وجهة نظر

في الحاجة إلى الأدب…في الحاجة إلى الحياة!

تقديم:
لهذا المقال، طعم خاص، ولد من رحم حوار دار بيني وبين ابنتي (آخر العنقود)، حينما حصلت على شهادة الباكلوريا (شعبة العلوم الفيزيائية)، السنة الماضية، وككل أب مع أبنائه، عادة ما يكون النقاش “قويا” حول طبيعة الاختيارات الممكنة، بعد الحصول على هذه الشهادة .نقاش، تتداخل فيه العديد من الأفكار والتمثلات والمواقف، الخ.
إلى حدود هذا الكلام، فالأمر عاد، ولا يحتاج إلى كتابة هذه المقالة/النبش في ذاكرة دالة. ونحن –أنا وآخر العنقود- نتحاور، حول آفاق الدراسة، اقترحت عليها، التفكير في تغيير مسار دراستها، من هذه التخصصات العلمية، نحو تخصص آخر، ولم لا، الأدب…بل بمجرد ذكري لفظة الأدب، ودون أن أكمل الباقي، حيث كنت بصدد إضافة لفظة الإنجليزي، أي أن تفكر في متابعة دراستها بشعبة الأدب الإنجليزي، لأنني أعرف جيدا طبيعة تملكها للغة الإنجليزية، بشهادة أصدقاء لهم علو كعب لغوي في هذه اللغة وآدابها، حتى قالت لي وبالحرف الشعبي المغربي: “أو مالي طايحة على راسي ندير الآداب…”،( وهي تضحك)،

خلاصة كلامها، جرني إلى أواخر السبعينيات وبداية الثمانينيات، حيث كان المجتمع المغربي، متعطشا للشعب العلمية والتقنية، بل، وكانت كل فئاته تقريبا، ترى أن المستقبل في العلوم، بل، كان التمايز واضحا بين الشعبتين، أي بين الشعبة الأدبية والعلمية، إلى درجة، أن الميزان كان دوما يميل لصالح تلاميذ وطلبة العلوم، مع العلم، أن اختيار شعبة الأدب العربي، على سبيل المثال، (وأنا شاهد ومنتم لهذه الحقبة، بل واحد ممن يدور حولهم هذا الكلام)، في تلك المرحلة، كانت تتم في المجمل على قناعات المعنيين بالأمر، أي، أن الميولات التربوية والنفسية والثقافية، الخ، كانت وراء العديد ممن اختاروا شعبة الأدب العربي، سواء على مستوى التعليم الثانوي أو الجامعي، بل كان الحاصلون على شهادة الباكلوريا خلال بداية السبعينيات، وفي شعبة الأدب العربي، كانت تفتح لهم أبواب كلية الطب.

عودة إلى “طيحة الرأس” لأنني أنتمي إلى شعبة الأدب:

تمثلات عديدة، لازالت إلى يومنا هذا، ترسخ، حول هذه الشعبة والعديد من الشعب القريبة منها مثل، التاريخ والفلسفة، الخ، إلى درجة أننا اليوم، نربط ربطا مباشرا بين الانتماء لهذه الشعبة/الشعب، والبطالة، إن لم يكن مجال التعليم، هو المجال الوحيد تقريبا لاستقطاب هذه الفئات، على الرغم من “ذوبان” “جاذبية” هذه المهنة لاعتبارات عديدة، ليس هذا هو مجال تفصيل القول فيها.

اليوم، نعيش، وضعا “مأساويا” يتعلق بطبيعة هذه الشعبة، ومن “يختارها”، بل، هي شعبة، قد تعرف “انقراضا” مستقبليا، لاسيما وأن من “يسجل” في هذه الشعبة سواء أثناء انتقاله، من التعليم الإعدادي، نحو الثانوي، أو أثناء الحصول على شهادة الباكلوريا، فئة لا رغبة لها في الغالب الأعم في الانتماء لهذه الشعبة والاعتزاز بها والبحث فيها، إلى حد التخصص والاكتواء بمحتوياها و”شم” رائحة مؤلفاتها الأدبية الروائية والشعرية والنقدية واللغوية والشعبية والفنية، الخ، بل، فئة “دفعتها” ظروف معينة، لهذا “الاختيار”، لاسيما والعديد من الطلبة الذين درستهم وكونتهم، هم في الغالب الأعم، لو “رجعت” بهم اختياراتهم إلى الوراء، لاختاروا شيئا آخر.

طبعا، كان ردي على صاحبة (طيحة الراس)، مخلخلا لتصوراتها، ولطبيعة تمثلاتها حول شعبة الأدب سواء العربي أو الإنجليزي، لأنها جمعتهما في “سلة واحدة”، خلاصة ردي وبشكل مبسط لها، أن “واقع” دراسة الأدب العربي أو غيره، راجع لطبيعة “السوق” وما تتطلبه من حاجيات. السوق “هي من تحكم”، ببساطة، لا ذنب للأدب العربي في كون سوق الشغل مثلا، محتاجة إلى ممرضين، لكون هذه المهنة مثلا مطلوبة في دول خليجية وأوروبية وحتى داخل المغرب. حاولت أن أقرب لها “لعبة” ما يجري في عالم الشغل ومن يتحكم فيه، الخ.

طبعا، و”أنا” أشرح وأحلل، الخ، وهي تبتسم بين الفينة والأخرى، مقتنعة بقيمة “ضحكها” على الأدب العربي، إلى حد، تفضيلها “البقاء” في البيت ولا “اتباع” دراسة من هذا النوع، وأن مصيرها الحقيقي، البحث عن مقعد في مؤسسة جامعية ذات استقطاب محدود، أي مؤسسة تقبل طلبتها، بناء على معدلاتهم المرتفعة. تطور النقاش إلى هل الدراسة وسيلة لكسب “طرف ديال الخبز”، أم هي من أجل السير في مغامرات ما نريد، أم من الممكن الجمع بينهما؟. طرحت علي سؤالا/ فخا، مفاده هل لو تمت عودتي إلى الوراء، هل سأختار الأدب العربي من جديد والسير في دراسته والتعلم فيه وفي كليته؟. أكدت لها، نعم، لكون الأدب العربي، هو مصدر من مصادر الحياة، وما “الرزق” إلا مكون من مكونات هذه الحياة، وإلا ما السر في كون العديد من الأغنياء وعبر التاريخ (ملوك وملاك وخلفاء، الخ)، لم تستقم لهم الحياة إلا بمرافقة الأدباء الذين نهلوا منهم سر الحياة، إن لم يكونوا سرقوا منهم طعم ولذة الحياة، بعدما أدركوا سر وقيمة ولذة الكلمة الشعرية وبلاغتها ولغتها ونقدها وفنها وفلسفتها وتاربخها، الخ.

رسالة إلى صاحبة “طيحة الراس” ومن يسير في فلكها:

الأدب، يا بنيتي الصغيرة والعزيزة، هو سر من أسرار فهم الذات والعالم والآخر. به، نحقق متعة ليس من السهل، على من يملك ويتملك العديد من “وسائل الإنتاج”، القبض على هذه المتعة، لسبب بسيط جدا، هو كون الأدب كمكون من مكونات المعرفة الجمالية، يمتعك وينتشلك من التسطيح والتبضيع والتضبيع. فبالنقد، ننفلت من قبح السياسة السياسوية، ولا “نعلب” أنفسنا لبيعها في سوق النخاسة الجديدة، بل ومن خلال تشريح الرواية والشعر، وامتلاك اللغة، والسفر في ذاكرة التشكيل والسينما والمسرح، وغير هذا، نملك فهما جميلا للعالم . هل من الممكن تملك هذا خارج الانتماء لشعبة الأدب والفلسفة، الخ؟. حتى وإن أتينا من خارج الأدب وأردنا أن نتعلم ونكتب قصة أو رواية أو مسرحية، فلا بد من دق باب الأدب، والدخول عبر بوابته، لتحقيق ما نسعى إليه.

لن نحمل هموم البحث عن الشغل، في ظل عولمة لا ترحم، بل في ظل عولمة، ترغب في بيع كل شيء، بما فيه الإنسان، إلى الأدب أو الفلسفة أو التاريخ، الخ. يكفي أن نشير هنا، أن ثقلا كبيرا من كل هذا “تتحمله” المدرسة ونظرتنا لها، بل وكيفية وضعها سواء بشكل مقصود أو غير مقصود، في هذا الربط “العضوي” بينها وبين الشغل (لقراية مقابل الشغل)، وهو ما أفضى إلى التهافت على شعب وتخصصات معينة، والتقليل من قيمة معارف تفضح هذا الفعل، مما جعلها تعيش وفي رحلتها المعرفية العديد من المحن، والتي تتحول إلى مصدر لتصليبها وتقويتها.
قدمت لها أسماء عديدة كانت مجهولة، ولا وزن لها، ولا لمالها ولا لموقعها، لكنها حينما التفتت إلى الأدب أو الفلسفة أو التاريخ، بزغ نجمها في تاريخ المعرفة وهي اليوم مندرجة ضمن مواد بيداغوجية تعلم وتدرس للمتعلمين وعلى امتداد ربوع الأوطان العربية وغيرها.

أسماء عديدة ومن مجالات فنية، هي اليوم في دار البقاء، وأخرى لا زالت على قيد الحياة، كانت مجهولة الهوية الحياتية، لكن إبداعاتها الروائية أو السينمائية أو التشكيلية أو غيرها، هي من كان وراء إدخالها إلى بوابة المعرفة الإنسانية، وجعل الناس يستمتعون بما خطت أياديهم أو من خلال ما أبدعوا في أجناس فنية أخرى.

إذن، السؤال القوي، هل من الممكن العيش دون كتابة؟ هل من الممكن البقاء دون فنون؟ هل من الممكن الاكتفاء بالأكل والسيارة الفاخرة والسكن في أعالي المدينة أو الريف في بروج مشيدة، دون رغبة إلى كتابة أو قراءة؟. هي أسئلة قد “خلخلتها”، وجعلتها تبتسم، مع الحفاظ على الربط بين الآداب والعذاب!.

نقاشات ساخنة، كللت باختياراتها الشبابية العلمية الباحثة عن تعليم علمي مفض إلى امتلاك شهادة تفتح لها المجال لوضع رجلها في سوق شغل، غير مؤدية لمهن تشكلت حولها تمثلات مجتمعية عديدة.

فعلا، لكل جيل اختياراته، ولكل جيل عذابه/عذوبته المجتمعية، الآتية من القيم والمعايير التي حددها “القوي” اقتصاديا وسيباسيا، الصانع لما يرغب هو، لكون “مفاتيح” العولمة، هي “هكذا”. لكن، تظل متعة الأدب، متعة لايدركها، إلا من اكتوى بها، متعة شبيهة بمتعة الموسيقى الصوفية التي تسقط معها، أغاني “النعيق” و”التهرنيط”، لكون الأولى تكشف مسخ الثانية، مما يجعل من الثانية بوقا مفزعا، دافعا للمال، من أجل أن تبقى هي “المهيمنة” و”صانعة” الأذواق، لأنها تعرف أن انتشار الأولى سيقزمها إلى حد الاندثار، ومن هنا، السر في جعل جمال الذوق، قليلا ونادرا، مقابل تعليب وبيع قبح “الذوق “وبأثمان مرتفع، إلى حد أصبحت هي “النموذج”، يكفي تحليل الأغاني أو البرامج أو الألبسة، الخ، المتهافت عليها، لنعرف، بل لنطرح السؤال ما ذا لو لم تكن هنا فنون تفضح بين الفينة والأخرى مثل هاته النماذج، التي تسوق اليوم على أساس أنها “ناجحة” لكونها “ضبعت” الأذواق، وقالت عنها “الجمهور عايز كذا”.

ويبقى الأدب، مصدرا من مصادر الحياة، فهو الحارس الأمين، لكي لا تبتلعنا العولمة، ابتلاعا نهائيا، بل هو جندي مدافع عن التمسك بما تبقى من جمال في هذا العالم. من هنا، فالحاجة إلى الأدب حاجة أبدية إنسانية.
مع توفيق جميل لها ولجيلها وللجميع.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *