أما بعد

أما بعد .. العنف المدرسي جريمة ولكن…

حكايات كثيرة كان فيها الأستاذ متهما بما لم يقم به، بل بما يشهد العالم أنه ليس أهلا له، وأذكر هنا قصة واحد من رجال التعليم والذي أمازحه دوما مادحا “أنت معلم من المريخ ولست من أهل هذه الأرض”، اتهمه الموسم الدراسي الفارط أب تلميذ بتعنيف ابنه والتسبب في إصابته إصابة دامية، غير أن هدوءه في الموقف ويقظة المدير أثبتا أن الطفل سقط في اللعب بعد خروجه من المدرسة وبسبب وحشية والده وخوفه من العقاب افترى على معلمه الذي يشهد له الجميع أنه آخر من يضرب لا تلميذا ولا ابنا ولا حتى حيوانا..

بالمقابل، قصص كثيرة عشناها في مسارنا الدراسي كان فيها الأستاذ عنيفا صعب المراس وكان عنفه بسبب حرقته على مستقبلنا وسعيا منه إلى تطوير مستوانا وحرصا على تحصيلنا، وكثيرا ما تسبب هذا الحرص “العنيف” للمعلم بمشاكل مع آباء وأمهات بعض التلاميذ، غالبا ما تشفع له سمعته الطيبة وعمله الجاد أمام الفلتات التي قد تلحق أذى جسديا بالتلميذ، رغم الإجماع على أن رجل التعليم وجب أن يكون مربيا ومكونا لا جلادا دوره “قطع الحس” في فلذات أكباد الوطن.

ووسط هؤلاء الشرفاء من حاملي هم الوطن ورافعي راية التربية والتعليم، يندس نوع آخر أفراده ربما يعدون على رؤوس الأصابع لكن فسادهم أكبر من يغض عنه الطرف، سواء من حيث تعاملهم مع التلاميذ أو في تهاونهم في أداء واجباتهم، ومبالغتهم في العقاب فوق ما يقتضيه التأديب والتأنيب، يصل أحيانا إلى الحد الانتقام والاعتداء، ناهيك عمن يرى في المهمة العظيمة الملقاة على عاتقه مجرد وسيلة للحصول على أجرة نهاية الشهر دون أن يقابلها بأداء الواجب بالشكل المطلوب، وحق لهم ذلك في ظل التضامن “الأعمى” من طرف بعض زملائهم و”غض الطرف” من مسؤوليهم عما تقترفه أيديهم.

بوجود هذا الصنف الأخير داخل المنظومة التربوية يفسد أي حديث عن التربية والتكوين من أساسهما، ومن مسؤولية الدولة والوزارة الوصية الضرب بيد من حديد على الانتهاكات الجسدية في حق التلاميذ، والوقوف بالمرصاد ضد أي اعتداء جسدي أو نفسي ضد الأطفال والقاصرين، ولكن قبل ذلك وجب التنبيه إلى أن الأستاذ بدوره يعيش داخل مقر عمله وضعا يمكن وصفه بغير الآمن، فلا يجد من يحميه في اللحظات الصعبة خاصة أيام الحراسة والامتحانات الإشهادية، ولا يستفيد من أي تعويض عن المخاطر التي تتهدده والتي تصل في بعض الأحيان إلى خطر فقدان الحياة، كما أنه لا ينعم بأي تأمين عن حوادث التعنيف أثناء مزاولة مهامه، كل ذلك تسري فوقه غيوم الفشل المتواصل للوزارة في إعادة هيكلة نظام “العقاب والتأديب” وأنظمة “التقييم والتقويم”، والتي تجعل من الأستاذ من حيث لا يشعر ولا يدري عدوا للتلاميذ، ولا يحميه من تسلط المتسلطين سوى كاريزمته الشخصية أو قدراته العضلية، ومن لم ينعم بأحدها كان الله في عونه.

وحتى المذكرات التي أصدرتها الوزارة لتقويم العقاب والتأديب ولم تأتي سوى بـ”الأحلام والأوهام غير الناجعة أو غير القابلة لأن تكون عاقبا لأي تلميذ استحق العقاب، بل إن جزءا منها لا يتعدى كونه راحة أو عطلة مشروعة للتلميذ تعفيه من تبرير غيابه عن الفصل الدراسي”، كما قال ذات مرة صديق شاب رأسه في التدريس.

العنف المدرسي صعودا أو هبوطا أو حتى أفقيا بين التلاميذ لا يمكن أن يتم حله بدون إعطاء رعاية وعناية خاصة بمحور العملية التعليمية وركيزتها الذي هو الأستاذ، بدءا من حماية مرورا بتعويضه وتحفيزه وتسهيل مهامه، وانتهاء بدعمه نفسيا واجتماعيا، ففي نهاية المطاف هو القطب الموجب القادر على جذب واستخراج كل الشحن السالبة التي يحملها التلميذ معه إلى داخل الفصل، وهذا أضعف الإيمان وأسهل الطرق للحد من ظاهرة يزرعها الإعلام وينميها الشارع وتطورها الأسرة ويؤججها الفقر والفاقة وتنامي الجهل، ويفجرها فقدان الثقة في كل أحد وكل شيء.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *