وجهة نظر

الباكير يكتب: مساهمة في النقاش الحقوقي حول قضية حامي الدين

في كل سنة دراسية، وكلما هممت بافتتاح دروس القانون الجنائي، ونظرت في أعين طلبتي المترقبة، يساورني نفس السؤال ويعتريني نفس الهم: كيف لي أن أهيئ نساء ورجالا مدركين لخطورة دور القانون الجنائي في ضمان السلم الاجتماعي؟ ثم لا أجد لذلك إلا سبيلا واحدا، و هو العودة إلى الفهم الأصيل للموقع الحقيقي للقانون الجنائي في تدبير علاقة المواطن بالدولة، ثم لخصوصية وظيفة القاضي الجنائي بين باقي أنواع القضاة. فلا القانون الجنائي قانون عقوبات، ولا القضاء الجنائي قضاء لتطبيق العقوبات. قد يبدو هذا غريبا على القارئ المغربي بل والعربي عموما، لكنه مقبول تماما ومؤيد في كل الثقافات الحديثة التي أنتجت الصورة المعاصرة للقانون الجنائي.

الحقيقة التي لا يعلمها كثير من الناس هي أن القانون الجنائي هو قانون حريات. نعم لأن تصوره الحديث في كل أدبيات الحركات الحقوقية و التحررية التي عرفها العالم على الأقل منذ القرن السابع عشر، إنما انبنى على جعله الفيصل و الحكم بين المواطن الإنسان من جهة و بين الدولة و أجهزة القمع من جهة أخرى. فأنواع العنف المتخذ عقوبة، و القائمون على إخضاع الناس و تعذيبهم، و أماكن التعذيب و أدواته، كل ذلك كان موجودا و معروفا، يمارسه أهل السلطان بما يملكونه من سلطة على ضمائر الناس و أجسادهم و ممتلكاتهم، تبعا لأمزجتهم و رعاية لمصالحهم، لا ينتظرون إذن فلان و لا يأبهون لنقد علان. لكن ما كان الناس بحاجة إليه هو وضع خط واضح بين المواطن-الإنسان و بين السلطة المالكة لأدوات العنف، خط يمنع عنف الدولة ضد الأفراد كمبدأ عام، ثم يضع لائحة منضبطة للأفعال المبررة للقبول الاستثنائي لتدخل السلطة التنفيذية بالعنف ضدهم. و هذا الخط هو ما اعتمدته إعلانات حقوق الإنسان عبر العالم (سواء كانت وطنية، أو إقليمية، أو عالمية)، ثم تبنته الدساتير فأقرت الحريات و الحقوق الطبيعية الأصيلة كمبدأ، ثم أوكلت للقانون الجنائي الشرعي تدبير الاستئثناءات، وجعلت مهمته هي رفض تدخل السلطة العمومية بالعنف الموجه ضد حرياتهم و حقوقهم الطبيعية الأصيلة إلا في حدود الاستثناءات التي يصفها: فيحدد للدولة الحالات التي لا يكون تدخلها مشروعا إلا فيها، و يحدد طبيعة التدخل و نوعه و مقداره و صفة المتدخل و القواعد الإجرائية للتدخل. ثم عالج القانون الجنائي (في شقه المسطري) قاعدة دستورية عظيمة أخرى و هي أن يصدر التحديد العملي النهائي لتحقق الوقائع المبررة للتدخل العنيف و لصورة التدخل و مقاديره في كل حالة على حدة عن طريق القاضي الجنائي. فكان بذلك القانون الجنائي أشبه بباب باطنه رحمة على المواطنين بضمان اتساع حرياتهم و حقوقهم، و ظاهره من قبله الدولة و أجهزة القمع و نيران العقوبات يمنعها أن تمس الناس بسوء إلا بإذنه. و كان القاضي الجنائي حارسا على هذا الباب لا يفتحه إلا في وجه من وقع في الحدود الموسومة، و لا يأذن بقمعه إلا بعقوبة مرسومة. و لهذا فقد صدق من وصف القائمين على هذه الحدود بأنهم حراس العهود. فالعهد هو العقد الاجتماعي الذي يحمله الدستور، و حارسه هو القاضي الأمين الجسور.

هذا المعنى معروف جدا و مقبول جدا في المجتمعات التي أنتجت مفهوم القاضي الحامي للحقوق و الحريات الفردية و الجماعية، لكنه يظل غريبا جدا و مثيرا للحساسية في مجتمع كمجتمعنا على الرغم من التنصيص المستحدث عليه في دستور 2011. و للأمانة، ينبغي الاعتراف بأن أدبيات القانون و العمل القضائي في العالم العربي عموما لا زالت تجد صعوبة كبيرة في استثمار هذا المفهوم، نظرا لارتباطه الوثيق بتطور مستوى التوازن بين الفرد و السلطة عموما، أي بتطور الأداء السياسي و التحول الديمقراطي الحقوقي فكرا و ممارسة. كما يجدر بنا استحضار معطى تاريخي في غاية الأهمية، و هو أن القضاء الزجري في المجتمع العربي الإسلامي كان دائما منفصلا و مختلفا بقدر كبير عن القضاء المدني. فقضاء المعاملات و قضاء الجنايات لم يكونا على نفس المسافة في علاقتهما بالسلطان. و البت في قضايا السياسة الشرعية (الدماء و الحدود و التعازير) كان من المهام الرئيسية للأمير، و كان في ذلك متحررا عن رقابة الفقهاء و علماء الشريعة (مع تحفظ بالنسبة للحدود الشرعية) الذين كانوا على العموم يعترفون له بقدر كبير من الحرية في تدبير مجال التعازير، بينما عرف التاريخ استقلالا منقطع النظير لقضاء المعاملات و الأحوال الشخصية. فكان بذلك قضاء الجنايات فرعا من فروع الولاية، و العامل فيه أقرب إلى اعتبار نفسه ممثلا للسلطة و قائما على استقرارها في مواجهة الأفراد.

و يبدو لي اليوم أن هذه الاعتبارات تفسر الانطباع العام السائد في أروقة المحاكم الزجرية بأن أجهزة هذه الأخيرة ممثلة للدولة، و بأنها من رموز السلطة، فيشعر الفرد المضطر للمثول أمامها بالمذلة و المهانة إذ يقف أمام ممثل السلطة، بدل الشعور المفترض بالأمن من التعسف و الاطمئنان في حضرة حامي حقوق الإنسان. و من بين أجهزة القضاء الزجري التي وجدت نفسها تمارس وظيفتها بأريحية في هذه الأجواء المشحونة بعبق النفوذ و المثقلة بذهنية الإخضاع و الهيمنة، هناك على الخصوص مؤسسة النيابة العامة. فعلى الرغم من أنها مؤسسة دخيلة، فإنها لم تجد صعوبة في التأقلم مع السياق التقليدي للقضاء المخزني الذي سبقها و الذي كان مختصا في متابعة الجرائم. و قد ساعد على ذلك تنظيمها القانوني المطبوع بتراتبية صارمة، و القائم على تواصل متين مع الأجهزة التنفيذية. فتطور أداؤها بشكل غريب مخالف للأسس التي قامت عليها في بيئتها الأم الفرنسية، و انتقلت من التدبير الجزئي لمرحلة من المسطرة إلى مؤسسة مهيمنة على المعالجة العامة للملفات، ليس لأن القانون يمنحها هذا الامتياز، و لكن لأن الذهنية السلطوية المنتشرة في الأجواء كانت لديها القابلية لذلك. و النتيجة هي أن المؤسسة القضائية المركزية في البنية القضائية، التي أنشئت و نظمت لكي تحفظ التوازن و تسهر على الحماية من تعسف المتابعات و شطط التحريات، مؤسسة قاضي التحقيق، قد أضعفت و أنهكت و استنزفت حتى ما عادت قادرة على أكثر من رجع صدى همسات (ملتمسات) النيابة العامة.

لهذا، كنت دائما أدافع عن قضاء التحقيق و دوره المركزي في حماية التوازن في تركيبة القضاء الزجري، و عن ضرورة إعادة الاعتبار إليه و دفعه إلى استعادة سلطاته الجوهرية، مؤكدا على أن ذلك هو الضمانة الحقيقية لتطبيق حقوقي سليم للقانون الجنائي المسطري، و أنه مقدمة أساسية لتنزيل مبادئ حقوق الإنسان في تدبير الملفات الجنائية. غير أن دعوات إعادة الاعتبار لقاضي التحقيق في المغرب لم تعد تستقبل بنفس الحفاوة التي خصصت لها من قبل، و لا بنفس الجدية التي لا زالت تستقبل بها في النقاش القانوني الفرنسي. فعقلية السلطة و النفوذ و التراتبية و التحكم في العمل القضائي قد هيمنت داخل المؤسسة القضائية، و صارت من المعلومات من الممارسة بالضرورة. و صارت مفاهيم “قاضي التحقيق هو الرجل القوي في المسطرة”، و استقلال قاضي التحقيق عن ملتمسات النيابة العامة، و مساواة النيابة العامة و المتابع أمام قاضي التحقيق، و غيرها من المفاهيم التي رافقت التطور الأصيل للمسطرة الجنائية و أسست لتوازن الصلاحيات داخلها، صارت جزءا من الماضي، بل و غابت حتى عن المقررات الدراسية الأساسية. و النتيجة أننا اليوم أمام مؤسسة للقضاء الجنائي ذات ذهنية زجرية عقابية لا حمائية، بنفسية انتقامية، تشتغل بأدوات قانونية تقنوية غير حقوقية، و هيكل تراتبي مقلوب يتحكم فيه جهاز القاعدة المسؤول عن المتابعة في توجهات و خلاصات الأجهزة الفوقية المسؤولة عن التقويم و التصحيح و الحماية من الشطط. و هكذا تحول مبدأ استقلال قاضي التحقيق إلى قاعدة استقالة قاضي التحقيق.

لهذه الأسباب، وجدت نفسي مضطرا إلى التعليق على ما حدث في ملف الأستاذ عبد العالي حامي الدين، الذي أحترمه خصوصا بعد حملة التشهير التي حشدت لها جموع من البائسين، و لكن على الخصوص لأن ما وقع انتكاسة حقوقية حقيقية، تضر بما حققه القضاء الجنائي المغربي من مكتسبات على قلتها منذ التجربة الرائدة للجنة الإنصاف و المصالحة، و تبشر بانحراف حقوقي خطير يهدد كل مواطن مغربي شاءت أقداره أن يعبر صراط المحاكم.

و هنا لابد أن أبدأ بتوضيح جوهري: إن أخطر ما في قرار قاضي التحقيق ليس هو كونه قرر عرض أمر شخص على قضاء الحكم، و إنما في كونه آثر أن يستقيل من وظيفته الجوهرية التي وجد من أجلها، و هي التحقق من شرعية المتابعة أصلا فقد علل قراره بالقول “و حيث إن البت في الدفع المؤسس على مقتضيات المادة 4 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص على ما يلي (…) يخرج عن اختصاصنا كونه قدم وقت القيام بإجراءات التحقيق و قبل إقامة الدعوى العمومية و هو مرتبط بها و بذلك يدخل ضمن اختصاص الجهة القضائية المحال عليها الملف كونها هي التي تتولى دراسة الدعوى العمومية و مناقشتها و بذلك قررنا عدم اختصاصنا للبت في الدفع على حالته” فاستقال قاضي التحقيق بكل بساطة و تنصل من مهمة هي من أدق المهام المنوطة به و المتعلقة بفحص شرعية إثارة الدعوى العمومية، بعلتين: الأولى أن ما يجري أمامه من تحقيق لا علاقة له بشروط الدعوى العمومية و أسباب سقوطها لأنها لا زالت لم تقم بعد ()، و الثانية أن فحص هذا الجانب هو من مهام قضاء الحكم و ليس من اختصاص قاضي التحقيق.

غير أن ما يزيد الأمر خطورة و غرابة في آن واحد، هو أن نفس القاضي في نفس الأمر و في نفس الصفحة قد سبق له أن ناقش شروط إقامة الدعوى العمومية و اعتبر أنها لم تسقط بالحكم الصادر من قبل ثم تتحول الغرابة إلى عجب سحري عندما نجده استند في ذلك على مقتضيات المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية، و هي المادة التي تترجم المبدأ الحقوقي العالمي و الدستوري القاضي بعدم جواز متابعة شخص من أجل أفعال سبق له أن حوكم من أجلها فهو يقول إن عناصر الملف تستوجب “المتابعة من جديد في حق المتهم أعلاه إعمالا لمقتضيات المادة 369 من قانون المسطرة الجنائية التي تنص في فقرتها الثانية على أن … كل متهم حكم ببراءته أو بإعفائه لا يمكن أن يتابع بعد ذلك من أجل نفس الوقائع و لو اتصفت بوصف قانوني آخر…، و على هذا الأساس القانوني يبقى أثر مبدأ عدم جواز متابعة نفس المتهم عن نفس الوقائع و لو اتصفت بوصف قانوني آخر محصورا تحديدا في الأحكام الصادرة بالبراءة أو الإعفاء فقط دون الأحكام القاضية بالإدانة، مما قررنا معه متابعة المتهم…”.

لا أريد أن أتيه في التعليقات الساخرة و لا أن أقع في فخ التجهيل و التسفيه أو الحكم على الشخص، فأنا مبدئيا مدين له بالتوقير الواجب لوظيفته، كما أنني قررت أن ألتزم بالتحفظ العلمي في هذا التعليق. لكنني مع ذلك لا أجد مناصا من القول إنني لو أردت أن أبتدع مثالا لتحريف المبادئ الحقوقية ما استطعت أن أتخيل مثالا أسوأ من هذا. فهو بكل صدق و بمنتهى الجدية يتجاوز حدود الفهم..

هناك ثلاث مسائل تحتاج إلى التوضيح في موضوعنا هذا، سأعرض لها باختصار مع تجنب الإغراق في التحليلات التقنية و الإحالات المرجعية، نظرا لطبيعة المقال، و لمن أراد التعمق أن يراجعني لأدله على المصادر المفيدة. تتعلق الأولى بتعريف أساس مبدأ حجية الأمر المقضي، و تدور الثانية حول أصول و دلالات المادتين 4 و 369 المكرستين له في المسطرة الجنائية، بينما تعود الثالثة إلى معالجة دور قاضي التحقيق في منظومة العدالة الزجرية.

المسألة الأولى: مبدأ حجية الأمر المقضي للجنائي على الجنائي

لنوضح أولا أن عبارة “حجية الأمر المقضي” ليست سوى ترجمة لعبارة “l’autorité de la chose jugée ” في القانون الفرنسي و التي استخدمت أيضا في النصوص المغربية الأصلية باللغة الفرنسية. و هذه العبارة بدورها في القانون الفرنسي عوضت بها العبارة اللاتينية القديمة الحاملة لواحد من أعظم مبادئ القضاء الجنائي “non bis in idem”.
لهذا المبدأ في القانون ثلاث دلالات رئيسية: الأولى أنه لا يجوز أن يعرض الشخص لمتابعات جنائية جديدة على أساس نفس الوقائع؛ الثانية أنه لا تجوز المتابعات الجديدة لنفس الوقائع و لو على أساس تكييفات جديدة؛ و الثالثة (و هي نتيجة المفهوم الجديد “للمادة الجنائية” في الاجتهاد القضائي الأوروبي، ولا زالت محل نقاش) أنه لا تجوز متابعة الشخص إداريا إذا سبقت محاكمته جنائيا. و قد تم تكريسها رسميا في المنظومة القانونية الفرنسية منذ دستور 1791، مرورا بالمدونة الجنائية القديمة و مدونة التحقيقات الجنائية، و وصولا إلى قانون المسطرة الجنائية الحالي في مادتيه 6 و 368. علما أن نفس المبدأ قد تم تكريسه أيضا في المعاهدة الأوروبية لحماية حقوق الإنسان و الحريات الأساسية، و العهد الدولي للحقوق المدنية و السياسية، و اتفاقية الاتحاد الأوروبي لحقوق الإنسان.

الموضوع الرئيسي لهذا المبدأ بسيط و عميق في آن معا. فهو يعني أنه إذا سبق أن أحيل شخص على القضاء الزجري من أجل معاقبته بسبب ضلوعه في وقائع إجرامية، و تم فحص الوقائع المحصورة في قرار المتابعة على ضوء البيانات المتحصلة من المناقشة، و فحص ارتباطه بتلك الوقائع، و فحص قابلية علاقته بتلك الوقائع للتكييف الجنائي، فصدر قرار نهائي إما بإدانته طبقا للتكييف المقترح من طرف النيابة العامة، أو طبقا لتكييف آخر مختلف تشديدا أو تخفيفا، أو تبينت المحكمة أن لا علاقة للوقائع كلها بأي من التكييفات المقترحة حين المتابعة و لا الموضوعة من طرف القانون فبرأته، فإنه لا يقبل من أحد أن يعيد جره للمحاكمة مرة أخرى من أجل نفس حزمة الوقائع التي سبق تقديمها للفحص في المحاكمة الأولى، و لو باقتراح تكييفات أخرى. هذا المبدأ الأساسي ضمانة جوهرية لاستقرار العدالة على من جهتين: من جهة أولى، تعزيز قوة الأحكام النهائية و حجيتها متى انتهت مساطر الطعن القانونية فيها. فتعريض موضوع الحكم السابق إلى فحص جديد يقتضي نقض الحكم الأول سببا و موضوعا و استدلالا، و إبداله بحكم جديد. وهو ما لا يمكن تصوره و لا قبوله، خاصة مع اعتبار أن الحكم الأول قد أنتج آثاره كاملة و لم يعد بالإمكان إعادة الأمر إلى ما كان عليه و انتظار محاكمة جديدة.

ومن جهة ثانية، تأمين المواطنين على أنفسهم و أموالهم و حقوقهم و حرياتهم. إذ لا يمكن قبول بقاء شخص ما و قد سبق الحكم عليه و فحص مسؤوليته الجنائية مهددا باستمرار بإعادة حشره في دواليب العدالة الجنائية المكرهة كلما عنَّ لسلطة المتابعة (لأسباب لا يمكن حصرها) أن تعيد اقتراح تكييف جديد، أو أن تأتي باستدلال مختلف، أو أن تعيد ترتيب وسائل الإثبات ترتيبا مستحدثا. و نظرا لأهمية الوعي بخطورة هذا المبدأ سأورد كلاما بليغا لأحد كبار مفكري القانون الفرنسيين Faustin Hélie إذ يقول: “يقوم الدفع بحجية الشيء المقضي على أساس مزدوج. فهو يمثل، أولا، قاعدة من النظام العام. إذ إن سلطة الأحكام، الحاملة للحماية اللازمة لكل الحقوق و لكل مصالح المجتمع المتمدن، لا معنى لوجودها إلا لأنها غير قابلة للنقض؛ فكمال سموها منوط بثباتها. و إلا فأي مصير ينتظر المواطنين إذا ظلت مصالحهم مضطربة على الدوام، و لا تجد في الأحكام أية ضمانة دائمة؟ و أي معنى للأمن إن لم يجدوا في كنفها مأمنا من المتابعات التي ستظل تهددهم؟ ثم أية قوة ستكون للعدالة نفسها إذا لم تكن قراراتها تكتسي سوى سلطة متهالكة؟ إن العدالة تنجز مهمتها عندما يخضع الظنين لامتحان المحاكمة. (…) ثم إن هذا الدفع يمثل، ثانيا، قاعدة دفاع. فهل يمكن أن تظل وضعية المتهم محل شك على الدوام؟ … ألا ينبغي أن يكون لكل متابعة حد، و هذا الحد أليس يكمن في الحكم الصادر في الدعوى؟”.

بيد أنه لأسباب مرتبطة بضعف المعرفة بطبيعة مبدأ حجية الشيء المقضي في الجنائي و بمركزيته في بنية القضاء الزجري، يثار نقاش حول المقصود بالوقائع التي لا يجوز أن تستعمل في تأسيس متابعتين متتاليتين، هل يراد بذلك العناصر الواقعية المحصورة في قرار المتابعة، أم يراد به الأحداث و التكييفات المقترحة؟ فأمام تعدد الجهات القضائية المكلفة بالحكم في الجرائم و التي تتفاوت اختصاصاتها تبعا لأصناف هذه الأخيرة، من المفهوم أن جهاز المتابعة إذا أعد ملفا حول وضعية إجرامية، فإنه يحتاج إلى مقاربة تكييف قانوني مناسب لكي يستطيع بالأساس تحديد الجهة المختصة، و كذلك تحديد التدابير الإجرائية الاحتياطية التي يجوز له إعمالها. فلو أنه قدر أن الأفعال المادية تشكل جنحة سرقة مثلا، فتابع الظنين على هذا الأساس أمام المحكمة الابتدائية التي قضت في حقه ببراءة أو إعفاء أو عقوبة، ثم بدا للنيابة العامة لاحقا بعد إعادة مراجعة عناصر الملف أن تلك الأفعال كان من الممكن أن توصف بخيانة الأمانة، أو لعل الملف كان يضم دلائل على ظروف تشديد تنقلها إلى جناية، فهل يسعه أن ينشر متابعة جديدة على هذا الأساس؟ إذا اعتبرنا مبدأ الحجية المذكور مرتبطا بالوقائع حصريا، فستكون الإجابة بالنفي، و سيكون من حق الشخص المعني أن يأمن على أنه لن يجر من جديد أمام المحكمة. و إذا اعتبرناه مرتبطا بالتكييف، فستكون الإجابة بالإيجاب، و سيكون الشخص معرضا لمتابعة جديدة من شأنها أن تؤول إلى عقاب جديد. لكننا حينها سنكون أمام مفسدتين عظيمتين: تتمثل الأولى في أن المسطرة الأولى و الحكم الذي آلت إليه سوف يوسمان بالعبث، لأننا إذا قبلنا مبدأ المتابعة الجديدة فلا بد أن نقبل مبدأ عبثية المتابعة الأصلية التي أخطأ المسؤولون عنها في توجيهها، و لا بد أن نقبل أيضا مبدأ فساد الحكم الصادر فيها لأنه لم يصب في اختيار التكييف المناسب، خاصة أن المتابع لم تكن له يد لا في توجيه المتابعة و لا في تشكيل قناعة المحكمة. و أما المفسدة الثانية، فتتمثل في أن الإنسان المتابع لن يسعه أبدا أن يأمن على نفسه بعدما استنفذت في حقه إجراءات محاكمة أولى أن يعاد جره أمام القضاء كلما تفتق عقل النيابة العامة عن وصف إضافي للأفعال التي اقترفها، و أنه قد يعاقب مرتين و ثلاثا و أكثر، و هذا لا شك عين الظلم.

و لتقريب الصورة أكثر، لنفترض أن المتابعة الأصلية التي حركت لأجل السرقة قد آلت إلى حكم بالإدانة طبقا للفصل 506 (من شهر إلى سنتين) لاقتناع المحكمة بأن المسروق الذي عرض عليها زهيد القيمة. ثم ظهرت فيما بعد مسروقات أخرى أثمن، كان المتابع قد استولى عليها من نفس الضحية في نفس العملية و لم تتمكن أجهزة التحري إثبات وجودها في المسطرة الأولى، فسيكون من حق النيابة العامة إثارة متابعة جديدة لتطبيق عقوبة الفصل 505 (من سنة إلى خمس سنوات). و بعد مدة من الحكم الثاني، ظهرت دلائل على أن هذا الشخص كان قد نفذ عمليته مستعينا بصديق له، ففتحت له متابعة جديدة على أساس الفصل 510 (سجن من خمس إلى عشر سنوات). ثم إن الضحية بعد ذلك عثر على شاهد عاين صاحبنا و صديقة بعد هروبهما يستعينان بناقلة ذات محرك لأجل الهروب، فتمت متابعته من جديد لتطبيق عقوبة الفصل 509 (من عشر إلى عشرين سنة). و لسوء حظ هذا البائس، قام صديقه على إثر خلاف بينهما بالاعتراف بأنهما كانا يحملان سلاحا خفيا حين العملية، فأعيدت محاكمتهما معا طبقا للفصل 507 الذي ينص على عقوبة السجن المؤبد. لا شك أن هذا السيناريو مزعج للغاية، لكنه نتيجة منطقية للقول إن حجية الشيء المقضي رهينة بالوصف القانوني المعتمد للأفعال.

هناك شبهة أخرى تثار حول هذا الموضوع، و هي الحديث عن تعلق إعمال المبدأ المذكور باتحاد المتابعتين أطرافا و موضوعا و سببا، فيقال إنه إذا حركت المتابعة الأصلية من طرف النيابة العامة ثم حركت الثانية بناء على مبادرة الطرف المدني فتلكما متابعات مختلفتان، و يقال إنه إذا طلب في الأولى العقاب عن وصف ما ثم طلب في الثانية العقاب عن وصف مختلف فذلكما موضوعان مختلفان، و هذا عين الافتراء. لأن الحديث عن الأطراف في هذا الصدد إنما يخص الظنين و ليس القائم على تحريك المتابعة، و معناه أنه إذا عوقب شخص من أجل واقعة، فإن ذلك لا يمنع أن تثار فيما بعد متابعة شخص آخر عن نفس الوقائع، و المطلعون يعرفون أن هذا الحكم منوط بشرط ألا يمتنع الجمع بين الإدانتين، و إلا حق للأول أن يحرك مسطرة المراجعة (المادة 566 من المسطرة الجنائية). ثم لأن الحديث عن الموضوع يراد به التمييز بين الدعوى الرامية إلى العقاب و ليس الوصف المبرر للعقوبة، و الغاية منه التمييز بين المتابعة في المادة الجنائية و المتابعات في مواد أخرى كالإدارية و التأديبية، و في ذلك نقاش غني و مفيد في القضاء الأوروبي.

ما نقوله هنا، و هو عين ما استقر عليه في الحقيقة المشرع و القضاء المغربيان، هو أنه لا معنى للحديث عن مبدأ حجية الشيء المقضي إلا بربطه بالوقائع الأساسية المحصية في قرار المتابعة، و الحرص على ألا يتابع الشخص من أجل نفس الوقائع مرتين. و ينبغي لمن لم يطلع على هذا المبدأ إلا لأول مرة بمناسبة ملف الأستاذ حامي الدين أن يعلم أيضا أن بناء عدد من المفاهيم و المؤسسات القانونية الموضوعية و المسطرية يستند بشكل جوهري على الضمانة التي يخولها.

فمفهوم التعدد الصوري للجرائم (الفصل 118 من القانون الجنائي) دليل دامغ على أن اختلاف التكييف لا يبرر متابعة جديدة، و لا يمكن إعماله بشكل سليم إلا باعتماد مبدأ non bis in idem، و إلا فلو ثبت أن رجلا قد اختلى بأنثى قاصر في غرفة مغلقة فخلع ملابسه و داعبها جنسيا برضاها ثم واقعها بالإكراه، فأفعاله هذه تضم وصف الإخلال العلني بالحياء (الفصل 483 الحبس من شهر إلى سنتين) و هتك عرض قاصر بدون عنف (الفصل 484، من سنتين إلى خمس سنوات) و اغتصاب قاصر (ف 486 فق 2، من عشر إلى عشرين سنة)، فأي أهمية للمادة 118 المذكورة إذا كان بالإمكان أن تعاد متابعة هذا الشخص لتستوفي التكييفات الثلاث؟ و ماذا نفعل لو أن شخصا أدين من أجل جريمة قتل عمدي، ثم بدا بعدها أنه قد كان ارتكب جريمته في إطار مشروع فردي يهدف إلى المس الخطير بالنظام العام، فهل تجوز متابعته و إدانته من أجل جريمة إرهابية يقضي عقوبتها بعد العقوبة الأولى؟

و هذا نظام العفو الخاص قائم بدوره على نفس الضمانة. فلو أن تغيير التكييف يبرر متابعة جديدة، فإن المعتقلين من أجل جرائم الإرهاب الذين جرى العفو عليهم يمكن أن يعاد جرهم من جديد أمام المحاكم من أجل نفس الأفعال تحت وصف من أوصاف الجرائم العادية؟ و الذين استفادوا من العفو بعد إدانة من أجل الضرب و الجرح العمديين يمكن أن تعاد محاكمتهم من أجل أفعال غير عمدية. و هكذا إلى ما لا نهاية له.

ثم لنأخذ نظام الغرامة الجزافية و الصلح الزجري و غيرهما من بدائل الدعوى العمومية. أليست كلها قائمة على ضمانة عدم إخضاع نفس الأفعال لعقاب جديد؟ فعلى الرغم من أنها تتم خارج مسطرة المحاكمة، فإن فعاليتها مؤسسة على اعتبارها سببا لانقضاء الدعوى العمومية بشأن الأفعال المؤسسة لها، فلا يجوز أن تفتح بشأنها متابعة جنائية استنادا إلى مبدأ عدم جواز معاقبة نفس الفعل مرتين.

مبدأ حجية الأمر المقضي في الجنائي يفسر أيضا قاعدة مسطرية كبرى – ظهرت علامات كثيرة على تفشي الجهل بها – و هي قاعدة عدم ارتباط القضاء الجالس بالتكييفات المقترحة من طرف جهاز المتابعة. فمن المعلوم أن قانون المسطرة الجنائية قد أسس لحرية قاضي التحقيق في تكييف الوقائع المحالة عليه باستقلال عن النيابة العامة. كما أسس حرية قاضي الحكم في وصف هذه الوقائع بشكل مستقل سواء عما قدمته النيابة العامة، أو ما آلت إليه تحريات قاضي التحقيق نفسه، أو ما أحيل عليه من طرف الغرفة الجنحية عند الاقتضاء. و وجه الارتباط مع المبدأ موضوع النقاش يكمن في أنه لما كانت متابعة الوقائع لا تصح إلا مرة واحدة و لو تغيرت الأوصاف المقدرة لها، فقد كان من اللازم أن تمكن الهيآت القضائية من سلطة إعادة التكييف حتى تستطيع تقليب نظرها في الوقائع و عرضها على كل الأوصاف القانونية المحتملة قبل أن تقضي فيها سواء بالبراءة أو بالإدانة.
كما أن مبدأ الحجية نفسه يبرر قاعدة مسطرية أخرى، و هي المتمثلة في أنه إذا ظهرت أثناء بحث القضية و مناقشة عناصرها، سواء أمام قاضي التحقيق أو قضاء الحكم، وقائع جديدة من شأنها أن تؤسس لتهم مستقلة الأركان عن موضوع الدعوى الجارية، فإن القاضي ملزم بإعمال مسطرة خاصة لإحالة تلك الوقائع على النيابة العامة و حفظ حقها في تحريك متابعات أخرى (أنظر على الخصوص الفصل 433 من المسطرة الجنائية). فلو أن جهاز المتابعة كان يملك أصلا سلطة إعادة فتح المتابعة في الوقائع التي نوقشت أمام المحكمة بمجرد أن يغير وصفها، فما كان هناك من داع إلى إلزام القاضي بهذه المسطرة الخاصة.

الأمثلة على هذا الأمر كثيرة في الحقيقة و لا يسعها مقام هذا التعليق، و يكفي أن الفكرة قد وضحت لمن أراد أن يبصر، لذلك سأنتقل إلى بيان المسألة الثانية، و تتعلق بطبيعة موضوع المادتين 4 و 369 من المسطرة الجنائية.

المسألة الثانية: أصول ودلالات المادتين 4 و 369

لقد تم تكريس مبدأ حجية الشيء المقضي في الجنائي على الجنائي في موقعين اثنين. فالمادة 4 من المسطرة الجنائية تنص على أن حجية الشيء المقضي من أسباب سقوط الدعوى العمومية، و تنص الفقرة الثانية من المادة 369 على أن “كل متهم حكم ببراءته أو بإعفائه لا يمكن أن يتابع بعد ذلك من أجل نفس الوقائع و لو وصفت بوصف قانوني آخر”. و قد جاء في تعليل قرار الإحالة الصادر في ملف الأستاذ حامي الدين – كما سبقت الإشارة إلى ذلك – ما يوحي بأن لهذين النصين موضوعين مختلفين، أحدهما و هو المضمن في المادة 369 يدخل في اختصاصه فناقشه، و الثاني تناولته المادة 4 فصرح بعدم اختصاصه لمناقشته.

و الحقيقة أن النصين معا يترجمان نفس المبدأ، و هما منقولان عن قانون المسطرة الجنائية الفرنسي، و قد ضمنا في الصيغة الأولى لقانون المسطرة الجنائية الملغى لسنة 1959، و لهما قصة تستحق أن تروى.

صيغة المادة 4 استعملت مصطلح سقوط الدعوى العمومية، ترجمة لمصطلح extinction de l’action publique، التي تفيد انقضاء الدعوى العمومية. و معلوم أن السقوط la déchéance و الانقضاء في الاصطلاح القانوني يحملان مفهومين مختلفين لا مجال للتوسع فيهما الآن. و يكفي أن نشير إلى أن سقوط الدعوى يأتي جزاء لإخلال أو إهمال إجرائي أو لتخلف شرط شكلي، بينما الانقضاء يحمل معنى النتيجة الجوهرية المترتبة على استهلاك موضوع الدعوى نفسه. فاستيفاء الحق يرتب انقضاء الدعوى، بينما عدم مراعاة شروط ممارستها قد يسقط الحق فيها. فالانقضاء أعمق و أوكد لأنه يقوم على تحقق استيفاء الموضوع أو على الأقل على قرينة قانونية على هذا الاستيفاء. و هذا هو حال جميع الأسباب المذكورة في المادة 4 بما فيها حجية الشيء المقضي المترتبة على سبقية البت، فكلها قائمة على إما على تحقق التوافق بين المسؤول و بين المجتمع لكونه أدى دينه على إثر المحاكمة، أو لكونه صالح المجتمع، أو لكون هذا الأخير لم يعد يرى فائدة في إدانته فعفا عنه أو نسخ القانون المجرم لفعله، و إما قائمة على قرينة قانونية بأن المجتمع قد عفا عن الدين نفسه حين تقادم الفعل. فإذا اتضح هذا فسوف يتضح أن المادة 4 باتخاذها لحجية الشيء المقضي سببا لانقضاء الدعوى العمومية فقد ترجمت مبدأ non bis in idem بشكل عام.

أما الفقرة الثانية من المادة 369 فلها تاريخ فريد. إذ إن أصلها يعود إلى المادة 368 من المسطرة الجنائية الفرنسية لسنة 1958، حيث أدرجت ضمن قسم يعالج الإجراءات المتبعة أمام محكمة الجنايات و هي محكمة محلفين، كما كانت محكمة الجنايات لدينا تضم محلفين قبل ظهير 1974. لكنها عندما نقلت لدينا بمناسبة إعداد قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959، لم يتم تخصيصها لمحكمة الجنايات، و إنما أدرجت ضمن القواعد العامة لآثار مختلف الأحكام و القرارات، ليسري حكمها على كافة المقررات سواء الصادرة في الجنايات أو في الجنح أو في المخالفات. فما السبب في وضعها الأصلي في القانون الفرنسي ضمن إجراءات محاكم الجنايات؟ و لماذا أدرجت لدينا كقاعدة عامة في كل المواد؟ و ما هو أثر تعميم حكمها على هذا النحو؟

محكمة الجنايات في فرنسا la cour d’assises هي أساسا محكمة محلفين. و إذا كان المغرب أيضا قد اعتمد هيأة المحلفين في تجربة محكمة الجنايات في المسطرة الجنائية لسنة 1959، فلا ينبغي أن نغفل أن قواعد عملها لدينا قد كانت مختلفة بشكل جوهري، خاصة على مستوى قواعد اتخاذ قرار المحكمة. و باختصار، فإن المحكمة الفرنسية تصدر قراراتها عن طريق أجوبة المحلفين عن أسئلة محددة تحدد لائحتها من طرف الرئيس على إثر المناقشات معتبرا فيها التكييفات المقترحة في قرار الإحالة و التكييفات الجديدة التي تثبت جديتها من خلال النقاش (وفق تقنيات مسطرية تفصيلية لا مكان لها هنا). و بعبارة أخرى، فتقدير مدى وقوع الأفعال موضوع المتابعة للقانون الجنائي إنما يتم على مرحلتين.

يتم في الأولى تفحص الأوصاف القانونية الممكنة سواء للفعل الأساسي أو لما يحيط به من عناصر التشديد أو الإعفاء، و ذلك أثناء المناقشات بمحضر كل الأطراف و تحت مراقبتهم، فيعد الرئيس لائحة أسئلة موجهة إلى المحلفين تتناول استفسارهم عن مدى اقتناعهم بتحقق موجبات اعتماد تلك الأوصاف التي طرحت للنقاش. بينما يتم في المرحلة الثانية اختلاء الهيأة في غرفة المداولات، حيث تطرح تلك الأسئلة على أعضائها واحدا واحدا، فيجيبون بالنفي أو الإيجاب، و هنا لا يحق لا للرئيس و لا للمحلفين إضافة تكييف جديد أو سحب وصف موجود. هذا الترتيب المسطري و هذه القيود المفروضة على سلطة هيأة المحلفين في التكييف تجد تفسيرها في أن أعضاء هذه الأخيرة ليسوا خبراء قانون و لا يملكون بالضرورة تكوينا كافيا يخول لهم أن يتولوا أمر تمحيص الوصف القانوني المناسب بأنفسهم، فكان لا بد أثناء المناقشات من أن يوجههم المحترفون (الرئيس و ممثلو الأطراف) إلى نقط محددة يكتفون فيها بالتصريح بقناعاتهم فقط. لكن هذا النظام ظل يطرح مشكلة جدية، فماذا لو تم إغفال طرح الوصف الحقيقي المناسب ضمن لائحة الأسئلة، فآل قرار الهيأة إلى إدانة بوصف أخف وطأة، أو إلى إدانة مع اعتبار عذر معف، أو إلى البراءة الكلية من جميع الأوصاف غير المناسبة التي اقترحت في اللائحة؟ هل يجوز حينها إعادة فتح المتابعة في نفس الأفعال التي سبقت إحالتها على أساس الوصف الجديد؟

هنا وضع حدان للوقاية من مساوئ هذه الوضعية. الحد الأول إلزام الرئيس بإدراج كل الأسئلة المتعلقة بمختلف الأوصاف القانونية الممكنة للعناصر الواقعية المعروضة (المواد 247 إلى 352 من المسطرة الجنائية الفرنسية)، و غايته الاحتياط لمفاسد الإغفال. أما الحد الثاني، و غايته حماية الأفراد من تعسف جهاز المتابعة و ضمان حقهم في الطمأنينة، فهو المادة 368 من نفس القانون التي تقضي بأن الشخص الذي حكم ببراءته وفق مسطرة قانونية لا يمكن أن يكون محل إعادة اتهام أو محاكمة من أجل نفس الأفعال، و لو تحت وصف مختلف. و تجدر هنا ملاحظة أن هذا النص لم يتناول سوى حالة البراءة، و لم يذكر حالات الإعفاء و العقوبة الموقوفة و لا حالات الإدانة، و مع ذلك فلم نجد من عقلاء الفقه و القضاء الفرنسيين و لا من مجانينهم من يزعم أنه لا يتعلق سوى بحالات البراءة و لا حكم له على الحالات الأخرى، لأن قاعدة حكم الأولى تفيد شمول كل الحالات.

وهنا ينبغي أن ننتبه جيدا إلى مسألة دقيقة استدعت نقاشا عميقا بين الفقه و القضاء الداخلي و القضاء الأوروبي. فالمادة 368 من المسطرة الجنائية الفرنسية أدرجت بالأساس ضمن المقتضيات المتعلقة بعمل محكمة الجنايات، و لا مثيل لها ضمن الفروع المتعلقة بباقي أنواع المحاكم الزجرية (les tribunaux correctionnels et d’instance)، فهل تطبق على هذه الأخيرة، و هل يستفيد الأشخاص المحكومون أمامها من هذه الحماية المطلقة؟

على هذا المستوى، يفرق رجال القانون الفرنسيون بين وضعية محكمة الجنايات و باقي المحاكم من ثلاثة وجوه: الأول، أن القانون يجعل محكمة الجنايات ذات ولاية عامة (plénitude de juridiction) بينما لم يجعلها لباقي المحاكم (المادة 231). و الثاني، أن محكمة الجنايات ملزمة نصا بأن تقلب موضوع المتابعة على كل الأوجه القانونية الممكنة من خلال طرح كل الأسئلة الرئيسية و الثانوية، التي وردت في قرار الإحالة و التي ثارت حولها شبهات جدية خلال المناقشة (المادة 351)، بينما لم ينص القانون على نفس الإلزام بالنسبة لباقي المحاكم. و الثالث، أن المادة 368 خصصت لمحكمة الجنايات، و لم يمدد حكمها صراحة لباقي المحاكم.

لهذه الأسباب، جاءت المواقف مختلفة بالنسبة لفرضيتين. ففي الفرضية الأولى، حيث يكون المقرر القضائي قد صدر عن محكمة الجنايات، فإن الفقه و القضاء قد أجمعوا منذ القرار المبدئي لمحكمة النقض بتاريخ 20 مارس 1956، المعروف بقرار Chevalot، على أن صدور قرار عن محكمة الجنايات يمنع إعادة المتابعة من جديد، و لو بوصف قانوني مختلف، حتى لو صدر القرار الأول بالبراءة. و ذلك بإعمال حرفي للصيغة الجديدة للمادة 359 من مدونة التحقيقات الجنائي (Code d’instruction criminelle) التي كانت سارية حينذاك.

فمن المعروف (لمن كان باحثا موضوعيا) أن هذه المدونة كانت تضم صيغة قديمة لعدم جواز فتح متابعة جديدة في حق من صدر عليه قرار سابق بالبراءة عن محكمة الجنايات (المادة 360)، استعملت فيها صيغة المفرد لدى الحديث عن الوقائع المؤسسة للمتابعتين، جاء فيها ( Tout homme acquitté par un jury légal, ne peut plus être repris ni accusé à raison du même fait، أي عن نفس الواقعة)، فأدى ذلك إلى اختلاف في التأويل بالنسبة للأشخاص الذين تمت تبرئتهم من تهمة بجناية أمام محكمة الجنايات، فيما يتعلق بإمكانية متابعته من جديد، ليس أمام نفس المحكمة بجناية أخرى (فهذا الأمر يمنعه مبدأ الحجية، و مبدأ انقضاء ولاية المحكمة بصدور قرار نهائي، و قواعد مسطرة المراجعة التي تحول دون إعادة وضع نفس المحكمة يدها على ملف سبق لها البت فيه إلا في الحالات الاستثنائية التي نص عليها القانون و لمصلحة المحكوم عليه)، و إنما متابعته أمام المحكمة الجنحية، تأسيسا على أن الوصف الجنحي يوجه النقاش نحو واقعة أخرى غير الواقعة موضوع قرار البراءة. فجاء قانون 25 نونبر 1941 ليغير الصيغة إلى الجمع (… à raison des mêmes faits، أي عن نفس الوقائع)، فقطع الطريق أمام احتمال التعامل الانتقائي مع عناصر الملف المناقشة أمام المحكمة، بحيث إذا لم ينصب تقدير المحكمة إلا على بعضها، فلا يجوز تحريك متابعة جديدة على أساس البعض الآخر و قد كان معروضا عليها و أعرضت عنه. فجعل هذا التعديل من صيغة الجمع حدا تكون معه عناصر الملف التي سبق عرضها حزمة واحدة لا تتجزأ، و ما على محكمة الجنايات إلا أن تتأنى في الفحص، و إلا امتنع على كل المحاكم كل فحص جديد. فانتهى الجدل، و أجمع العمل القضائي على جميع مستويات المحاكم على هذا الحكم، و تعزز بقرار Chevrot المشار إليه.

لكن، في الفرضية الثانية، حيث يكون الحكم الأول قد صدر عن محكمة للجنح أو المخالفات (un tribunal correctionnel ou d’instance)، برزت حالات اقتضت تفاوتت فيها الرؤى على نحو ملحوظ. و السبب الرئيسي في ظهور الاختلاف يرجع إلى الاختلافات التي ذكرناها أعلاه بين المقتضيات القانونية المنظمة للمحكمة الجنائية من جهة، و باقي أنواع المحاكم من جهة أخرى: المادة 368 خاصة بالمحكمة الجنائية، و النص على الولاية العامة لهذه الأخيرة دون البقية، ثم النص الصريح على إلزام المحكمة الجنائية بالجواب الصريح على قابلية الوقائع لجميع الأوصاف الجدية التي رشحت من النقاش. و من تم، فإنه إذا كانت القرارات الصادرة عن محكمة الجنايات تحول بشكل مطلق أمام إعادة متابعة الشخص من أجل الوقائع التي سبق فحصها أمامها سواء كليا أو جزئيا بفضل نص المادة 368، فإن النقاش ظل يثور بين الفينة و الأخرى بمناسبة بعض المقررات القضائية حول مدى حجية الأحكام الصادرة عن محاكم الجنح و المخالفات. و قد أرجع بعض الفقه الأمر إلى ثلاث حالات:

أ- حالة الجرائم المستمرة، حيث يستمر وجود العنصر المادي للجريمة إلى ما بعد صدور الحكم. فهذه حالة لا تطرح أية صعوبة، لأن الأفعال المادية وجدت قبل الإدانة، ثم وجدت بعدها، بما يبرر متابعة جديدة. فهي كحالة من أدين بسبب فتح محل لبيع الخمور بدون ترخيص، ثم استمر محله مفتوحا بعد ذلك، فلا حرج في أن يقدم لمحاكمة ثانية.

ب- حالة الوضعية الإجرامية المركبة، حيث تشتجر أفعال مكونة لعدة جرائم تتحقق معها حالة التعدد الحقيقي. فهنا إذا تناولت المتابعة الأولى بعض الوقائع و أهملت بعضها الآخر، فأدين الشخص من أجلها، فلا شيء يمنع من أن تعاد متابعة جديدة بشأن ذلك الجزء الذي و إن اتحد مع عناصر المتابعة الأولى في الزمن و الأشخاص، فإنه لم يسبق عرضه للفحص أمام المحكمة. و هي كحالة الذي ارتكب التزوير في محررات ثم استعملها للنصب على الأشخاص، فتوبع في المرة الأولى من أجل النصب بواسطة استعمال محررات مزورة و لم يتابع من أجل التزوير نفسه، فلا مانع من متابعته مرة أخرى من أجل أفعال التزوير التي تبقى أفعالا مستقلة.

جـ- فإذا كانت الحالتان السابقتان لا تطرحان أية صعوبة سواء أمام محكمة الجنايات أو أية محكمة أخرى، فإن الحالة الثالثة بقيت محل خلاف. و تتعلق بالفرضية حيث تحال على المحكمة وضعية إجرامية تتضمن حزمة وقائع مكيفة تكييفا جنحيا أو أدنى من ذلك، فقضت المحكمة في الموضوع بما استقرت عليه قناعتها (براءة، إعفاء، أو إدانة)، ثم ظهرت بعد ذلك عناصر واقعية حول ملابسات نفس الوضعية الإجرامية، إذا أضيفت إلى عناصرها الأساسية غيرت وصفها إلى جريمة أشد. و مثال ذلك، أن يرتبط شخص بواقعة موت إنسان نتيجة تناول مادة سامة خلال معاناته من مرض مزمن شديد، فتدل المؤشرات على أنه زود الهالك بالسم، و يظن أنه ساعده على الانتحار، فيتابع على هذا الأساس. و بعد إدانته بالجنحة، تتضح دلائل جدية على أنه لم يكتف بتزويده بالسم و إنما أعطاه إياه في الطعام. فهل تجوز متابعته من أجل جناية التسميم؟

لنوضح بداية أنه لو أن المتابعة الأولى قد عرضت لسبب من الأسباب (كالارتباط بجناية مثلا) أمام محكمة الجنايات، لكان الجواب واضحا بالنفي على أساس المادة 368 (لا تجوز و لو بوصف مختلف). أما و قد تمت أمام محكمة أدنى، فإن القانون الفرنسي لا يسمح بالاعتماد على المادة 368 أصلا. لهذا يحتاج الجواب إلى التمحيص على مستويين شديدي الدقة، الأول موضوعي، و الثاني مسطري.

فعلى المستوى الموضوعي، دعنا نذكر بأن العناصر المادية و المعنوي لجنحة المساعدة على الانتحار و جناية التسميم متباعدة كل التباعد. ففعل التزويد بمادة السم في الجنحة، الذي يعني مجرد وضعها رهن تصرف الهالك، بعيد كل البعد عن فعل إعطاء السم في الجناية، و الذي يفيد الحرص على أن يتصل السم بجسم الهالك (إما بالإطعام أو الحقن أو الامتصاص الجلدي …). و القصد في الجنحة يتجسد في تعمد تمكين الهالك من القدرة على التصرف في المادة متى شاء إنهاء حياته، و لا علاقة لهذا بقصد التسميم الذي يقوم على السعي إلى إزهاق روح الضحية و الحرص عليه. هذا التمييز على مستوى العناصر الموضوعية سوف يمكننا من الإدراك الجيد للعناصر المسطرية.

إذ على المستوى المسطري، نلاحظ أن المتابعة الأولى حين اتخذت موضوعا لها جنحة المساعدة على الانتحار، فقد بنيت حين انطلاقها على أساس مساءلة ملابسات القضية بشأن إثبات عنصري هذه الجنحة و ليس بشأن نفي عنصري الجناية. و بمعنى آخر، فإن التعليل المعتمد في الحكم الجنحي، حين قضى بالإدانة، قد انصب على إثبات فعل التمكين من حيازة السم، و تعمد هذا الفعل، و العلم بأن الهالك يسعى إلى وضح حد لحياته. بينما لم يتناول في تعليلاته شيئا يتعلق بالجناية، فهو لم يحرص على نفي فرضية إعطاء السم مباشرة للضحية، كما لم يتناول نفي توافر الرغبة في تحقيق إزهاق روحه. و من تم فإن إثارة متابعة جديدة بجناية التسميم تظل ممكنة إذا تبينت عناصرها، ما لم يطلها التقادم.

أما لو افترضنا أن المتابعة الأصلية قد حركت من أجل جنحة المساعدة على الانتحار، ثم تبينت النيابة العامة خلال جريان المسطرة أن هناك عناصر إضافية توحي بأن الأمر يتعلق بجناية التسميم، فالتمست تغيير الوصف و الحكم بعدم الاختصاص، إلا أن المحكمة لم تقتنع بوجهة نظرها، فقضت بالإدانة لأجل الجنحة، و عللت قضاءها بنفي عناصر الجناية و ثبوت عناصر الجنحة، ثم استنفذت وسائل الطعن فصار الحكم قطعيا، فهل يجوز للنيابة العامة إعادة إثارة المتابعة من أجل جناية التسميم؟ لا أعتقد أننا هنا بحاجة إلى التصريح بالجواب، فهو قد صار أوضح من الشمس.

انطلاقا من هذا التحليل المختصر المغني، سنعود إلى التدقيق في أمر قرار محكمة النقض الفرنسية الذي صار كل من هب و دب يتشدق به كأنه قد وقع على اكتشاف مثير على غفلة من الناس، و هو الصادر في 19 ماي 1983، و هو معروف في الأدبيات القضائية بقضية Laurent. و الحقيقة أن هذا القرار ليس منعزلا، لأنه سبق بقرارات أخرى، اشتهر منها ذلك المؤرخ في 25 مارس 1954 و المعروف بقضية Thibaud، وهناك غيرها كالقرار الصادر في قضية الدم الملوث (22 يونيو 1994).

لنُذكر أولا بأن هذه الملفات جميعها تتضمن إدانات جديدة بعد متابعات سبق تحريكها من أجل جنح أمام المحاكم الجنحية، و لا يوجد فيها ملف واحد أعاد تناول قضية سبق أن بتت فيها محكمة جنائية. أما القرار اللُّقَطَة، فهو يتعلق بشخص سبق أن توبع أمام المحكمة الجنحية من طرف النيابة العامة بجنحة القتل غير العمدي في حق زوجته، إذ نسبت إليه فعل الإهمال و عدم الاحتياط لدى تناوله لسلاحه و الذي ترتب عنه إطلاق نار أصاب زوجته بدون قصد فأرداها، فأدانته المحكمة لما اقتنعت بثبوت الإهمال. ثم إن تحقيقا فتح بعد ذلك بناء على عناصر جديدة تفيد أنه قد اقترف أفعال القتل العمد، فاعتقل احتياطيا، ثم أطلق سراحه لأسباب صحية، و خلال ذلك، و ظنا منه أن ابنه كان وراء ملاحقته قضائيا، عمد إلى قتله بطلقة نارية، فألقي القبض عليه مجددا، و قدم أمام محكمة الجنايات بتهمتي قتل زوجته و ابنه. فما كان منه إلا أن تمسك بالدفع بحجية الشيء المقضي فيما يتعلق بتهمة قتل زوجته متمسكا بالمادتين 6 و 368، إلا أن محكمة الجنايات ردت الدفع بعلتين: استبعدت في الأولى المادة 368 لأنها خاصة بآثار القرارات الصادرة عن محكمة الجنايات، بينما الحكم السابق هنا قد صدر عن محكمة جنحية. و اعتمدت في الثانية قولها “إن جناية القتل العمد التي تتم بانعقاد الإرادة و جنحة القتل غير العمدي التي تستبعدها جريمتان متمايزتان سواء في عناصرها المادية أو في عناصرها القانونية”.

فمن الواضح في هذه النازلة أن المحكمة الجنحية لما تناولت الموضوع على أساس المتابعة بجنحة القتل غير العمدي، لم تناقش عناصر القتل العمد، و لم تتناول ثبوت الأفعال المادية المشكلة للاعتداء المباشر على حياة الزوجة الهالكة بالنفي و لا بالإثبات، كما لم تعالج بالتبعية وجود أو انعدام قصد إزهاق الروح. و إنما غطت المناقشات فقط واقعة الإهمال التي تختزل عناصر جنحة القتل غير العمدي. و من تم فلم تكن للحكم الصادر عنها أية حجية تحول دون توجيه الاتهام من أجل القتل العمد بناء على العناصر المستجدة. وهذه السيرورة الإجرائية مختلفة تماما عن سيرورة إجراءات محكمة الجنايات، حيث تكون المحاكمة أساسا مبنية على مناقشة جنايات عمدية، ثم بشكل ثانوي على مناقشة أوصاف جنحية احتياطية، فإن استقر رأيها على إثبات إحداها أو نفيها فلا مجال لإثارة المتابعة فيما بعد على أساس ما يفترض أنه قد نوقش و لم يثبت. و لا يفوتنا أن نشير هنا إلى أنه على الرغم من كل هذه التدقيقات و المسوغات، فإن الفقه و القضاء الفرنسيين خلال العقدين الأخيرين قد صارا يميلان أكثر فأكثر إلى تمديد أثر المادة 368 لتشمل على السواء قرارات المحاكم الجنحية إلى جانب قرارات المحاكم الجنائي، استنادا إلى تكافؤ الحرية المكفولة لكل أنواع المحاكم في توسيع المناقشة و تعديل التكييف، من جهة، و إلى التوجه الغالب في قضاء المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان كما يجسده القرار الصادر عن الغرفة الكبرى بتاريخ 10 فبراير 2009 في قضية Zolotoukhine التي كرست معيار “العناصر الجوهرية”، من جهة أخرى.

المسألة الثالثة: ماذا الآن عن القانون المغربي؟

هناك ثلاثة أمور بخصوص قانون المسطرة الجنائية المغربي يجهلها كثير من الناس. الأول ظاهر لمن أراد أن يبصر، و هو أن قانون 1959 قد وضع بنَفَس حقوقي بارز اعتمد عددا من كبريات القواعد المسطرية الحديثة. و الثاني دقيق يتطلب عدة نظرية جيدة، و هو أن عددا من المبادئ و القواعد المؤسسة لمنظومة العدالة الجنائية لم تدرج بشكل صريح ضمن النصوص و اكتفى محرروها بعمق المعرفة بها و تجذرها في الاجتهادات القضائية و الفقهية على نحو ما يجري في فرنسا، كمبدأ قرينة البراءة، و قواعد البطلان، و مبدأ الفصل بين وظائف العدالة الزجرية الذي سنعود إليه فيما بعد. و الثالث خفي يحتاج إلى خبرة في القانونين المغربي و الفرنسي معا، و هو أن مهندسي القانون المسطري المغربي قد سعوا إلى استنساخ صيغة متطورة للقانون الفرنسي كما تبلور في صيغة 1958، تنهي جملة من القضايا الخلافية التي كان النقاش حولها محتدما في الفقه و القضاء الفرنسي و تحسم فيها لفائدة حماية حقوق الأفراد و حرياتهم. و موضوع دراستنا هذا واحد من المواضيع التي قطعت فيها مقتضيات قانون 1959 دابر الخلاف، لكن قلة الزاد و تعاظم النرجسية في مُحدَثينا حالا دون أن نفقه ذلك.

تبنى قانون المسطرة الجنائية لسنة 1959 مؤسسة محكمة الجنايات الموجودة في فرنسا. لكنهم لم يجعلوا نظامها التفصيلي مطابقا لنظام المحكمة الفرنسية. فمن جهة أولى، لم يكن لدينا وجود للائحة الأسئلة و لا للتعقيدات و المحاذير المرتبطة بها. و إنما بسطت المسطرة إلى أقصى الحدود، و تخلينا عن الأسئلة، و جعلنا هيأة المحلفين التي لا علم لها بالقانون و لا خبرة لها في القضاء صاحبة السلطة في التكييف تحت إشراف و توجيه و “تحكم” الرئيس. فبعد المناقشات، لا تعرض لائحة بالأسئلة الموجهة إلى هيأة المحلفين كما في فرنسا، بل إن أحدا من الأطراف لا يعلم طبيعة النقط التي سيصوت عليها المحلفون، و لا عددها، و لا موضوعها، و تبقى المحكمة المختلية سيدة نفسها، كما هو الشأن بالنسبة لباقي المحاكم المهنية.

ثم، من جهة ثانية، اعتمدنا في الفصل 487 (المادة 432 الجديدة) و بشكل صريح مبدأ حرية المحكمة الجنائية في التكييف، و إلزامها بتمحيص كل الوقائع المحالة عليها و تقليبها على كل الوجوه القانونية الممكنة قبل أن تنطق بقرارها. فقد جاء في هذا الفصل : “لا ترتبط المحكمة الجنائية بوصف الجريمة المقرر من طرف غرفة الاتهام و يتعين عليها أن تصف قانونيا الأفعال التي تحال عليها و أن تطبق عليها القانون الجنائي حسب نتيجة دراسة القضية المباشرة أثناء الجلسة”. فرغم اختلاف صيغته، فهذا الفصل لم يكتف بجمع أحكام مواد المسطرة الفرنسية المتعلقة بإعداد الأسئلة، خاصة المادتين 350 و 351، بل تجاوزها إلى صيغة مطلقة تظهر كذلك أن مبدأ الولاية العامة للمحكمة الجنائية المنصوص عليه في المادة 231 فرنسي.

أما الاختلاف الثالث فهو الاختلاف الأكبر، بالنظر لموضوع نقاشنا، فيتعلق بالموقف من حكم المادة 368 الفرنسية (المتعلقة بمنع المتابعات الجديدة تحت أوصاف مختلفة). إذ على خلاف ما يوجد في فرنسا نتيجة لخصوصية التطور التاريخي و المؤسساتي هناك، فإن مهندسي المسطرة الجنائية المغربية قد حسموا في ضرورة أن يمتد حكمها ليشمل كافة المقررات النهائية الصادرة في الموضوع عن مختلف المحاكم الزجرية، فنزعوا عنه حصرية الارتباط بأعمال المحكمة الجنائية، و أدرجوه في الفقرة الثانية من الفصل 351 القديم ضمن القواعد العامة لآثار الأحكام و القرارات. و هو الحكم الذي أعيد إدراجه ضمن القانون الجديد للمسطرة الجنائية في الفقرة الثانية من المادة 369 : “كل متهم حكم ببراءته أو بإعفائه، لا يمكن أن يتابع بعد ذلك من أجل نفس الوقائع [بصيغة الجمع] و لو وصفت بوصف قانوني آخر”.

فماذا لو عرضنا الآن حالة الأستاذ حامي الدين على القانون المغربي، مع إضاءات القانون الفرنسي الذي يغري هواتنا.

لنذكر أولا بالوقائع. انطلقت المتابعة ضد عبد العالي حامي الذين بمبادرة من النيابة العامة التي التمست إجراء تحقيق ضده من أجل جناية الضرب و الجرح المفضي إلى الموت من دون نية إحداثه. و بعد إتمام إجراءات التحقيق تمت إحالة المتهم على غرفة الجنايات من أجل جناية الضرب و الجرح المفضي إلى الموت بدون نية إحداثه. فاعتبرت الغرفة أن مسؤولية المتهم – إلى جانب آخرين – غير ثابتة في حقهم، إلا أنهم يكونون قد ساهموا في المشاجرة التي نشبت بين فئتين من الطلبة أدت إلى وفاة أحدهم. فقرار الإحالة – الذي استجاب لملتمسات النيابة العامة – قد اتهم حامي الدين بجناية (أ) تتضمن اعتداء مباشرا على السلامة الجسدية، و(ب) تتضمن عنصر العمد بخصوص الاعتداء، و(ج) تتضمن نفي عنصر العمد بخصوص نتيجة الوفاة. أما قرار غرفة الجنايات، فإنه قد تضمن بشكل صريح (أ) نفي الاعتداء المباشر على السلامة الجسدية، و(ب) نفي كل علاقة سببية مادية بين أفعال المتهم و نتيجة الوفاة، و(ج) تضمن نفي عنصر العمد المرتبط بهذا الاعتداء، و(د) تضمن نفي أي قصد خاص بتحقيق الوفاة، ثم (هـ) اتجه صوب عناصر واقعية أخرى في الملف، فأثبت فعل المساهمة في الشجار، و(و) أثبت واقعة حدوث الوفاة نتيجة الشجار، و بنى على ذلك الإدانة بالمساهمة في مشاجرة أدت إلى الوفاة.

أما المتابعة الجديدة، فقد انطلقت على إثر شكاية مباشرة من أشخاص من حواشي الهالك من أجل جناية القتل العمد، اعتمادا على نفس وقائع الملف السابق، مع إضافة تصريح جديد لشخص قديم سبقت متابعته إلى جانب حامي الدين، و سبق له أن أدلى بتصريحاته أمام المحكمة في نفس الملف و نوقشت أمام الجميع و في مواجهتهم. و قد جاء في هذه التصريح ما مفاده أنه (أي المصرح) قد رأى حين الأحداث حامي الدين و قد وضع قدمه فوق رأس الضحية ليمكن أشخاصا آخرين من تهشيم رأسه. فما قول القانونين؟

أول حكم سيتم استدعاؤه في القانون الفرنسي هو حكم المادة 368 من المسطرة الجنائية، ومؤداه بطلان أية متابعة جديدة، لأن الوقائع كلها قد سبق لها أن عرضت بشكل تام أمام الهيأة المختصة في الجنايات، و صدر القرار في ذلك بالبراءة من جناية الضرب و الجرح المفضي إلى الموت و الإدانة بجنحة المساهمة في مشاجرة نتج عنها وفاة، فلم يعد من سبيل إلى إثارة متابعة جديدة على أساس نفس الوقائع و لو من أجل وصف جديد هو المساهمة في القتل العمد. أما في القانون المغربي، فهذه النتيجة أوكد. أولا، لأن غرفة الجنايات هي من أصدر القرار السابق، و هي ذات ولاية عامة و ملزمة بأن تراقب كل التكييفات القانونية الممكنة قبل أن تنطق بقرارها طبقا للمادة 432. و ثانيا، لأن حكم المادة 369 الذي يمنع أن تعاد متابعة أفعال سبق أن فحصت أمام القضاء و لم تقتنع بها هيأة المحكمة، هو حكم مطلق.

ثم سيُستدعى حكم المادة 6 الفرنسية، و المادة 4 المغربية، حول حجية الأمر المقضي، حيث إن الغرفة المذكورة قد قضت صراحة بنفي عناصر المسؤولية عن أي مساس مباشر بالسلامة الجسدية للضحية أو أي شكل من أسباب السببية المرتبطة بوفاته، و كذلك بنفي أي مستوى من العمد سواء تعمد المساس بالسلامة الجسدية أو تعمد إزهاق الروح. و ذلك على الرغم من أن جهاز المتابعة قد دافع عن هذه الأطروحة خلال المناقشة. بينما تسعى المتابعة الجديدة إلى إعادة مناقشة ثبوت واقعة الاعتداء الجسدي بعدما نفتها غرفة الجنايات، و مناقشة تعمد إلحاق الأذى (القصد العام) بعدما نفته المحكمة، و إثبات الارتباط السببي بين أفعال المتهم و بين نتيجة الموت و هو ما نفته المحكمة كذلك بشكل صريح لا غبار عليه. فهل يمكن تصور خرق لمبدأ الحجية النهائية للأحكام أكثر من هذا الخرق؟

فهذه إذن بدون شك متابعة باطلة في اعتبارات القانونين معا. و لا أرى داعيا للدخول في مناقشة حول أحكام القانون الأوروبي بعد كل ما وضحناه أعلاه. و خاصة أن هذا التحليل المقارن ما هو إلا مقاربة افتراضية، ما دامت القضية مغربية.

* أستاذ القانون الجنائي بكلية الحقوق بالدارالبيضاء

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *