وجهة نظر

320 كيلو متر في الساعة نحو الوراء !

أكتوبر 2017 صدر تقرير للبنك الدولي حول مغرب اليوم (2016) و مغرب الغد (2040). نفرد بعض مضامينه بمناسبة حُمى مشاريع ضخمة لحقت المغرب مؤخرا، إلى جاب دول أخرى كمسجد بوتفليقة الكبير، و عاصمة السيسي الجديدة و مبنى وزارة دفاعه الفرعوني الضخم ( الأُكتاغون).

التقرير صفع الحكومة و كل الحكومات و القائمين على شؤون أجمل بلدان العالم بأن أخبرهم أن تاريخهم ليس العشرية الثانية من الألفية الثانية، بل خمسينات القرن البائد.

مستوى عيش المواطن المغربي حسب التقرير هو مستوى نظيره الفرنسي سنة 1950، و الإيطالي سنة 1955 والإسباني في 1960 و البرتغالي سنة 1965.

كُتيب البنك الدولي، مؤسسة تهتم بشؤون التنمية عكس صندوق النقد الدولي الذي يُغرق البلدان في القروض، وكلاهما بيد الكبار، قال (التقرير) أن الأُسر المغربية تنفق حوالي 40% من ميزانيتها على الغداء مما يظهر انخفاض قدرة الشراء لدى المواطن، و هيمنة النفقات الملزمة ( أساسيات البقاء على قيد الحياة).

وبينما تسابق المغرب سنة 2010 للمشاركة في قمة الأمم المتحدة لأهداف الألفية متوعدا بتحقيقها و شرع يُسطر أعداد المراحيض التي ستُبنى و الوفيات التي ستُقلص، قال البنك الدولي أن مستويات وفيات الرُّضع في المغرب سنة 2015 هي نفسها في أوروبا عام 1960، أي حوالي 20 وفاة لكل 1000 ولادة. وطننا شبيه بذلك التلميذ الكسول و الغبي، من يظن أن جلوسه في أول طاولة كفيل بضمان الرتبة 1 في الفصل!

أحد معضلات توجه حكام المغرب نحو ما يعتبرونه تنمية أنهم مازالوا بعقلية الإنسان البدائي، الأكبر هو الأجود و الأقوى. و لأن النفاق لا حدود له، فإن الحكومة التي تتباهى بخطوط ائتمان يمنحها صندوق النقد الدولي لها لمزيد من الاقتراض حتى الغرق، لم تُعلق حينها و لا بعدها، على تقرير حثها على إعادة تركيز عمل الدولة على مهامها السيادية من تعليم و صحة و بنية تحتية و تشغيل، لأنها ببساطة اختارت الحل السهل: أعمال سُخرة تسمى تعاقدا في قطاعات هي عصب كل مجتمع و ركيزة تنميته.

البنك الدولي دعا في تقريره (بطريقة غير مباشرة) لعدم تصديق أن توفر الدلاح بالكيلو و الخبز و الأمن الجنائي النسبي علامة من علامات التقدم. البنك قال أننا لم نعد نعش القرون الوسطى، و بالتالي ف67 سنة تفصل المغرب عن فرنسا حقيقية و غير مبالغ فيها، بدليل المقارنة بين الدولتين.

فرنسا خرجت من حرب عالمية ضروس و احتلال نازي، لكن نسبة أميتها سنة 1950 كانت شبه منعدمة، صناعة صلبة قوية، نشاط علمي و أكاديمي مرموق…فماذا عن مغرب 2016؟

باستثناء صراع عسكري جامد يستنزف الجيوب و يخدم تجار الريع، يعيش المغرب “بيس أند لوف” و طلب من الله الإكثار في حساده…لكن على ماذا قد يحسده الخلق؟ صحة متدهورة بدليل معدل وفيات الرضع، تعليم رديء أظهر جودته حين أحرق طلابه علم الوطن و سبوا أم رئيس الحكومة بأقدح الصفات. أُمية تُقارب الثلث ( الأمية الأبجدية)، عطش في أكثر من منطقة و عدم قدرة على حل ملفات اجتماعية شائكة كالريف و جرادة و غيرها بغير مقاربة السجن و العصا.

القيادة السياسية أعطت الأوامر للمسئولين كي يُفكروا في نموذج تنموي جديد يضع المواطن في صلب اهتمامه ( النموذج القديم من كان يخدم؟!)، لكن الطامة الكبرى أن المدراء و المسئولين الذين لا يفكرون إلا إن أُمروا هم نفسهم من وضع أو صفق للنموذج الأول، و بالتالي و جب التحذير من نفس النتيجة بدليل البناء على نفس الأسباب.

نموذج في الغالب سيخدم الكبار لأن واضعيه من الكبار و المليارديرات اللاهثين وراء الربح و الإعفاءات الضريبية.

الفخر الشديد بقمرين صناعيين كلفا 500 مليار سنتيم وقطار ب2300 مليار و برج طويل جدا جدا جدا…أمور لا تبشر بخير، و تدل أن عقلية الحكام دائما ثابتة في الرهان على الأكبر، رغم كونه مضيعة أموال و جهد و وقت. مشاريع ضخمة لم يقدم أي مسئول حكومي جدوى زمنية لها، كم سنربح في خلال مدة بعينها؟ كلها أرقام كبير لا تنعكس على حال المواطن المسكين.

مشاريع ضخمة تُسهل عمليات السرقة و الاختلاس، و لكم في عمل قضاة جطو خير دليل: جماعة تُرابية صغيرة ب100 ساكن تجد رئيسها مشيدا الفيلات، فما بالك بمن يملك خزائن الصناديق و الميزانية الترليونية؟ هل نملك وزيرا يدعى يوسف بن يعقوب؟

البُراق، ميناء طنجة و غيرها مشاريع محصورة في المدن تترك الخاصرة هشة دون تنمية. أوراش لن تعمل بكامل طاقتها لمحدودية السوق الداخلية و انخفاض قدرة المواطن المالية. أما أقمار الفضاء فمشاريع أكبر منا لأن ما تحتاجه للصيانة و التأكد من عدم الاختراق قد يتجاوز فاعليتها لمراقبة تحركات عشرات آلاف المقاتلين على حدود مُسيجة، باردة بأمر من كبار العالم. إطلاق الأقمار لا يغدوا صراعا تفاخر بين دول عربية منفصلة قياداتها عن الشعب: سُهيل قطر، زايد الإمارات، و قريبا ربما سيسي مصر و عبده الجزائر!

الحل لن يكون سوى بمشاريع صغيرة و متوسطة تخلق قيمة مضافة عالية بإشراف من الدولة بدأ بالتمويل وصولا للتسويق، بشرط كبح جِماح الحيتان عن احتكار السوق من مال و بنوك و محروقات و أغذية و ملابس و توزيع منتجات مُدعمة من صانعيها الغربيين و الشرقيين، ما يؤدي لإفلاس الصغار قبل أن يبدؤوا.

مشاريع البحث العلمي يجب أن تُضخ بها مئات المليارات لجلب العقول تحت سقف واحد بعد إصلاح التعليم بأن يُدرس التلميذ ما يفيده، و ليس ما يُكرس الجهل الراهن و يضمن للحُكام الحفاظ على الوضع الراهن. مؤسسات بحث علمي وجب ربطها بالشركات و حاجات المجتمع، و ليس إنفاق المليارات على تكوين مهني ثُلث خريجيه بلا عمل و ثُلث آخر يقتل الوقت و الجهد في مراكز النداء. بحث علمي تهيئ له بيئة تُشجع العلم و تكافئ العلماء، بعيدا عن تجار الماستر و أساتذة جامعة لاهثين خلف سوق العقار و ملئ الجيب بساعات إضافية في المعاهد الخاصة.

العدالة عصب الحياة، يجب أن تتحرك للضرب بيد من حديد على شركات تستغل عمالها لأقصى الحدود في انعدام لأبسط الحقوق، بتغطية من مراقبين عموميين فاسدين يغضون الطرف عن تجاوزات التماسيح مقابل رشاوى، و لتسألوا عُمال البناء، من يشتغلون حتى أيام الأحد ب 70 درهم لليوم بدل 93 درهم كأحد أدنى. أما من كُتب عليه السقوط من عالٍ أو الإعاقة أو الوفاة لا قدر الله، فرشوة ملحق قضائي كفيلة بتأجيل القضية إلى يوم يبعثون.

أخيرا، يبقى دور الإعلام حيويا في تثقيف المواطن و الرفع من وعيه و طموحه. اجلبوا لنا تقارير عن فنادق مراكشية تُكلف خمسة ملايين لليلة، بدل تقرير أحمق عن سقايات المدينة القديمة “شرب و شوف!”. أعدو برامج العلم و المقاولة و الحقوق و الاكتشاف بدل البحث عن أمهات و آباء اختفوا منذ سبعينات القرن البائد.

شجعوا البحث و العلماء و أعطوا قيمة للحرفيين و العمال اليدويين كي يلهث الناس صوب استثمار أموالهم في المصانع و الضيعات، لا احتقار العامل الشريف و كنز المال في الذهب و العقار، و الجري صوب استديوهات الأداء لاختصار الطريق بأغنية تافهة لا تسمن و لا تغني من جوع.

* باحث مغربي في الجغرافية السياسية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *