وجهة نظر

رواية “رباط المتنبي” من منظار الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM 5)

قرأت بمتعة وتمعن وأناة…رواية “رباط المتنبي” الصادرة عن المركز الثقافي العربي للدكتور حسن أوريد.

لا جدال أن دوافعي لاقتناء الرواية كانت تتلخص في دافعين: الأول علاقتي القديمة بالمتنبي، كيف لا وأنا حفظت قصائد واحر قلباه أو لكل امرئ من دهره ما تعودا أو حتى وزائرة بالموازاة مع سني دراستي الأولى والفضل في ذلك يعود لأخي الأكبر معاذ حفظه الله.

أما دافعي الثاني هو ما تناهى إلى مسامعي عن رواية تدور أحداث هامة منها في المستشفى الذي أشتغل به منذ سنوات أي المستشفى النفسي الجامعي الرازي بسلا وفي اختصاص شديد التعقيد والخصوصية والمتعة معا ألا وهو الطب النفسي.

لن أعتمد الطريقة الأكاديمية في التحليل، الشكل أولا والموضوع ثانيا، ربما كانت طريقة جيدة لنص آخر، لكن في هذا المقام لا أجد لها من داع. فلسنا أمام نص طويل ممل مجبر علينا في المقررات الدراسية لكاتب لم نسمع عنه قط، ولا أمام كاتب من فترة سابقة معروفة إبداعاته وأساليبه، بحيث يكون الحديث عنها مجرد اجترار لما سبق. لا أبدا، نحن أما حالة … نعم أمام حالة فريدة، ولا اٌقول رواية. ذلك أن المروي مجموعة أحاسيس وهلوسات وشطحات معقدة ومتداخلة، يعرف أولها، لكن يجهل آخرها. أحاسيس نابعة من القلب والعقل معا.

لن يخف على كل مشتغل بالمرض النفسي إصابة مريضنا بالفصام الذي وفق الكاتب إلى حد بعيد في وصفه طبقا لآخر ما نشر في الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية، لكن انتظرنا حتى الشطر الثاني من الرواية حتى يتأكد لنا ذلك أو “يخرج المريض من روندتو” كما في تعبيرنا الدارج.

الرواية كتبت لهدف واحد ووحيد في اعتقادي وقد أكون مخطئا وهو البوح … وكأنه التداعي الحر. غير أنه ليس حرا تماما. هي رواية أولا وأخيرا بتخيلاتها وتقاطعاتها.

يقوم الكاتب بوصف جميل لمستشفى الرازي بسلا، لا يهم إن كان دقيقا أم لا، لأننا لسنا بصدد التقاط صورة فوتوغرافية جامدة. هي حرية الكاتب ومناطقه البيضاء. لكن الوصف الدقيق كان للشخوص المشغولة بذهانها وهلوساتها: المتنبي، ابن جني، كافور الأخشيدي وزهرة، أو المشتغلة على الذهان والهلوسات: الماجور والطبيبة.

صراحة أعجبني حضور طلب الشرطة (Rp ) لإدخال المريض للمستشفى، وما أدراك ما طلب الشرطة في الطب النفسي طبقا لظهير 1959.

بالنسبة لمرض الفصام. كان واضحا التزام الكاتب بشروط الدليل التشخيصي والإحصائي للاضطرابات النفسية (DSM 5) حيث نجد:

A – تواجد اثنين وأكثر مما يلي على أن يوجد كل منهما لفترة معتبرة من الزمن: أوهام، هلاوس، كلام غير منظم، سلوك غير منظم أو أعراض سلبية أي تناقص التعبير العاطفي أو فقد الإرادة.

كل ذلك كان حاضرا بقوة لدى بطل الرواية. من منا كمشتغلين في هذا الإطار من لم ير صورته في الحديث مع المتنبي أو عن يوسف بن تاشفين:

“فاجأني شخص بوزرة. سألني بفجاجة:

– تتسنى (شي حد)؟

– يوسف بن تاشفين.

– معنا في Service؟

– لا، Stage.

– اخرج، الله يجازيك بيخير، استناه بره، ما قادرين على صداع” (ص 190).

في عملنا اليومي التقينا العديد من الشخصيات. خالد بن الوليد، طارق بن زياد، المهدي المنتظر، عيسى الدجال، عثمان بن عفان واللائحة طويلة. هذا عدا الأنبياء والرسل.

B – خلال فترة معتبرة من الوقت، ومنذ بداية الاضطراب، فإن مجالاً أو أكثر من مجالات الأداء الوظيفي الأساسية كالعمل أو العلاقات الشخصية أو الرعاية الذاتية هي بصورة جلية دون المستوى المتحقق قبل النوبة.

فرغم أن مؤلفنا شخصية عامة معروفة وتجد تقاطعات عدة مع شخصيته في الرواية لكن لا يمكن اعتباره المتنبي أو الأستاذ. بل في ذلك ظلم لهم. لكن في الرواية تتجلى حرية الكاتب، فإن ربطناها بشخص بعينه سنحد من حريته في مساحاته البيضاء وبالتالي حرية شخوصه.

من المجالات التي مسها الاضطراب والجدل، مسألة الهوية. جلي أن المريض/ الراوي مسكون بالهوية المغربية بكل روافدها ومشاربها، عربية وأمازيغية وأندلسية والتي وضعت في مرمى التحليل من خلال الخلل العقلي، الفصام، الذهان والهلوسات. يقول: “قلت لها إنني لا أعتبر البربر مفهوما عرقيا، بل تاريخيا، وسوسيولوجيا، أي ساكنة شمال أفريقيا. كنت أود أن أقول للطبيب النفسي إننا التقاء عوالم. ان ينقم العرب منا حبنا للغتهم. سيعرف الفرس محبتنا لآل البيت، ولن يذهل العثمانيون عن تاريخ مشترك، ظاهر في بلاد المغرب كلها، وضامر في المغرب الأقصى، ولنا وشائج عميقة مع بلاد السودان. ولنا تاريخ مشترك مع الضفة الشمالية، مصاغ في الحروب والصراع والأديولوجيات، وكذا تداخل العلاقات الإنسانية والمصالح. وهل لا يأبى علينا العرب لغة نريدها رشيقة غير مترهلة في غير اسفاف، وهل يكرهوننا على فهم متحجر للعقيدة، وهل ندير الظهر لتراث الأندلس؟ لا نحلم بالأندلس الرقعة، بل بالأندلس الفكرة. لا نريد أن نفتحها بالسيف، بل نود أن نشيعها بالفكر والمحبة والإخاء. لا نفرق بين أحد بناء على عرق أو عقيدة”. (ص 190-191). بالموازاة مع ذلك الراوي /المريض النفسي في أوهامه / شطحاته ينتقد حال الأمة… العربية المسلمة المغربية نقذا عميقا.قاسيا شيئا ما. لكنه نقد المحب.

C – تدوم علامات الاضطراب المستمرة ستة أشهر على الأقل.

– ينبغي أن تعرف قصتي مع المتنبي. سلبني أعز ما أملك.

– وما هو أعز ما تملكه؟

– حاضري.

– ولكنك تعيش في الماضي.

– كي أغشى الحاضر وأعيش في بسطة منه”(ص 210).

في لحظات تقرأ الرواية تحس وكأنك في تتمة لرواية “ربيع قرطبة” لنفس الكاتب. أما عند الاعتماد على شخوص ذات أسماء سلوية أندلسية أو موريسكية فكأننا في ترابط مع رواية “الموريسكي” لنفس الكاتب. هي تقاطعات مع أعمال سابقة وكأنه نفس الراوي، بل هو نفس الجدل الداخلي لنفس الإنسان والذي يستمر منذ شهور وربما سنوات. مما يحيلنا على مشروع فكري يبنيه كاتبنا لبنة لبنة: “النهضة مصاحبة للإصلاح، وليس الإصلاح ما تواتر عندنا من تقويم فعل، بل الإصلاح، في تاريخ الغرب، هو تقويم الفكر، وذكرت أن مدار الإصلاح الديني هو الإقرار بمسؤولية الإنسان. لا قدر ولا قضاء. لا مكتوب ولاقسمة. ولا خطيئة أصلية”. (ص 261) وهو حديث سواء اتفقنا أو اختلفنا في المشروع مع الكاتب له وجاهته.

D- الفصام الوجداني والاضطراب الاكتئابي أو ثنائي القطب مع المظاهر الذهانية قد تم استبعادها.

في الرواية لم تكن هناك اشارة لاضطراب اكتئابي أوثنائي القطب أو البارا نويا. بل هناك هروب الى الماضي من خلال شخصيات تاريخية كالمتنبي، ربما هو جنون كهروب من واقع مر كآلية دفاعية Mécanisme de défense” الجنون تخفيف من وطأة واقع معقد وأوضاع معضلة” (ص 274) وفي بعض الأحيان التمسك ربطها بالحاضر ” هي حاضر يمشي على رجلين” (ص 229). ربما يحيلنا الكاتب/ المريض على التناقض Ambivalence أو الازدواجية في المشاعر، العواطف والانفعالات والاتجاهات والتي تكون متناقضة لدى الشخص الواحد المصاب بأحد الأمراض النفسية والذهانية وخاصة الشيزوفرانيا كما لدى مريضنا الراوي. المتنبي.

E- لا يُعزى المرض لتأثيرات فيزيولوجية لمادة (مثل سوء استخدام عقار، دواء) أو عن حالة طبية عامة.

لم يشر الراوي إلى استهلاكه أي عقار أو مادة مخدرة أو إصابته مرض عام من قبل.

F- إذا كان هناك تاريخ لاضطراب طيف التوحد أو اضطراب التواصل ذو البدء الطفلي، فالتشخيص الإضافي.
لم يوحي الراوي بأي من هذه المظاهر في حياته من قبل، الجلي أنه درس جيدا حتى أصبح أستاذا جامعيا له شأنه في ربط الحاضر بالماضي. يقول في هذا الصدد: “حالمون أننا نعيش الحدث، لأننا نركب الطائرة، ونتعالج بأدق التقنيات الطبية، ونلبس رابطة العنق أو التنورة… حالمون.. لا غير. حالمون ولا نريد أن نستيقظ … إذ لو استيقظنا لوجدنا أنفسنا زمن المتنبي. زمن القرامطة، ولو أنهم غيروا اسمهم وأصبحوا داعش، والبوهيون ولو أنهم غيروا اسمهم، وأصبحوا حاملين لأيديولوجية شيعية، والسلاجقة، وقد أضحوا يدفعون بالعثمانية الجديدة، وسيف الدولة، ولو تسمى بناصر، وكافور، وهم كوافر حدث ولا حرج…”(ص 219-220).

وأخيرا ليسمح لي الكاتب أن لا أتفق مع ما جاء على لسان الممرضة حين قالت: “تلات (أخلفت) بنا الأيام، نداوي الهبال”(ص 276). صراحة لم أسمع طوال مدة عملي، يوما ممرضا من الممرضين النفسيين – رغم الصورة النمطية الشائعة – الذين اشتغلت معهم يتأفف من المرضى رغم صعوبتهم وهيجانهم وسسبابهم النابي عند اشتداد المرض عليهم، بل على العكس من ذلك هم مرضى ولا حكم عليهم.

ختاما التحية للدكتور حسن أوريد الذي أمتعنا بروايته/ بوحه الذي أعتقد أن العديد من مناطقها تبقى رمادية. ذلك ان فهم الرواية سيكون شاقا لكنه غير مستحيل على غير المشتغلين بالمريض النفسي أو الذين يعاشرونه لان المرض النفسي غامض على أهله فما بالك بالغير.

التحية للماجور في حضوره المحوري العميق.

التحية للمتنبي الذي كان سببا لمصالحتنا مع فصامنا.

* المستشفى النفسي الجامعي الرازي بسلا/ كليةالطب والصيدلة – جامعة محمد الخامس الرباط

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *