مجتمع، ملف

ليكسوس.. قصة أقدم مدينة مغربية تعاقبت عليها 4 حضارات كبرى (فيديو وصور)

بزغت شمس مدينة ليكسوس على مدار 22 قرنا بدون انقطاع، تعاقبت عليها 4 حضارات كبرى في تاريخ البشرية، ما جعلها تشكل أقدم حاضرة بالمغرب وبغرب البحر الأبيض المتوسط، قبل أن تُصنَّف في عداد الآثار الوطنية بموجب مرسوم صدر في فبراير 2001، وهو ما جعل وزير الثقافة يدشن رسميا محافظة خاصة بهذه المدينة، يوم السبت 20 أبريل 2019، بعد مائة عام من الأبحاث الأثرية.

مدينة ليكسوس التاريخية التي يمتد موقعها على مساحة 60 هكتارا، تشير المصادر التاريخية إلى أن التجار الفينيقيين هم من أسسوها في القرن الثامن قبل الميلاد ضمن الفترة الفينيقية، قبل أن يحكمها الملوك الموريون ضمن المرحلة المورية، مرورا بالحقبة الرومانية حيث شهدت المدينة أوجَّ اتساعها، ثم مع الحضارة الإسلامية بعد دخول الإسلام إلى المغرب، قبل أن تتعرض للهجر.

ولا يزال موقع مدينة ليكسوس الأثري الواقع قرب مدينة العرائش، عاينته جريدة “العمق”، يضم إلى يومنا هذا أثارا حية لمباني الأهالي في حقب ما قبل الميلاد والمرافق العمومية كالمحكمة والمعابد والحمامات والمسرح الدائري وأسوار المدينة والمدافن والقطع الأثرية والكتابات، إضافة إلى الحي الصناعي المختص في تمليح المسك، وكان الأكبر من نوعه على صعيد البحر الأبيض المتوسط طيلة قرون.

ورغم أن عمليات الحفر ضمن الأبحاث الأركيولوجية لم تشمل إلا حوالي 10 في المائة فقط من إجمالي مساحة الموقع، إلا أنها مكنت من الكشف عن بقايا بنايات هامة وقطع ولقى أثرية ضاربة في التاريخ تعود لمختلف الفترات التاريخية التي عرفها الموقع، ويتعلق الأمر أساسا بالحي الصناعي والحي السكني وحي المسرح الدائري والحمامات العمومية ومُجمع “القصر الملكي” والمدافن.

ويوم السبت 20 أبريل الجاري، قرأ “القيصر الروماني” من وسط المسرح الدائري لهذه المدينة الأثرية، رسالة باسم أرواح الشعوب التي مرت من ليكسوس، شكر خلالها زوار الموقع الذين أقاموا الاعتبار لهذا الصرح التاريخي، وذلك ضمن عروض فنية تجسيدية للتراث الروماني أقامتها فرق فلكلورية من العرائش وإسبانيا، في محاولة لإضاءة متاهة التاريخ وإعادة بعث الحياة في ليكسوس من جديد.

وزير الثقافة محمد الأعرج قال إنه “بعد اليوم، لن يعود هذا الموقع الأثري بالنسبة للزائر مرادفا لبضع كتل من الحجارة القديمة والأطلال المتهدمة، ولكن شاهدا رئيسيا على تاريخنا ومصدرا للمعرفة والاعتزاز، وبما أنه يشكل موضوعا للبحث الأثري الجاد والدؤوب، فسيمنح لزماننا الحالي أسرار ماضي مجيد”، لافتا إلى أن الطموح حاليا هو أن يساهم هذا الموقع في التنمية السياحية والاقتصادية لمدينة العرائش، داعيا جميع المغاربة إلى زيارته.

22 قرنا من الحياة

المدينة التي تأسست خلال القرن الثامن قبل الميلاد على يد الفينيقيين، وهو التاريخ المحتمل لبناء معبد الإله الفينيقي ملقارت، كانت تعتبر واحدة من أكبر المدن الفينيقية بغرب البحر المتوسط على مساحة 12 هتكارا حينها، وتطورت من مجرد مركز تجاري إلى مدينة قائمة بذاتها، تجلت خلالها رفاهية سكانها في استعمال مواد من الطراز الرفيع تم استيرادها من مختلف مناطق البحر المتوسط كفينيقيا واليونان وقبرص.

ومرت المدينة بالفترة المورية انطلاقا من القرن السادس قبل الميلاد إلى سنة 40 ميلادية، حيث عاشت ليكسوس خلالها مرحلة ازدهار عمراني تجلت في منازل ذات تصاميم مميزة ومباني عمومية ومعابد وأسوار حول المدينة، فرغم قلة المعلومات عن هذه الفترة، تؤكد اكتشافات أثرية جديدة بمقابر رقادة تعود إلى نفس الفترة، إلى أن سكان المدينة ربطوا علاقات تجارية مع القرطاجيين ومناطق أخرى تحت حكم الملوك الموريين.

وتلت الفترة المورية مرحلة الاستيطان الروماني التي حوّل خلالها الاحتلال الروماني المدينة إلى مستوطنة رومانية ثرية من سنة 40 ميلادية إلى بداية القرن الخامس الميلادي، شهدت خلاها ليكسوس أوّجَ اتساعها كما الشأن بباقي مدن الإمبراطورية الرومانية، إذ شُيدت بها العديد من المباني العمومية كالمحكمة والمعابد والحمامات والمسرح الدائرية والأسوار، وأصبح الحي الصناعي المختص في تمليح المسك الأكبر من نوعه على صعيد البحر الأبيض المتوسط، إضافة إلى المنازل الفاخرة المزينة باللوحات الفسيفسائية والرخام والتماثيل والصباغات.

وعاشت المدينة بعد ذلك فترة سُميت بـ”القرون المظلمة” ما بين القرن الخامس الميلادي ودخول الإسلام في القرن الثامن الميلادي، رغم أن المعطيات التاريخية تشير إلى أن النشاط الاقتصادي والإنساني بالمدينة استمر خلال هذه الفترة، خاصة أن الأبحاث الأركيولوجية أثبتت أن المجمَّع الصناعي لتصدير السمك ظل يعمل في هذه الحقبة الزمنية، وأن المسيحيين استقروا بالمدينة قبل دخول المسلمين.

ومع دخول الإسلام إلى المغرب الأقصى، تحول اسم المدينة إلى “تشميس” واعتنق أهلها الإسلام، فيما استقر بها أحد أمراء أول دولة إسلامية بالمغرب، وهي الدولة الإدريسية، وجعلها مقرا له، ويتعلق الأمر بالأمير إدريس ابن قاسم وفق المعطيات التاريخية، في حين كشفت الأبحاث الأركيولوجية عن وجود منزل يتوسطه فناء ومسجد وكمية هامة من اللقى الأثرية التي تعود إلى الفترة الإسلامية، وخاصة الموحدية والمرينية، قبل أن تتعرض المدينة للهجر بشكل نهائي ما بين القرين 13 و14 ميلادية، عقب انتقال السكان إلى الاستقرار بالضفة الأخرى للوادي، حيث العرائش حاليا.

مركز تجاري عالمي

جريدة “العمق” عاينت الموقع الأثري ليكسوس، والذي يتكون أساسا من الحي الصناعي والحي السكني ومجمع القصر الملكي والمسرح الدائري والحمامات العمومية، تعود لمختلف الفترات التاريخية التي عرفتها المدينة، إضافة إلى عدد من المباني واللقى الأثرية كالنقود والحلي والأواني وتماثيل الآلهة ووسائل تزيين النساء وغيرها، حسب المعطيات العلمية والتاريخية التي استقتها “العمق” من محافظة الموقع.

فقدت استفادت المدينة من الموارد البحرية المحيطة بها بشكل كبير، واستطاعت أن تضع نفسها ضمن المدن الاقتصادية الكبرى حينها، وذلك بفضل المجمع الصناعي لتمليح السمك المتواجد بالمنطقة السفلى للموقع، والذي لم يُكشف لحد الآن إلا على النصف منه، ويتكون القسم المكشوف من 10 مصانع و147 صهريجا بإمكانه إنتاج حوالي مليون لتر خلال كل موسم صيد، وهو ما جعله الأكبر من نوعه بحوض البحر الأبيض المتوسط.

هذا المركب الصناعي الضخم، ظل نشيطا من القرن الأول إلى الخامس الميلادي، حيث كان يعمل على تصدير مصبرات وصلصات السمك الذي كان الإقبال عليه كبيرا في العالم الروماني، وذلك عن طريق ميناء تجاري كشفت الحفريات فيه عن وجود بقايا أنفورات (جرات من الطين) خاصة بنقل السمك، كما أن تعليب المنتوجات المصدرة في الأنفورات يدل على احتمال وجود مركب ضخم لصناعة الفخار، لم يتم الكشف عن بقاياه بعد، حيث تم العثور على 100 أمفورة بمنزل واحد، نصفها أنتج محليا.

وكان المنتوج الليكسي يُصدر بشكل واسع عبر البحر إلى عدة أماكن، منها بومبيي، أكيليا، أوغست، ميزن، لاندربورغ، ماكونزا، كما تدل على ذلك الكتابات اللاتينية المصبوغة على أعناق الأنفروات، حيث تشير هذه الكتابات إلى نوعية المنتوج ومكان صناعته ودرجة جودته وأسماء التجار، وإلى جانب ذلك، كانت ليكسوس تنتج صبغ الأرجوان المستعمل في صباغة الأقمشة الكتانية والصوفية بثمن باهظ، ما جعله مقصورا على الطبقات العليا والحاكمة التي تتفاخر باللون الأرجواني كرمز للسيادة والسلطان.

وفي عهد سابق على الاحتلال الروماني، اكتشف الباحثون الأركيولوجيون بداية سك النقود من طرف دار السكة بالمدينة (يوجد عدد منها بمحافظة المدينة)، حيث تحمل النقود صورا لسمك التون، كشعار اقتصادي الهدف منه التباهي بثورة طبيعية لها وزن كبير حينها، إضافة إلى صور الإله الأكبر للمدينة والحامي لها “كسور” أو “كثار”، إذ نُقشت صوره بدون انقطاع فوق جل المسكوكات طيلة قرون.

ازدهار عمراني

عمليات التنقيب بالهضبة الشمالية لموقع ليكسوس، كشفت وجود بقايا ما كان يسمى “حي المعابد” في المرحلة الفينيقية، قبل أن يعرف إعادة تهيئة شاملة مع الرومان، إذ يضم هذا الحي عدة بنايات منها معابد وحمامات عمومية ومنزل إسلامي ومسجد، إلى جانب مبنى ضخم مستطيل الشكل يطل على منظر بانورامي على مصب وادي اللوكوس، اعتُبر كمُجمع بمقومات قصر ملكي، ويتميز بعمران فخم وفريد من نوع بالنسبة للمغرب القديم في عهد الملكين يوبا الثاني وابنه بطليموس.

وكشفت الحفريات بهذه الهضبة، عن وجود بقايا أسوار تعود لمراحل مختلفة، وصهاريج لتخزين مياه الشرب وبقايا قناة مائية ومنازل مورية ومدافن، فيما أظهرت الأبحاث الأركيولوجية بربوة “تشميس” عن وجود مجموعة من المنازل الرومانية الشاسعة ضمن الحي السكاني، أغلبها تتوسطه باحات معمدة تشير إلى بذخ وثراء مالكي مصانع تمليح السمك والضيعات الفلاحية،، زُينت برسوم هندسية وتصويرية وصباغات جدارية فسيفسائية وحمامات خصوصية، جلها معروضة حاليا بالمتحف الأثري بتطوان، باستثناء واحدة منها.

وفي شواهد حضارية على تقدم المرفق العمومي بهذه المدينة، لا زالت بقايا المسرح الدائري بهندسته التاريخية إلى اليوم، في بناية مزدوجة تضم مسرحا للعروض الفنية والموسيقية، وفي نفس الوقت حلبة لعروض المصارعين والحيوانات الضارية ومواكب النصر، جعلت منه مسرحا فريدا من نوعه والوحيدة بشمال إفريقيا الذي يوفر وظيفة مزدوجة، حيث تبلغ مساحة الحلبة 804 مترا مربعا، فيما المدرجات بُنيت على شكل نصف دائري.

وبمحاذاة المسرح-المدرج تقع حمامات عمومية رومانية تتوفر على غرفة تغيير الملابس وقاعة كبيرة باردة تزينها فسيفساء ذات رسومات هندسية تمثل وجه الإله أوقيانوس، وعلى قاعات دافئة وساخنة وأحواض كانت مزينة حينها بالصباغات الجدارية والرخام، في حين لم يبقى بالموقع سوى بعض بقايا موقد هذه الحمامات.

ولم يغفل معرض محافظة ليكسوس الذي تم تدشينه من طرف وزير الثقافة محمد الأعرج السبت الماضي، الجوانب الثقافية لهذه المدينة الأثرية، موثقا بذلك بشواهد مادية متعددة كالنقائش الجنائزية والنقوش على الخزف والنقود التي سُكت بالمدينة، وفي المدافن الجنائزية، ما يظهر أن ساكنة ليكسوس كنت لهم ثقافة محلية قوية متأثرة ومنفتحة على الثقافات المتوسطية خاصة البونية واللاتينية.

أسطورة “هرقل”

على غرار باقي المدن بحوض المتوسط كروما وقرطاجة وكادير، حظيت ليكسوس بهالة من الأساطير التي كان الهدف منها هو تمجيد ماضيها العريق، فحسب كُتاب الإغريق كان يعيش الملك أنتيوس داخل قصر بليكسوس، وهو حامي الأرض الإغريقية وكان عملاقا لا يُقهر نظرا لأنه يستمد قوته الخارقة من الأرض الأم، وبمحاذاة ليكسوس حيث تغرب الشمس أبدا ضمن الحد الفاصل بين عالم البشر وعالم الآلهة، كانت تقع “جنة الهسبيريسات” التي تضم شجرة عجيبة تنتج تفاحا ذهبيا يمنح لآكله الخلود الأبدي.

الكُتاب الإغريق أشاروا في كتاباتهم إلى أن مهمة السهر على الجنة المذكورة أوكلت إلى جنيات الليل (تسمى كل واحدة منهن هسبيرس)، وكان عددهن 3 أو 7 أو 14، كما كانت هذه الجنة الأسطورية فضلا عن ذلك تحت حراسة تنين رهيب له مائة رأس، وإذا ما صدقنا بلينيوس الأكبر صاحب كتاب “التاريخ الطبيعي”، فإن التنين لم يكن سوى نهر ليكسوس الذي يرسم التواءات ومنعرجات شتى قبل وصوله إلى البحر، ولم تكن إذن جنة الآلهة سوى مدينة ليكسوس القاصية والمحاطة بالأسرار.

وفي ظل هذا المشهد يظهر هركليس (أو هرقل) وهو ليس في الواقع سوى ملقرات، أهم آلهة مدينة صور الفينيقية التي يعزى إليها تأسيس عدد من المراكز التجارية والمستوطنات بغرب البحر المتوسط، فتقع معركة بين هركليس والملك أنتيوس، انتهت بانتصار الأول الذي سيتزوج بأرملة المنهزم، كما تمكن هركليس من قتل التنين بمساعدة “أطلس” جبار آخر، وبتواطؤ من جانب الهسبيريسات اللائي عمدن إلى تنويم التنين، ليتمكن هرقل من قطف التفاح الذهبي ولتنكشف مدينة ليكسوس بعد أن كانت مخفية لزمن طويل.

ففي هذا العهد الأسطوري الذي كان يسميه كُتاب الإغريق بالعهد البطولي، أقيم معبد (أو مذبح) مخصص لهركليس في جزيرة الهسبيريسات خلال القرن 12 قبل الميلاد، ليكون بذلك أقدم من معبد مدينة كاديس الإسبانية التي أسسها أيضا الفينيقيون القادمون من مدينة صور، وذلك وفق المعطيات التي تم تجميعها من طرف وزارة الثقافة ضمن محافظة موقع ليكسوس.

وارتباطا بالأسطورة أيضا، فإن الإله الحامي لمدينة ليكسوس لم يكن سوى الإله “كوسور” الذي عُرف في أوغاريت (سوريا) منذ الألفية الثانية قبل الميلاد باسم الإله “كوثر”، حيث حملت جل النقود الذي تم سكها بليكسوس منذ القرن الثاني قبل الميلاد، صورة هذا الإله ذي الملامح الشابة، حيث تغطي رأسه قلنسوة مخروطية الشكل وموشاة ولها شريط طويل ينتهي بقرص، ويظهر أحيانا بفأس مزدوجة على غرار بعض الآلهة في الشرق القديم، إذ كان تم تقديس “كوسور” ورفعه إلى مرتبة رمز وشعار مدينة ليكسوس، باعتباره “إله الحداد وصانع الأسلحة والسفن ومعلم الصيد البحري”.

لغات ليكسوس

تشير الأبحاث الأركيولوجية التي وضعتها وزارة الثقافة رهن إشارة المهتمين، إلى أن أقدم الوثائق المكتوبة التي عُثر عليها لحد الآن في ليكسوس، تضم نُقَيشات فينيقية سُطرت على أوان خزفية ومؤرخة بالقرنين الثامن والسابع قبل الميلاد، كدليل على تداول الكتابة واللغة الفينيقية بليكسوس، حيث اعتبرها مؤرخون على أنها أقدم الشواهد على استعمل الكتابة في المغرب وبغرب البحر الأبيض المتوسط.

وتكشف المصادر البحثية أن اللغة الفينيقية ستختفي نهائيا في ليكسوس لأكثر من 3 قرون، ولن تظهر إلا في القرن الثاني قبل الميلاد في عهد الملك بوقوس الأول، وهو التاريخ الذي بدأت فيه ليكسوس استعمال لغتين آخرتين، وهي اللغة البونية “القرطاجية”، واللغة الليبية المحلية، هذه الأخيرة أصبحت متداولة بشكل واسع داخل المدينة لكنها لم تتمكن من الحصول على وضعية اللغة الرسمية للمدينة، مقابل حصول اللغة البونية على هذا الامتياز باعتبارها لغة التواصل أنذاك، حيث استعملت المملكة المورية بشكل منفرد هذه اللغة على النقود التي ضربتها المدينة منذ القرن الثاني قبل الميلاد.

غير أنه منذ القرن الأول قبل الميلاد وفي ظل حكمي الملك يوبي الثاني وابنه بطليموس، بدأت اللاتينية تنافس اللغة البونية كما تدل على ذلك بعض النقود التي تحمل اسم المدنية مكتوبا باللاتينية، وقد ساهمت العلاقات التجارية القوية مع الرومان وإنشاء مستوطنات رومانية بموريطانيا القديمة، في تكريس اللغة اللاتينية، خاصة بعد ضم موريطانيا إلى الإمبراطورية الرومانية ما بين سنتي 40 و42 ميلادية، الأمر الذي أدى إلى انتشار اللغة اللاتينية على حساب اللغات السابقة، ما جعل اللغة البونية تختفي نهائيا، مقابل استمرار الليبية في التداول لكنها لم تحظى بالكتابة إلا نادرا.

من تشميش إلى العرائش

بأمر من الإمبراطور ديوكليتيانوس تم جلاء الجيش والإدارة عن كل المجالات الترابية لموريطانيا الطنجية (المغرب الأقصى)، ومنها ليكسوس، وذلك حوالي القرن الخامس ميلادي، مع وجود بقايا متفرقة تدل على استمرار تعمير المدينة بعد هذا التاريخ، لكن بدون أي معطيات حول طبيعة هذا التعمير وأصحابه.

ومع دخول الإسلام إلى المغرب الأقصى، عادت الحياة إلى المدينة وتحول اسمها من ليكسوس إلى “تشميس” واعتنق أهلها الإسلام، حيث ورد ذكرها في المصادر العربية كمدينة محصنة، وكانت مقر إقامة أحد أمراء الدولة الإدريسية الذي استقر بها، يُرجح أن يكون هو الأمير إدريس ابن قاسم وفق المعطيات التاريخية، قبل أن تصبح المدينة تابعة لـ”بني البوري ابن أبي العافية” مع بداية القرن 11 ميلادي، وفق ما أورده البكري وابن حيان في كتبهما.

الأبحاث الأركيولوجية بالمنطقة كشفت عن وجود منزل يتوسطه فناء ومسجد ومطامير وكمية هامة من اللقى الأثرية التي تعود إلى الفترة الإسلامية، وخاصة الموحدية والمرينية، قبل أن تتعرض المدينة للهجر بشكل نهائي ما بين القرين 13 و14 ميلادية، عقب انتقال السكان إلى الاستقرار بالضفة الأخرى للوادي، حيث العرائش حاليا، حيث يُرجح الباحثون أن من أسباب الجلاء النهائي عن الموقع هو تراجع نشاط ميناء المدينة إثر التحولات التي شهدها نهر اللوكوس، أصبح معها ولوج السفن صعبا.

محافظة ليكسوس

بعد أزيد من 6 قرون من “الموت والعزلة” عاشتها مدينة ليكسوس منذ القرن 14 ميلادي، إثر هجرها من طرف سكانها وانتقالهم إلى العيش بمدينة العرائش حاليا، عادت الروح مجددا إلى هذه المدينة الأثرية الضاربة في عمق التاريخ الإنساني، حيث افتتح وزير الثقافة محمد الأعرج محافظة خاصة بهذه المدينة في نفس الموقع الأثري، في حل تدشين رسمي حضره عدة مسؤولين يوم السبت 20 أبريل الماضيـ كما تم فتح أبواب الموقع لبرامج التصوير السينمائي والوثائقي.

ويحتوي مبنى محافظة مدينة ليكسوس، على عدة مرافقة علمية وسياحية، عبارة عن مخازن ومختبر وقاعة للعروض والمحاضرات وقاعة الورشات والمكاتب الإدارية، إضافة إلى فضاءات العروض التي تضم جميع معطيات موقع ليكسوس من تاريخ وأهمية البنيات الأركيولوجية والميتولوجية، وعدد من القطع الأثرية التاريخية التي تم العثور عليها بعين المكان.

هشام حسيني محافظ موقع ليكسوس الأثري، أوضح في تصريح لجريدة “العمق”، أن التدشين الرسمي للمحافظة جاء بعد الانتهاء من مشروع إعادة الاعتبار وتهيئة الموقع التاريخي، لافتا إلى أن هذا الموقع يُعد من الناحية التاريخية والميتولوجية أقدم مدينة في المغرب، مشيرا إلى أن الحفريات بدأت منذ أواخر القرن الـ19 وما زالت مستمرة الآن بنسبة أقل.

وأشار حسيني إلى أن مدينة “ليكسوس تميزها مكونات أركيولوجية مهمة جدا، من ضمنها المسرح الروماني الدائري، ومعمل تصدير السمك، والقصر الملكي، إضافة إلى الأسطورة التي توثق للتاريخ الثقافي للموقع، لافتا إلى أن “ليكسوس” معروفة بالدرجة الأولى بأسطورة قطف التفاحات الذهبية من طرف هيرقل في حدائق “الهيسبيريس”.

وشدد المتحدث على أنه كان من الضروري إنشاء بنية تحية بعين المكان لتدبير هذا الموقع وحمايته، ومن أجل مساعدة الزوار المغاربة والأجانب على التعرف على خبايا المدينة في ظروف مناسبة وواضحة، من خلال تحديد مسار واضح للزيارة، مضيفا أن المحافظة ستكون لها إضافة نوعية في المشهد الثقافي والتاريخي للمملكة.

سفر عبر الزمن

وزير الثقافة أوضح في تصريح له خلال زيارة مرافق الموقع، قال إن افتتاح محافظة خاصة بمدينة ليكسوس، سيُمكِّنُ الزوار من “السفر في الزمن عبر الغوص في عرض رائد في حداثة هذا المركز وإرشاده وتقديمه لمفاتيح فهم الموقع الأثري، بما يجعل الجمهور يتعرف على الأساطير والشخصيات الملحمية، ويهتز على إيقاع الأنشطة التجارية لهذه المدينة التاريخية، وينتقل في إرجاء صروحها الفخمة وحماماتها الحارة، وينغمس في مختلف الكتابات التي كانت رائجة أنذاك”.

وأضاف أن تدشين محافظة ليكسوس يأتي في إطار الاحتفال بشهر التراث، وذلك ضمن “تنزيل لمخطط عمل الوزارة في مجال تثمين وصوت التراث الثقافي والتعريف به وتكريس لمجهودات القطاع في النهوض بالتراث الوطني وتأهيله والترويج له وتقريبه من عموم المواطنين، بما يجعله رافعة لتحقيق التنمية المستدامة بالمنطقة، وخلق وجهة ثقافية سياحية محلية وجهوية ووطنية”.


ويرى المخرج مراد الجوهري ابن مدينة العرائش، أن مسرح ليكسوس هو المسرح الوحيد ضمن النسيج الأثري الروماني بالمغرب، مشيرا إلى أنه لا يمكن أن تبقى لهذا المسرح وظيفة الزيارة الأثرية فقط، “بل نريد أن يقوم بوظيفة فنية عبر تقديم واستقطاب العروض الفنية، من أجل إعطاء هذا الفضاء بُعدا آخر إضافة إلى البعد السياحي”.

وأوضح الجوهري في تصريح لجريدة “العمق”، أن الأسطورة التي تميز ليكسوس هي التي تلهم أفكار العروض الفنية الحالية بمسرح المدينة الأثرية، لافتا إلى أن فرفته التراثية تستحضر في عروضها إحدى الوظائف الاثنا عشر لهرقل، وهي جمع التفاحات الذهبية الثلاث التي كانت في حدائق الهيسبريس، حيث تصارع مع التنين الذي هو وادي اللوكوس، وذلك وفق روايات الأسطورة.

وأضاف المتحدث بالقول: “بعض القراءات تقومل إن هرقل انتصر على التنين، بينما تقول أخرى إن التنين نام وفاز عليه هرقل الذي استطاع قطف التفاحات، ورغم أن هرقل انتهى لكن المدينة لازالت حاضرة بشبابها وانفتاحها على الحضارات الأخرى من خلال وجود فرقة من إسبانيا معنا، بمعنى أن الصراع والحروب تنتهي ويبقى المشترك الإنساني وهو عمق عرضنا الفني”.

من جانبه كشف أحمد بلال رئيس مجموعة “صرخة” للفنون، وممثل دور “القيصر الروماني” في العروض الفنية بالمسرح الدائري لليكسوس، أن تثمين هذا الصرح الرائع أفرح السكان والمهتمين بالتاريخ والفنون، مشيرا إلى أنه يقوم بدور القيصر لقراءة رسالة ترحيبية بالضيوف وإبلاغهم سلام ساكنة الضفة الأخرى من النهر وهي العرائش.

فطيلة 22 قرنا، نبضت أرض ليكسوس بالحياة دون انقطاع مع الحضارات الأربع، إلى غاية القرن الرابع عشر الميلادي حيث هجر الإنسان المدينة في اتجاه العرائش حاليا ضمن الفترة الإسلامية، لتظل المآثر واللقى الأثرية والثراء الأركيولوجي شواهد على واحدة من أعرق المدن في العالم وأقدمها في المغرب وغرب البحر المتوسط، عرفت خلالها استقرارا ونشاطا إنسانيا واقتصاديا مُلفتا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *