وجهة نظر

لشهب يكتب: لماذا تفسد مجتمعات المسلمين؟ (الحلقة 3)

هذه حلقات وسمتها بـ “النظرية الأخلاقية في الإسلام”، جوابا عن سؤال: لماذا تفسد مجتمعات المسلمين؟. أضعها بين يدي القارئ الكريم سلسلة منجمة في هذا الشهر الفضيل، لعلها تسهم ولو بقدر يسير في إعادة إحياء السؤال، في زمن أصبح فيه سؤال الأخلاق ملحا أكثر من أي وقت مضى. فالناظر العارف المطلع يفهم أن باب السؤال، سؤال الأخلاق هو من الأسئلة المتسعة والتي تم تصنيفها منذ الفلسفة الأولى كباب من الأبواب الكبرى التي تهم الفلسفة. وعليه فباب الأخلاق وسؤال الحسن والقبيح والخير والشر وغيرهما من الثنائيات لم يخل مجتمع من المجتمعات المعرفية من الاهتمام بها والكتابة عنها وفيها. وربما كان هذا هو السبب في جعلي في هذه الحلقات لا أولي اهتماما كبيرا للجانب النظري والمناقشات النظرية، التي هي على كل حال مدونة مشهورة يعلمها العالمون. فقد ركزت بالأساس على ما يظهر من أخلاق المسلمين وبما يضمر اعتمادا في تفسير ذلك على خطاب الدين والمعرفة العامة.

في النظرية العامة للأخلاق في الإسلام
سأكون مدعيا إن أنا قلت: إنه بالإمكان الحديث عن نظرية عامة نستطيع من خلالها مجتمعين الحكم والاحتكام في ما يخص أخلاق المسلمين، فالإسلام باعتباره دينا؛ يبقى أقرب لطبيعة الإنسان والتخصيص منه للمادة والتعميم؛ الذي طالما طبع نظريات العلم. والدين في عمومه كيفما كانت منزلته أو درجته من الواقع والحقيقة، فإنه لا يستمد قوته من الحقائق بقدر ما يستمد قوته من قدرته على إخفاء نفسه عبر غموضه الذي يجعله متقبلا لما لا نهاية من التأويلات. فالزمن يقتضي أن من لا تعفف له بالتأويل هو عرضة ولا محالة لسفاح الزمن.

أظن أنه من الأفضل أن نستبدل لفظة النظرية التي انتهت إلى حقل العلم الطبيعي للأسف، نستبدلها بلفظة العقل؛ ليس العقل ذلك الجوهر أو الأداة العامة الموجودة بالقوة أو بالفعل في نفوس أي منا، ولكن المقصود بالعقل هنا؛ تلك التوافقات التي تحتكم إليها الفئات الخاصة؛ والتي منها وبسبب جدلها يتم الحكم والاحتكام لثنائيات مثل الخطأ والصواب أو الحق والباطل؛ ومثاله أن يحتكم السلفيون إلى العقل السلفي بما سلموا به، ويحتكم الشيعة بما سلموا به وهكذا دواليك في المذاهب الدينية والعقلية والعلمية. والحديث عن العقل الأخلاقي في الإسلام هو قريب من هذا، فعلى الأقل هناك نص يتم الاحتكام إليه بدرجة أعلى هو النص القرآني الذي اجتمع الخصوم على صحة نسبته كاملا إلى الوحي. وهو قادر على كل حال على أن يمدنا بكثير من الخيوط التي تؤطر العقل الإسلامي وما ينتج من سلوكات عنها في مجتمعات المسلمين.

من العسير جدا الحديث عن قواعد عامة ومحكمة في الآن نفسه رغم هذا التقارب، فالمسلمون مختلفون وبشدة في ما هو خارج النص القرآني، والقرآن نفسه الموصوف في كثيره بالغموض؛ يجعلنا على كل حال في نهاية المطاف تحت رحمة الظن والتأويل. لكن على كل، لن يمنعنا هذا من المضي قدما في محاولة التأصيل لهذه السلوكات أو النظر في نصوص الخبر بصرف البصر عن ما إذا كان يصح نسبتها للنبي صلى الله عليه وسلم أم لا، فالمهم هو طبيعة تأثير هذا النص في صناعة ظاهر وباطن أخلاق المسلمين.

إن الناظر في الخطاب الديني عموما، والإسلامي على الخصوص الذي يعنينا هاهنا، سيلفي أنه مؤطر بمعجم خاص، وهذا المعجم قد يصنف غالبا في ثنائيات مثل الخير والشر، والحق والباطل، والهدى والضلال…، وهكذا ينبني الإسلام على معجم مفاهيمي يحتكم للتأويل فيه من داخل اللغة نفسها أو العقل الجمعي أو المذهبي الخاص، وهذا ما يجعل الإسلام واسعا ولكنه في الآن نفسه يجعل الأمور أكثر تعقيدا، بل أقل واقعية في كثير من الأحيان. فالإسلام مثلا ضد الفساد، والله في غير ما موضع يصرح أنه لا يحب المفسدين ولا يصلح عمل المفسدين، وهذا ما يجعل حكم الفساد تحريمه ثابت لا جدل فيه، لكن عندما يتم تنزيل هذه الأحكام إلى الواقع يكون من العسير الحكم على كثير من الأشياء بالفساد والإفساد مادام أن الواقع أكبر من مجرد حكم. وهكذا دواليك في كثير من الآي التي يبلغ فيها التأويل مبلغا من داخل عقل فقهي مشتت.

لا يتعلق الأمر فقط بمفاهيم القرآن المحتكم للتأويل من داخل اللغة وعادات الكلام وما يتجاوز هذا من القطع بالخبر، ولكن في القرآن نفسه آيات كثيرات تجعل من العسير جدا تسجيل حكم بسهولة، في ما يخص مفهوما محوريا من المفاهيم الكبرى المؤطرة للعمل والأخلاق، أي أن جعل الأمور تتخذ حكما آليا وانسيابيا يكون عسيرا جدا أو غير ممكن في كثير من الأحيان. فخذ مثلا لفظة الإيمان التي هي في مقابل الكفر، فقد تعني في البداية التصديق والاطمئنان بـ وإلى الشيء، وقد ترد بهذا المعنى في كثير من آي القرآن مثل قوله تعالى في قصة يوسف: وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين. لكن في كثير من الأحيان يتم تجاوز هذا المعنى إلى معان كثيرة يكون الباحث مضطرا إلى الاحتكام للتأويل من داخل النص نفسه وبما يطرحه النص نفسه وليس خارجا عنه، وهذا ما يجعل من العسير الحكم على القرآن من خارج القرآن؛ مادام أن القرآن عقل يتم الاحتكام إليه لا الحكم عليه من خارجه، وربما هذا هو السبب الذي يعطينا ما يسمى العالم بالقرآن أو مبحث علوم القرآن، حيث لا يعود بمستطاع عالم اللغة محاكمة القرآن مثلا، وتصبح وظيفة عالم القرآن استقراء وتصنيف معاني الألفاظ داخل النص القرآني، فتراه يقول: قد يأتي الإيمان بمعنى العموم الذي هو في مقابل الكفر وقد يأتي مقيدا وقد يأتي بمعنى كذا وكذا كما في قوله تعالى كذا وكذا مما يختص به مستقرئ القرآن.

وهذه الأمور كما قلت تجعل الباحث في حيرة من أمره أمام تعدد اللفظ الواحد داخل القرآن ونصوص الخبر المتداول. بل إن هذا هو السبب الذي جعل أهل المذاهب شيعا مختلفين بما تأولوه واستقرؤوه واستحفظوه من القرآن، فبنوا على هذا التأويل أحكام الخروج والدخول للإسلام وإباحة النفس والمال.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *