وجهة نظر

حينما تصبح مزاولة مهنة المحاماة ملجأ لتصريف الأزمات

بتاريخ 31 آذار (مارس) من السنة الجارية ، نظمت وزارة العدل و الحريات المغربية بشراكة مع هيئة المحامين بالمغرب ، و هي شراكة صورية لا أقل و لا أكثر تنفرد فيها الأولى بحصة الأسد ، امتحان الحصول على شهادة الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة . حيث بلغ عدد المترشحين ، حسب ما تم الإعلان عنه من قبل بعض المصادر ، أزيد من خمسين ألف مترشح .

الملاحظ ، أن هذا الرقم يدل على إقبال كبير على هذه المهنة ، و هو كبير جدا إذا ما قارناه بعدد المشاركين في امتحانات أو مباريات أخرى خاصة بوظائف أخرى ، كالقضاء مثلا . و تفسير ذلك ، حسب ما يتداول ، لا يرجع فقط إلى العدد المهول للعاطلين عن العمل من حاملي الشهادات على صعيد الوطن ، بل لاستسهال شروط المشاركة في امتحان الحصول على الأهلية لمزاولة مهنة المحاماة ، مقارنة مع غيرها من الوظائف .

الكثيرون من المتتبعين لهذا المجال ، اعتبروا على أن القصد من تبسيط شروط المشاركة في هذا الامتحان ، كجعل المسابقة امتحان و ليس مباراة و المعدل المطلوب الحصول عليه و كذا نوع الشهادة الجامعية و درجة استحقاقه .. يعود إلى التخفيف من ألم شوكة البطالة المدقوقة في خصر الدولة . على اعتبار أن مهنة المحاماة مهنة حرة ، و هي لا تكلف ميزانية الدولة درهما واحدا . و فوق هذا و ذلك ، سوف تساعدها على ملئ خزائنها ، عن طريق الضرائب المباشرة و غير المباشرة .. إذ أن المحامي ، مفروض عليه أداء ضرائب خاصة لخزينة الدولة ، إضافة إلى مساعدتها في تحصيل رسوم قضائية بشكل مباشر عن طريق صناديق المحاكم ، بمناسبة فتحه لأي دعوى . على عكس الوظائف العمومية التي تنهك خزينة الدولة . ثم ، إن هناك فوائد أخرى ، هذه المرة ليست للدولة ، و إنما تستفيد منها نقابات المحاماة على صعيد الوطن . إذ أن كل مزمع على التسجيل في إحدى النقابات ، بعد حصوله على شهادة المزاولة ، عليه أن يؤدي مثلا لأحد الهيئات الراغب في التسجيل بها ، هيئة القنيطرة نموذجا ، مبلغ مائة ألف درهم ، فضلا عن علاوات أخرى . وأما السؤال ، عن أين تذهب كل هذه الأموال ، التي تؤدى من قبل الملتحقين و التي قد تصل إلى مئات الآلاف من الدراهم ، فذلك موضوع آخر .

لكن ، الذي يظهر على مستوى الواقع ، أن ذلك لا يعدو كونه سوى تغيير طلاء هذه البطالة بطلاء آخر ، لا يختلف عنه إلا في اللون و الاسم . إذ أن الأولى بطالة رسمية و الثانية بطالة غير رسمية . فمن قبل ، كانت إلزامية المحامي تكاد تكون في أغلب القضايا ، لكن اليوم صارت ملزمة في قضايا محسوبة على رؤوس الأصابع . و التعديل الذي عرفه الظهير المنظم لحوادث الشغل و الأمراض مهنية ، الغرض منه و بشكل أساسي ، يصب في هذا الاتجاه ، أي الحد من مساحات اشتغال المحامي . إذ أصبح الصلح ضروري في كل قضية من هذه القضايا ، و يترتب عنه عدم قبول الدعوى . و الضحية المصاب بحادثة شغل أو مرض مهني حينما يراسل شركة التأمين من أجل الصلح ، فإنها تغريه بإغراءات معينة ، هدفها منها صده عن التوجه نحو مكتب محام ، بأي طريقة كانت . كذلك ، العديد من القضايا التي تكون الدولة بمؤسساتها العمومية طرفا فيها ، لا يستلزم فيها أيضا محام . و يأتي على رأس ذلك كله ، الممارسات و الأشكال الشاذة لمن اقتحم مجال اشتغال المحامي عنوة ، إضافة إلى السمسرة . و إذا ما أضفنا هذا كله ، إلى ما تقوم به وزارة العدل من إغراق المهنة بملتحقين جدد ، دون فعل أي شيء إيجابي ، سوف نكون سائرين نحو الحصول على بطالة من نوع خاص . فعدد المحامين اليوم بلغ أقصاه ، و على رأس كل ثلاث سنوات ، تعلن وزارة العدل عن امتحان لنيل شهادة مزاولة المحاماة ، و بعملية حسابية بسيطة ، سوف نصل في أفق العقدين القادمين ، إلى بطالة حقيقية في صفوف المحامين أكثر مما هو موجود اليوم .

و ليس ذلك وحده هو ما سوف يحصل و ينجم ، بل إن الآثار و العواقب الجد السلبية التي تترتب عن هذا الاستسهال ، لا تظهر فقط على مستوى الممارسات التي تظهر هنا و هناك لدى ممارسيها ، بل أيضا على جودة عمل القضاء . هذا إذا ما سلمنا و آمنا بالفعل ، على أن المحاماة ، خاصة في المغرب ، لها ذاك الدور العالمي الفعال في تحقيق العدل و الإنصاف .

ثم ، لمن المؤكد جدا ، أن مهنة المحاماة لا تقل أهمية بالمطلق عن مهنة القضاء . إذ يمكن القول على أنها الممتنع السهل . و أنها جزء لا يتجزأ من القضاء ، بل و أصعب من القضاء ، و مسؤوليتها أكبر من القضاء . حتى أنه مسموح للقاضي أن يخطئ . و خطئه يُصحح عن طريق الاستئناف ، و من دون أن يسأل عن خطأه هذا . و قاضي الاستئناف ، بدوره يصحح له خطأه أيضا إذا ما أخطأ ، القاضي الأعلى منه درجة في محكمة النقض ، و مع ذلك لا يسأل عن خطأه . لكن المحامي إذا ما أخطأ ، و كانت المسطرة التي سلكها على غير هدى قانوني ، و لو من ناحية الشكل ، فإنه يتحمل مسؤولية تقصيره عن الخطأ الذي ارتكبه ، بل و يؤدي ثمنه غاليا .

و رغم هذه الفروق ، فاقتحام قلعة القضاء مستعص جدا مقارنة مع هذا الولوج المباح لمهنة المحاماة . إلى درجة أن وزارة العدل ، قد أعطت لمن تتوفر فيه شروط اقتحام قلعة القضاء ، و هي شروط صعبة ، محاولتين فقط لاقتحامها . إذ أن الثانية ، إذا ما فشل فيها المنتقي المترشح ، خاب ظنه و أمله في هذه الوظيفة لبقية عمره . فلا يسمح له فوق الثانية ، أن يشارك في مباراة القضاء أبدا.

و حتى في الممارسة يظهر الفرق جيدا بين هذا و ذاك ، بين المحامي و بين القاضي . لكن الفرق في المعاملة التي تنتهجها الدولة بينهما ، ليس فقط بأخذها مطية للهروب من جحافيل العاطلين ، و إنما أيضا من ناحية التكوين . فمنذ مدة ، و وزارة العدل ما فتأت تتعهد بإنشاء معهد خاص بتكوين المحامين . لكن كل تعهداتها تذهب مهب الريح الذي ينجم عن التغيير الذي تعرفه في كل مرة و حين في عدد الوزراء الذين يتقلدون مسؤوليتها.

إن الحصول على قضاء قوي ذي جودة في الأحكام ، من الأكيد أن ذلك يلزمه تضافر جهود ، تتضافر عنها أيضا أسباب و عوامل كثيرة . لعل من أهمها مهنة المحاماة . فالتجارب أظهرت أن البلد الذي يتوفر على قضاء قوي يتمتع بمثل تلك المواصفات ، تكون فيه ممارسة مهنة المحاماة كما هي متعارف عليها عالميا . و العكس صحيح أيضا .

* محام بهيئة القنيطرة

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *