مسئوله تعلن التزامها فقط للمصلحة العليا لمجموع السكان في كل مدينة وقرية، جماهير تعتز بالانتماء لبلدها، تعلن استعدادها بلا حدود لأداء ما عليها تجاه سلطتها دون تأخير، وتؤمن بان السلطة المحلية لها لا عليها، وإنها مستهدفة كما جماهيرها بل وأكثر، إضافة إلى نخب تتجند هي أيضا من وراء مشروع إنقاذ شامل يضع الجميع على الطريق الصحيح.

عندها سننجح في أن تكون يدنا هي العليا في المعركة مع الحكومات، مهما كان الخلل في توازن القوى حاليا في صالح الحكومة… سلطات تحظى بدعم وإسناد جماهيرها قولا وفعلا، ستحقق المراد بعز عزيز أو بذل ذليل.. يتبع..

* الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *