وجهة نظر

المشروع الحداثي وسؤال الهوية لدى العالم العربي الإسلامي

تعتبر الحداثة وليدة ظروف تاريخية عاشتها أوروبا الغربية تَحالَف خلالها رجال الدين الكنسي مع الملوك والإقطاعيين وجعلوا من الشعوب عبيدا محرومين لمدة قرون خلت. وبعدها تم القطع مع هذه التصورات المتخلفة للإنسان أساسا، ثم لنظامِ الحكم والبنيات المجتمعية عموما، ليظهر تصور ثوري بديل اكتسح فيه “الحديث” كل مجالات “القديم” اصطلِح عليه بكونه تصورا حداثيا.

وهكذا فمنذ القرن السادس عشر أضحت الحداثة منهجا للحياة والتفكير والحكم والإدارة، وأسلوبا اجتماعيا وثقافيا للإنسان الأوروبي الفارِّ من ظلمات عصوره الوسطى.

صار العقل الحداثي المتحرر، من موانع معتقدات الدين الكنسي وعادات الخمول والسّبات الوسطيين، يقدم الإبداعات العلمية والفكرية والتدبيرية ويطور المنتجات الصناعية والتكنولوجية التي انتقل معها الإنسان الأوروبي إلى حياة الرفاه، ما جعل هذا الوجه اللامع للنموذج الحداثي يلقى استجابة حتى من خارج الحدود.

لكن هذا العقل نفسه، وتحت ضغط النزعة القومية التي سادت أوروبا خلال القرن التاسع عشر ثم الرغبة في توسع الدول الأوروبية الرأسمالية والسيطرة على الحدود والثروات، لجأ إلى التنافس على صناعة الأسلحة فكان سببا في نشوب حربين عالميتين خلفتا الملايين من القتلى خصوصا في أوروبا موطن الحداثة. بالإضافة إلى استعمار شعوب العالم الخارجي سالبا إياها أسمى ما نادت به الحداثة وتأسست عليه، نعني الحرية، لمن بقوا على قيد الحياة، ناهيك عن سلبه إياها الحق في استثمار مواردها المادية والبشرية امتد حتى بعد ما سمي “استقلالات”. وهذا وجه حالك مناقض للأول.

ومنذ أواخر القرن العشرين، بعدما أصبحت الولايات المتحدة الأمريكية رائدة للغرب، شاعت مرحلة جديدة تَسمَّت بالعولمة. وسواء اعتبرنا العولمة كنتيجة للحداثة، كما يراها أنتوني جيدنز، أو اعتبرنا الحداثة والتعولم مندمجين حسب روبرتسون، فإن ” الغرب يحاول وسوف يواصل محاولاته للحفاظ على وضعه المتفوق، والدفاع عن مصالحه بتعريفها على أنها مصالح ‘المجتمع العالمي’ “، كما يرى هنتنغتون المُنَظِر لصدام الحضارات.

فالعولمة هي، بالدرجة الأولى، “إيديولوجيا تعبر بصورة مباشرة عن إرادة الهيمنة على العالم وأمْركته”. وتعتمد “الاختراق الثقافي” للآخر، وسلب الخصوصیة، والقضاء على “الهوية الثقافية الفردية والجماعية” حسب تحليل الدكتور عابد الجابري.

لكن مع هذا وذاك، فإن محمد سبيلا أقر بأن الاستعمار كان هو “الأداة التي اتخذ بها التحديث طابعا كونيا”. أو هي “صدمة الحداثة” التي أيقظت المجتمعات، كما عبر عنها عبد السلام الحيمر. وبهذا أضحت الحداثة “تعكس مظهرا أساسيا من مظاهر التطور الحضاري الذي يشهده عصرنا”، يضيف الجابري.

نقرأ إذن بين طيات هذه الطروحات دعوة للعالم العربي الإسلامي، على الخصوص، للتعامل مع الحداثة كأمر واقع. لكن الإشكال الحقيقي الذي يستوجب المعالجة، أخذا بعين الاعتبار التحولات الراهنة التي تعرفها الساحة الدولية، يكمن، في نظرنا، في كيفية هذا التعامل التي تُمَكن من تجاوز المعيقات وإنجاح عملية التحديث، سيما وأن النسخة الغربية للحداثة “تدخل في صراع مع التقليد” كما يقول محمد سبيلا. ويُعلم من مفهوم “التقليد”، في عرف الخطاب الحداثي، كل ما يميز المجتمعات من موروثات سواء تعلق الأمر بالقيم والأخلاق والمعايير؛ أوالنظم الاجتماعية والأسرية؛ أوالثقافة؛ أوالدين…قياسا على ما وقع عند الغرب بداية من القرن السادس عشر، حتى ولو كان في الموروث ما يسند نهضة الأمم.

إذا كان المقال لا يسمح بكثير من الاستشهادات، فإننا نكتفي بالإشارة إلى بعض معالم طريق النهضة من خلال استقراء تجارب شعوب من خارج البلدان الغربية، مع تركيزنا على النموذج الناجح الذي تكرر تباعا في مجموعة من الدول الآسيوية، نظرا لِمَا للشعوب الآسيوية، مسلميها وغيرهم، من خصائص ثقافية ومواقف متقاربة من القيم االغربية كما يعتقدها خبراء الغرب أنفسهم.
يقر هنتنغتون أن “العودة إلى الأصول وإحياء الدين ظاهرة عالمية، وقد تبدت في أوضح صورها في التوكيد الثقافي وتحديات الغرب التي جاءت من آسيا ومن الإسلام، وهي الحضارات الديناميكية في الربع الأخير من القرن العشرين (…) فكل من الآسيويين والمسلمين يؤكد على تفوق ثقافته على الثقافة الغربية”.

وفي التفاصيل يتحدث عن جماعة المصلحين الذين وصلوا إلى السلطة في اليابان، والذين درسوا واستعاروا الأساليب الفنية والممارسات والمؤسسات الغربية ليحققوا التحديث؛ إلا أنهم “فعلوا ذلك بأسلوب يحافظ على أساسيات الثقافة اليابانية التقليدية التي ساعدت من جوانب كثيرة على عملية التحديث”.

وكذلك الأمر بالنسبة للنهضة الصينية، حيث أوضح أنه “بدلا من الشرعية الثورية الماركسية اللينينية، جاء النظام بشرعية الأداء الناتجة عن النمو الاقتصادي والشرعية القومية الناتجة عن توسل السمات المميزة للثقافة الصينية”.

يذكر صاحب كتاب “صدام الحضارات” أن الآسيويين حينما يقارنون قيم ثقافتهم (النظام، الانضباط، مسئولية الأسرة، العمل الجاد، الجماعية، الاعتدال) مع قيم الغرب المتمثلة- كما يقول- في الانغماس اللذاتي والكسل والفردانية.. يصلون إلى أن “القيم الآسيوية قيم عامة.. عالمية” كما نقل ذلك عن رئيس وزراء ماليزيا ماهاتير سنة 1996. كما أنهم يقترحون على الدول غير الغربية محاكاتها خلال سعيها للحاق بالغرب.

فإذا كانت مثل هذه المواقف، التي تعكس ما وراءها من منجزات حضارية، تعتبر صادمة لمعظم من تناولوا موضوع الحداثة من المفكرين العرب-انطلاقا من نسختها الغربية- في ارتباطه مع سؤال الهوية في العالم العربي الإسلامي، فهل تتمكن “صدمة الحداثة” – في نسختها الآسيوية هذه المرة- أن تستفز العقل العربي الإسلامي فيرسم مكونات هويته بدقة؛ ويصحح منظومة قيَّمه وممارساته الفكرية والعملية لتغدو، كما أثبته الآسيويون، “أصولا استثمارية واضحة في عملية اللحاق بالنهضة”؟. وإلا فإن العقل العربي الإسلامي سيبقى حبيس حلبة “صراع الديكة” بين المسلحين بـ”إيديولوجيا الحداثة الغربية” والمتمسحين بـ”إيديولوجيا التقليد القروني لحكم العض والجبر” ، دون الإنصات إلى صوت الحكمة الداعي إلى الحوار الجاد والتواضع على ميثاق جامع ينطلق من العمل لـ”الوطن أولا”، تحريرا من الاستبداد وكل آلياته التي يوظفها للحفاظ على بقائه سواء كانت دينية أو سياسية أو غيرها، في أفق العمل على تحقيق شكل مناسب للوحدة بناء على المعايير السوسيوثقافية والاقتصادية والسياسية؛ ضمانا لكلمة تسمع في المحافل الدولية، ورأي يؤخذ به، وحساب يحسب قبل اتخاذ أي قرار دولي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *