وجهة نظر

البعد الاجتماعي للصوم

بعد حديثنا عن الصوم السياسي، سنتحدث عن البعد الاجتماعي للصوم، وهو بُعْدٌ يعد من وسائل الصيام وفلسفته التي لا يعرفها الكثير من الناس، أي لم يسبق للكثير من الناس أن تساءلوا عن هذه الفلسفة الاجتماعية التي تتجلى في توفير تيار من الالتزام مشجع للطاقات الضعيفة على أن تصوم وتلتزم بفعل الخيرات واجتناب المنكرات، كما يعمل هذا التيار على محاصرة طبيعية نفسية لكل سلوك نشاز أو انحراف اجتماعي يجمع المجتمع على تقبيحه ومجه.

فانطلاقا من توقيت تشريع الصوم، أي في السنة الثانية للهجرة، يتبين أن المجتمع الإسلامي لم يكتمل إلا لتنطلق شعيرة الصوم للقيام بأدوارها كلها انطلاقا من عملية مراقبة الهلال حيث يجتمع الناس على كل صعيد لممارسة عملية المراقبة التي تتحول إلى حدث اجتماعي بامتياز، حيث يتناقل الناس الأخبار في حالة الرؤية فيما بينهم، ويذيعونها في القرى والمدن ويخبرون بها عابر السبيل والمسافر.

إن عملية ترقب الهلال، عادة، لا تكون سلوكا فرديا بحيث يحتاج الإنسان إلى رفقة حتى تتم الرؤية الجماعية، وحتى يمارس الإنسان تفوقه في الرؤية عن الباقين فيعمل من خلال أستاذية عجيبة على ترشيد الباقين ممن لم يرو الهلال بعد إلى الجهة التي تيسر لهم عملية الرؤية، كما أن من طبيعة الإنسان أثناء الفرحة أن يود وجود من يتقاسم معه هذه الغبطة وهذا الحبور بالقرب منه. لقد عشنا بعضا من هذا الحدث الاجتماعي الكبير ونحن صغار إذ كنا نرى الرجال يخرجون إل ساحة كبيرة ممدودة تسمح برؤية الهلال، كما كان البعض يصعد فوق السطح لعله يكون أول من يذيع الخبر للقوم من أسفله، وترى النساء في منازلهن يبعثن الأطفال ليتقصوا الأمر لعلهم بالخبر اليقين يرجعون.

إن هذا المسلك من شأنه أن يكون بمثابة إعلام وإعلان بقدوم المطهر، لتبدأ بعده الاستعدادات انطلاقا من عقد العزم والنية، وكأني بالقوم وهم مجتمعون يتحرون الهلال بين الغيوم في السماء، يبايع بعضهم بعضا على القيام بالواجب تجاه هذا الشهر العظيم صياما وقياما وصدقة وتكافلا اجتماعيا تيسيرا على الفقير واليتيم والأرملة أن يلحقوا بالركب ويقوموا بالواجب، ومع هذا التكتل الجماعي والبيعة الجماعية العفوية يجد الإنسان نفسه ملزما مقبلا غير مدبر، ولن يستطيع أن يشذ عن أمة خضعت لأمر ربها وأجمعت أمرها على طاعته فيما أمر ونهى.

إن هذا التكتل المجتمعي المتظافر على القيام بشعيرة واحدة فيمسك الناس فيه عن الأكل وقت السحور في وقت واحد ويفطرون في وقت واحد ويصلون التراويح وراء إمام واحد، ويقبلون على كتاب ربهم إقبالا فرديا وجماعيا، ويتصدقون أكثر مما يفعلون في باقي الشهور اقتداء بنبي واحد النبي الذي كان في رمضان أجود من الريح المرسلة، هذا التكتل من شأنه أن يحول شهر رمضان إلى مهرجان عالمي جماعي تشيع فيه العبادة ويقبل فيه الناس على الخير، ويحاصر فيه ذوو الأهواء والشهوات والمفسدون.

إن هذا البعد الاجتماعي للصوم هو الذي جعل الناس تقبل على جميع أنواع العبادات وفعل الخيرات وتجتنب كل أنواع الأذى والظلم والطغيان، وهذا ما عناه الشيخ ولي الله الدهليوي حين قال: “إن اجتماع طوائف عظيمة من المسلمين على شيء واحد وفي زمان واحد، يرى بعضهم بعضا معونة لهم على الفعل، ميسر عليهم، ومشجع إياهم، إذ من شأن ذلك كله أن يحقق ظاهرة ” الاجتماع” و” المشاركة في السلوك والأداء” وهو تعميق للجانب الاجتماعي وتوثيق للروابط الاجتماعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *