وجهة نظر

دينامية حقوقية في صلب القضايا المجتمعية.. أم استغلال هجين لمؤسسات دستورية

استقبل المواطنون والمواطنات نبأ تعيين امرأة على رأس المجلس الوطني لحقوق الانسان بارتياح على أساس أن هذا الخيار يعد رسالة طيها دلالات كبرى في سياق تعزيز دور المرأة والارتقاء بالمشهد الحقوقي لصيانة كرامة وحقوق الأفراد والجماعات، والتمكين للتعددية في نطاق الحرص التام على احترام المرجعيات الوطنية والكونية، وذلك عبر فتح أوراش الراهن الحقوقي ملء صعيد المجلس الوطني لحقوق الانسان.

إلا أن السيدة رئيسة هذه المؤسسة الدستورية المعقودة عليها آمال إنصاف ضحايا الانتهاكات، تقبع في زاوية أجندة ضيقة، وترهن المؤسسة التي يفترض أنها مستقلة ومؤهلة للمساهمة في تنوير الرأي العام بتقديم أرقام بخصوص الانتهاكات الجسمانية للفتيات، والنسبة التي تشكلها الفئة المنضوية في سياق تزويج القاصرات من مجموع الانتهاكات للأجساد الغضة في الظروف المختلفة و تحت المسميات المتعددة ومن قبل الأفراد والمؤسسات.

وفي الوقت الذي تطرح فيه ملحاحية هذا الملف واستعجالية التصدي له في جوهره وامتداداته، والعمل على معالجة الأسباب وتعقب الروافد المغذية لظاهرة الانتهاك الجسماني للفتيات القاصرات، نستغرب هذا الإلتفاف على الموضوع ليعرض مضمار تزويج القاصرات تحت الأضواء وتوارى المساحات الممتدة من للاستغلال الجنسي للقاصرات والقاصرين خلف ظلال التمويه.

بجرأة كبيرة، هذه المرة، على صلاحية القاضي وأهليته لإصدار مقرر معلل ومؤسس ومستعينا فيه بخبرة طبية أو إجراء بحث اجتماعي، كما تنص على ذلك المادة20 من مدونة الأسرة، فضلا عن عقد بين أطراف، تعمدالسيدة الرئيسة إلى الحائط القصير وتحصر مساعيها في نطاق العمل على إلغاء تزويج القاصرات باعتباره ظاهرة مستشرية داخل الفئات الهشة في العالم القروي وفي الأحياء الهامشية، مما يعد هروبا من المسؤولية الحقيقية؛ وتمنينا لو أفصحت عن توصية مماثلة لفائدة معتقلي الريف الذين لم تدل بشأن ملفهم ببنت شفة باعتبار ملفهم بين يدي القضاء، وانبرت، بمقاربة الكيل بمكيالين لتفتي في ملف الأستاذ حامي الدين وهو معروض على القضاء.

توريط المؤسسة بفقاعات فارغة لا تفيد البلد في شيء، واستهلال نشاطاتها بالانزواء بعيدا عن الهموم الحقيقية للمواطنين والمواطنات يفوت على المجتمع التصدي للملفات الحارقة في شموليتها وعدم اختصار موضوع انتهاك الأجساد الغضة للفتيات بحصره في ملف تزويج القاصرات وإلا فإن هذا الخيار تبخيس لشأن مؤسسة دستورية أنيطت بها المهام الكبرى في هذا الوطن الذي لا يحتمل مزيدا من التمويه والانزياح عن السياقات والقواعد المرجعية، إذ لا يوجد جوهر إنساني منفصل عن الزمان والمكان، وإثارة موضوع انتهاك جسد الفتيات لا ينفصل عن المكان والزمان المغربيين وهذه الأجساد لها هوية مرتبطة بها، فحري بمن ترأس مؤسسة دستورية أن تقود مشروعا مجتمعيا حقيقيا يعالج جوهر الموضوع، ولا تلوذ لخيار متحيز يروم حجب الانتهاكات في بشاعاتها المتعددة؛

إن المهام الدستورية الكبرى المنوطة بهذه المؤسسة تقتضي الاشتغال بالآليات المتاحة لها بمقتضى القانون إلى أبعد مدى لحماية واحترام حقوق الانسان، وقد وضعت رهن إشارتها كل الامكانات للقيام بمهام الرصد والمراقبة والتتبع لأوضاع هذه الحقوق، إن الاستغلال الجنسي هو جوهر القضية، وتجلياته متعددة وتداعياته أولى بأن تكون موضوع نقاش مسؤول، وما تزويج القاصرات إلا فرع من فروع هذه المعضلة التي تشكل قضية مجتمعية.

يمكن للسيدة الرئيسة أن تتحرى من النيابة العامة والقضاء والأمن والمجتمع المدني والباحثين بشأن البشاعات المقترفة في أجساد القاصرات خارج مؤسسة الزواج على أوسع نطاق للاطلاع على حجم الدمار على المستوى الجسدي والنفسي للضحايا من الفتيات، وتعرج على تداعيات هذه الانتهاكات بإحصاء الأجنة الموؤودة بواسطة الإجهاض، وكذا عدد صبية تحتضنها حاويات القمامات بدل أحضان الأسرة ومصيرها الذي لن يقل مأساوية عن الأمهات العازبات ضحايا الاستغلال الجنسي.

انتظارات المواطنين من مؤسسة دستورية كبيرة في معارك محاربة الاستغلال بمختلف مجالاته وتجلياته، فتح الأوراش في جوهر القضية لا في هوامشها، والمساهمة في معالجة هذه المآسي وفق القواعد المرجعية لهذا البلد، واستثمار آلية التظلم الخاصة بالأطفال ضحايا الانتهاكات والتي أنشأها المجلس في سياق التعامل مع اتفاقية حقوق الطفل مما يمكنه من رصد أعداد الضحايا وأنواع الانتهاكات والمقترفين لفعل الجرم وظروف اقترافه وأثر هذا الجرم على الجسد والنفس والمسار الدراسي والمصير الاجتماعي والاقتصادي، والجرائم المتناسلة منه من اجهاض أو أوضاع المعاناة للأمهات العازبات اللائي يواجهن رفقة أبنائهن من الأهوال ما لا تواجهه متزوجة قسرا إن هي تطلقت.

إن مواجهة هذه الكوارث يتطلب إنجاز المجلس لمهامه الحمائية بسائر جهات المملكة، بتنظيم منتديات واحداث وتنشيط شبكات للخبراء ودعم قدرات الفاعلين المعنيين بمجالات حقوق الانسان، وإجراء التحقيقات والتحريات اللازمة وانجاز تقارير مشفوعة بتوصيات للجهات المختصة، والعمل على تقديم توصيات جادة لنهج سياسات عمومية حاضنة للفئات الهشة بمزيد من دعم التمدرس والتمكين الاقتصادي والحماية الاجتماعية لهذه الفئات.

إن معركة التصدي لانتهاكات تعدم فيها الكرامة وتدمر فيها الحقوق الأساسية قضية مجتمعية تتطلب تعقب كل سلوكات انتهاك جسد الطفلة في مختلف المواقع واعتبارها أفعالا مجرمة تقتضي استنفارا حقيقيا لا فقاعات إشهارية.

إننا أمام راهن حقوقي يحتم تعبئة المؤسسة لتحتضن النضال المجتمعي الحقيقي و تضطلع بمهامها الدستورية في خلق دينامية حقوقية على أساس المرجعيات الوطنية والكونية ووفق القانون رقم 76.15 المتعلق بإعادة تنظيم المجلس الوطني لحقوق الانسان في إطار الملاءمة مع دستور 2011 ، والذي صادقت عليه المؤسسة التشريعية قبل سنة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *