أدب وفنون، حوارات

بكاري: التداوي بالكتابة ممكن .. وبمقدور الأدب تطهير الإنسان (حوار)

“طقوس الإبداع” .. نافذة ثقافية تفتحها جريدة “العمق” لقرائها الأوفياء من أجل تقريبهم إلى عدد من المبدعين والقصاصين والشعراء والزجالين والروائيين، الذين نبحر معهم في عوالم مخاض النص. كيف يكتبون ومتى وأين؟ وما هي حالتهم وهم يبصمون على النص بعد اكتماله؟ كيف هي نفسيتهم، شعورهم وإحساسهم، قبل وبعد الولادة النهائية لإبداعاتهم؟

جريدة “العمق” تستضيف في هذا السلسلة ضمن نافذة “طقوس الإبداع” الكاتب والروائي طارق بكاري ،من مواليد مدينة ميسور (شرق المغرب) سنة 1988، حاصل على شهادة الإجازة في الأدب العربي من كلية الآداب (ظهر المهراز) بمدينة فاس (2010). كما أنه خريج المدرسة العليا للأساتذة بمدينة مكناس (2011)، يشتغل أستاذا للغة العربية ضواحي مدينة مراكش.

نشرَ له ورقياً وإلكترونياً عدةُ أعمال كما صدرتْ له رواية “نوميديا ” عن دار الآداب البيروتية 2015. وصلت روايته للقائمة القصيرة لجائزة البوكر 2016، وتوجَ بجائزة المغرب للكتاب سنة 2016. كما صدرت له سنة 2017 رواية “مرايا الجنرال” عن دار الآداب البيروتية ،كما صدرت له سنة 2018 رواية”القاتل الأشقر” عن دار الآداب البيروتية.

وهذا نص الحوار:

من يكون طارق بكاري وهل سبق وسألت نفسك هذا السؤال؟

في الحقيقة أواجهُ هذا السؤال في كلّ مرّة أواجهُ الكتابة. مخطئ من يزعمُ أنهُ يعرفُ نفسهُ تمامًا، في داخل كلّ منّا الكثيرُ من المبهمات، الكثيرُ من المجهول الذي يطفو إلى السطح مع الهزات الكبرى التي قد تعتور أيّامنا. نحنُ البشر كائنات معقدة جدًا ووظيفة الروائي في الحقيقة هي تشريح هذا التعقيد، لذلك كلّما هممتُ بالكتابة وجدتني أعيدُ سؤالك جيدًا، لأنّ أنسبَ طريقة ليفهمَ الكاتب أبطالهُ، هي أن يفهمَ ذاتهُ أولًا.

في أي وقت تكتب في الصباح أم المساء؟

أكتبُ ما بين ساعة و ثلاث ساعات في اليوم، غالبًا بدءًا من الساعة الثانية بعد الزوال، وهذا هو وقت الكتابة المحببْ لديّ. أحبّ الالتزام الصارم بفترات الكتابة والقراءة التي أوزعها بشكلٍ منتظمٍ على يومي، لا يخلو الأمر من قسوة، سواء تجاه الذات أو الآخر.

هل تمارس الكتابة وأنت في حالة فرح أم حزن؟

أعتقد أنّ الحالتين معًا تفضيان إلى الحالة الأهم – بالنسبة لي على الأقل – حالة “الانتشاء” حينَ أحزن كثيرًا أو أفرح فإنني لا أخطئ مواعيدي مع الكتابة لأنني أكونُ واثقًا من أنني سأكتبُ أشياء جيدة. كأن هذه العواطف تشحذُ شيئًا ما عميقًا داخلي، كأنها تعدني بقوة إلى أناي. الفرح أو الحزن كلاهمَا يدفعانني للكتابة بهمة وحماس، كلاهمَا يجعلانني أقرب إلى أبطالي. على أنّ الكتابة أيضًا قد تكونُ سببًا في الفرح أو الحزن، حينَ أكتبُ أشياء جيدة أفرحُ، ويحدثُ أن أحزنَ لمصائر أبطالي، أن أحزن بسبب الوشائج الخفية التي تربطُ حياتي الخاصة بعوالم رواياتي، صدقًا في الكتابة فقط لا يكون الحزن نقيض الفرح!

هل تكتب في أي مكان أم في فضاء هادئ؟

لا أحبُ الكتابة في الأماكن العمومية، فضائي الخاص في البيت هو أكثر الأماكن راح بالنسبة لي، أنا جوابُ آفاق وأحبُّ اقتحام الأماكن الصاخبة لكن ساعة الكتابة أحتاج إلى الكثير من الهدوء والتركيز. حينَ أشرعُ في الكتابة فإنّ الحدود تتبددُ بين واقعي وبين عالم الكتابة، الأمر يحتاج درجة تركيز عالية لا أجدها إلا في البيت.

هل الكتابة مؤرقة أم خلاص؟

قال الأشقر في روايتي الأخيرة “الكتابة هي البديل الأقل مرارة للانتحار” وهذا يعني أن الكتابة بشكل أو بآخر أحد أشكال الخلاص.. لكن خلاصي الشخصي مختلف عن خلاص الأشقر. أؤمن بإمكانية التداوي بالكتابة، أعتقد أنها عزائي الخاص، مثلمَا أعتقد أن جميعَ الممسوسين بحب الأدب يبحثون عن عزاء ما ويقبلونَ على الرواية بشغف لأنهم يجدونَ في التلصص على حيوات الآخرين، ما يعينهم على تحمل شططهم الخاص.

هل يمكن القول أن المؤسسات الرسمية للثقافة بالمغرب ماتت والدور تلعبه جمعيات صغيرة؟

لا أعتقد ذلك. أغلب الجمعيات الصغيرة التي تشتغل في ميدان الثقافة والكتاب ممولة من قبلَ المؤسسات الرسمية. بل إن هناك مؤسسات قامت على أساس هذا الدعم فقط والذي لا يصل منهُ للكُتَّاب شيء. شخصيًا قاطعتُ، ومنذ مدة، الكثير من الجمعيات واعتذرت على الكثير من الدعوات التي تلتمسُ لقاءَكَ وتحملكَ فوقَ ذلك تكاليف التنقل والمبيت… رغم أنها تحصل على دعم الوزارة الوصية. هذا يختزل بعض مظاهر بؤس الثقافة في هذا البلد.

ما تعليقك على الوضع الذي يعيشه اتحاد كتاب المغرب خاصة بعد إعلان عبد الرحيم العلام التنحي عن رئاسة الاتحاد؟

أراقبُ وضع اتحاد كتاب المغرب بقلق. لم تربطني من قبل صلة بهذه المؤسسة فقد كنتُ على علمٍ بالفساد الذي تتخبطُ فيه هذه المؤسسة وأجواء الخيانة والدسائس والمؤامرات التي يعيشها بعض “أشباه الكتاب” داخل هذا الصرح، هذا طبعًا دفعني إلى الابتعاد. على أنني أؤمنُ بجدوى وجود اتحاد لكتاب المغرب، وأؤمن بضرورة تدخّل الكتاب الشرفاء لإخراجه من عنق الزجاجة !

بعيدا عن الكتابة ماهي اهتماماتك؟

للأمانة اهتماماتي لا تخرجُ عن دائرة الكتاب.. بعيدا عن الكتابة هناكَ القراءة. ثلاث أرباع الوقت الذي أخصصهُ للأدب أكونُ فيه قارئًا !

ما الجدوى من الأدب ولماذا تكتب؟

جدوى الأدب سؤال مهم. لا سيمَا في العصر الذي نعيشه. قال سارتر في نهاية كتابه “ما الأدب؟” ما معناه أنّ الإنسان بمقدوره الاستغناء بسهولة عن الأدب، لكن بمقدوره الاستغناء بسهولة أكبر عن الإنسان، وهذا يعني أنّ وظيفة الأدب بشكل أو بآخر تكمنُ في إعادة الإنسان إلى إنسانيته. ثم إنّني أؤمنُ بأن بمقدور الأدب أن يقوم بتطهير الإنسان – التطهير بمعناه الأرسطي… إنني أكتبُ لأنني أؤمنُ بقدرة الأدب العجيبة على تطبيب الجراحات الفجة والكسور البليغة التي تخلّفها الحياة فينا والأحياء، وأعتقدُ أنَّ كتابة الأدب وقراءتهُ أيضا، أحد الوسائل التي يمكنُ أن تساعدَ الإنسان على التصالح مع ذاتهِ وواقعهِ وتكوين رؤية فريدة للعالم والأشياء من حوله.

كيف ترى مسؤولية الكاتب في المجتمع، ألا تتفق مع الرأي القائل بأن المثقف يعيش في برجه العاجي بعيدا عن قضايا المجتمع؟

أعتقد أن ما يخلق وهم أن الكاتب يعيشُ في برج عاجي، هو أن تفاعلهُ مع قضايا مجتمعه يتطلبُ وقتًا، عكس الصحفي الذي يعلق على أحداث المجتمع على نحوٍ آني. الروائي يقرأ تغيرات المجتمع وظواهره في مجملها، الأمر يحتاجُ إلى مسافة زمنية لتنضج رؤاه أكثر. لكن هذا لا يعني أنّ الكاتب حبيسُ برج عاجي، بل لا يجدرُ بالكاتب أن يكون حبيس أيّ برجٍ أو ولاء… التحام الكاتب بتيار واقعه ضروري جدًا، وتعبيرهُ عن مواقفه بوضوح عبر الوسائط المتاحة، ورقيا وإلكترونيًا، هو مدخل إلى إعادة الثقة للنخب المثقفة.

القاص بوزفور سبق وفجر نقاشا حول التجريب في القصة واصفا إياه بالتخريب، ما رأيك؟

الحقيقة أننا يمكن أن نسحبَ ما قالهُ على الرواية أيضًا. أعتقد أن المبالغة في التجريب، أو سوء فهم التجريب، أو ألغاء الحكاية لصالح التجريب كلها أسباب أقامت سدًا بين القارئ والرواية المغربية في مرحلة من مراحلها.

أين تجد ذاتك في القصة أم الرواية أم الشعر؟

طبعًا أجدُ ذاتي في الرواية، لأنها ببساطة تمنحك مساحة الحرية التي ينشُدها أيّ مبدع وباختصار ففي الرواية يمكن أن تكونَ قاصًا وشاعرًا وفيلسوفًا ومسرحيًا… الرواية تتسعُ لكل الأجناس الأدبية وأعتقد أن هذا ما يجعلها أقرب إلى قلبي مثلمَا هي أقرب لقلوب القراء.

كتبت قليلا، لكن بصمت بقوة، ثمة رسالة في نذرة النشر تود إيصالها؟

لا أعتقد أنّ هناك ندرة في النشر. أعتقد أنّ العمل الجيد يمكنُ أن يجدَ طريقهُ إلى ناشر جيد يحترم نفسهُ ويحترم أخلاقيات مهنته.. بعيدًا عن سماسرة الأدب وتجّار الثقافة ودكاكين النشر الوهمي، هناك ناشرون حقيقيون، يبحثون عن نصوص حقيقية. أعتقد أنني محظوظ بثقة دار نشر عريقة وقوية مثل دار الآداب التي تحيطُ كتابها وأعمالهم بكثير من المحبة والدعم.

هناك جدل وسط المثقفين يتكرر كل سنة، حول الجوائز الأدبية ? ماذا تمثل لك جائزة أدبية؟ وهل الجوائز تقتل المبدع؟

أعتقد أنّ الجوائز الأدبية مهمة وشخصيًا أجدها دفعة معنوية إلى الأمام. الجوائز الأدبية لا يمكن أن تقتل مبدعًا كما أنها لا تعكس دائمًا جودة العمل المتوج، الجوائز في الأخير ترتهن إلى لجان تحكيم، واختيار الأعمال المتوجة يرتهن لذائقة هذه اللجان ولميولاتهم، وأحيانًا لحسابات خارج الأدب. أعتقد أن العمل الأدبي الحقيقي يجدُ طريقهُ إلى القارئ بالجوائز أو بدونها.

ما رأيك في هذه الكلمات: الحب؟ -الرواية ؟

الحب والرواية – بالنسبة لي – وسيلتان للاستمرار في هذه الحياة بأقل قدر ممكن من الخسارة.

“سيليا” ماذا يمثل لك هذا الإسم؟

رزقتُ مؤخرا بمولودة أسميتُها “سيليا”. تمثل لي كل شيء، هي ثروتي، طبعًا الأبوة إحساس جميل، إنه درسٌ آخر في الرواية!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *