وجهة نظر

أي ماء يبقى في نهر العربية بعد تجفيف منابعه؟

جاء في المادة 32 من القانون الإطار للتعليم الفقرتان الآتيتان:

1ـ«تنويع الخيارات اللغوية في المسالك والتخصّصات والتكوينات والبحث على صعيد التعليم العالي وفتح ممارسات لمتابعة الدراسة باللغات العربية والفرنسية والإنجليزية والإسبانية في إطار استقلالية الجامعات وحاجاتها في مجال التكوين والبحث حسب الإمكانات المتاحة».

2ـ «إدراج وحدة دراسية تُلقَّن باللغة العربية في المسالك المدرَّسة باللغات الأجنبية في التعليم العالي».

وقد اعتبر المدافعون عن القانون الإطار ـ ومنهم كاتب الدولة في التعليم العالي ـ بأن ما جاء في الفقرتين يعتبر فتحًا مبينًا وجديدًا غير مسبوق لفائدة العربية، واتهموا الناس بأنهم لم ينتبهوا لهذه (الإضافة العظيمة) التي من شأنها أن تعمل على تعريب التعليم العالي تدريجيّا، وأغمضوا العين عنها عمدًا.

والحقيقة أننا في نقاشاتنا السابقة لم يكن هدفنا الوقوف بالتفصيل عند كل نقطةٍنقطةٍ في القانون الإطار ولاسيما ما ورد منها في المادتين 2 و31، وإنما كنا نناقش الفكرة العامة والخلاصة النهائية التي يخرج منها قارئُ هذا القانون والظروف السياسية التي نُزِّل فيها والسياق العام الذي جاء فيه مسلسل التراجع عن التعريب، وهو سياق التوسع الفرنكفوني في منطقة المغرب الكبير بكامله. هذا المسلسل الذي بدأت خطواته الملموسة تظهر قبل سنة 2014 وإن كانت هنالك خطواتٌ أخرى بدأت قبل ذلك بكثير.وليس من قبيل الصدف أن يأتي تعيين السيد بلمختاروزيرًا للتعليم في المغرب في وقت متزامِن مع تعيين السيدة بنغبريط بالجزائر، وكلاهما معجونان من طينة واحدة، وجيء بهما لغاية واحدة.مع مؤشرات أخرى كثيرة لا مجال للوقوف عندها الآن.

لقد تم فتح الباب بشكل قانوني أو شبه قانونيأمام استعمال العربية في التعليم العالي منذ صدور الميثاق الوطني للتربية والتكوين (1999 ـ 2000)، الذي جاءت تحت دعامته التاسعة الفقرة 117 وهذا نصها:

«تُحدِث الجامعاتُ ومؤسسات التعليم العالي بصفة ممنهَجة درسًا لاستدراك تعُّلم اللغات بما فيها العربية مقرونة بوحدات أو مجزوءات علمية وتكنولوجية وثقافية تستهدف إعطاء تعلّم اللغات طابعه الوظيفي».

فهذه الفقرة كان يمكن استثمارها جيدا والبناءُ عليها لفتح وحدات Modules أو مجزوءات باللغة العربية في التخصصات العلمية والتشجيع عليها وخلق المحفّزات للولوج إليها والتدريس فيها. ولاسيما أن صياغتها كانت أوضح من العبارات الملتبسة الواردة في القانون الإطار. ففي فقرة الميثاق نجد النص صريحًا على الأٌقل في إمكانية تدريس وحدات ومجزوءات في المواد العلمية والتقنية بالعربية من بين لغات أخرى، بينما العبارات المستعملة في القانون الجديد لا تفيد هذا بكل صراحة.

إذن، هذا الذي جاء به القانون الإطار ليس فتحًا مبينًا ولا سابقة من سوابق التاريخ، وإنما هو مجرد إعادة صياغة فقرة الميثاق بشكل آخر فيه ما فيه من الالتباسالذي يمكن تحميله أوجهًا مختلفةحسب الظروف وأهواء النفس، فهي لا تنص على المواد العلمية بالتحديد وإنما تترك الأمر مفتوحًا للتأويل. وفي مثل هذا الصياغات الملتبسة تكمن الشياطين التي لن تقبل مطلقًا استعمال العربية في تدريس المواد المتعارف على تسميتها بالعلمية. وزيادة على ذلك فإن الصيغة التي جاءت في الفقرتين من القانون الإطارخالية من أي شيء يفيد الإلزام أو الالتزام، وإنما هي كرةٌ ألقيَ بها «في إطار استقلالية الجامعات وحاجاتها في مجال التكوين والبحث حسب الإمكانات المتاحة» !!!. وهذا ما يسمى في البلاغة القديمة بحسن التخلص.

وأما الأهم من كل ما سبق، فهو أن الفقرة الواردة بالميثاق الوطني كانت منسجِمة تمامًا مع سياق تعريب المواد العلمية الساري المفعول منذ بداية الثمانينيات. وكانت بمثابة نافذة صغيرة يمكن توسيعها وتحويلها ـ بجانب إجراءات أخرى ـ إلى باب كبير تدريجيّا للتخلص من التناقض بين تعريب الابتدائي والثانوي وفرنسة التعليم العالي. ولكن هذه النافذة مع الأسف الشديد لم يهتم بها أحد من كل أولئك الذين تسلَّموا سلطة تدبير التعليم العالي منذ سنوات طويلة وفي عهد كل الحكومات السابقة بما فيها حكومة التناوب لليوسفي وحكومة التناوب للفاسي وحكومة ابن كيان وحكومة العثماني.

أما وقد تقرّر اليوم التراجع عن تعريب المواد العلمية بدءًا من مرحلة الروض إلى الدكتوراه، فماذا يفيد فتحُ إمكانية استعمال العربية في تدريس بعض الوحدات العلمية بالتعليم العالي؟ فمن هم الطلابالذين سوف يُقبلون على متابعة دراستهمبالمعاهد العلمية والتكنولوجيا العليا بالعربية بعد أن يُمضُوا 12 سنة على الأقل من حياتهم في دراسة المواد العلمية كلها بالفرنسية إلى أن يحصلوا على البكالوريا العلمية المفرنَسة؟وأي ماءٍ سوف يبقى في نهر العربية بعد تجفيف كل المنابع والروافد التي تصب فيه من الروض إلى اليكالوريا؟

أليس من التناقض الفاضح أن يُمنَع الطلاب المعرَّبون من متابعة دراساتهم العليا بالعربية حين كان التعليم الابتدائي والثانوي معرَّباً والميثاق يسمح بذلك ولو جزئيّا، ثم بعد أن يُفرنَس التعليم بكل مراحله، يقال لحاملي البكالوريا المُفَرنسة: تعالوا لقد فتحناى لكم نافذة لمتابعة دراساتكم العليا بالعربية؟

أليس كل هذا نوعًا من المغالطات التي تُستعمَل للاستخفاف بعقول الناس واستبلادهم واستِحمارهم؟

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *