مجتمع

روبورتاح.. أمهات عازبات سجلن أبناءهن كأشقاء لهن بالحالة المدنية.. وأخريات رفضن الاعتراف بهم

سعيدة مليح

في وسط عائلي متجانس تسوده الرأفة والسند بمدينة تمارة، تقطن (س.ب) مع أمها المريضة ووالدها العجوز المقعد وأخيها وزوجته، مسكت دفتر الحالة المدنية قائلة: “ابنتي في الأوراق القانونية مسجلة كأنها أختي الصغيرة، والسبب أن والدها رفض الاعتراف بها”.

تبتسم بمرارة قبل أن تواصل سرد قصتها: “لم تكن لدي رغبة في الزواج منه، كنت فقط أريد حق ابنتي في أن تحمل لقبا يلي اسمها الشخصي، ألا تكون أختا لي في نظر القانون، لأنها ببساطة ابنتي وليست أختا لي”، قبل أن تردف منجرفة خلف مشاعرها: “المجتمع لئيم، يتسارع في إلصاق تهم العار لكل من غلبها الزمان”.

وعن بداية إجهاض أملها في الحلم بحياة زوجية مع من اختارت شريكا لها، قالت (س.ب): “استمرت علاقتنا لما يزيد عن الأربع سنوات، توالت الأعذار عن الارتباط الرسمي كونه متزوجا وأب لطفلين، لكنني كنت مضطرة لأتحمل، أو هكذا كنت أتوهم، قبل أن أشعر بطعنات الغدر تلاحقني، لأستفيق على رفضه القاطع لحملي، وهربه إلى مدينة أخرى مع أسرته”.

وأضافت: “لا أعرف لحد الآن مكانه، وبصراحة لم أعد في حاجة إلى المعرفة، طفلتي تعيش في وسط عائلي فقير وشديد الحاجة، ومرض السكري المتوارث، أصارع الحياة بكل ما لدي من جهد، أبيع الخبز نهارا لأصد نظرات المجتمع، راتبي ضئيل ومسؤولياتي كبيرة جدا”.

وكشفت أنها تتغلب على الحياة بـ”بعض الليالي الحمراء، هذه هي الحقيقة المرة التي لا يطلع عليها أحد سواي” وفق تعبيرها، متسائلة: “كيف أغير تسجيلها في دفتر الحالة المدنية من أختي إلى ابنتي، هذا ما يسيطر على تفكيري، كي لا تقع فريسة السؤال حين تتقدم سنوات في العمر، نعم هذا خطأ مني لكنني لا أود أن تدفع ابنتي الثمن غاليا”.

“شوهني الزمان”

بملامح شاحبة وندوب الزمن تظهر على وجنتيها، وقفت الحروف في فمها قبل أن تنطق (م.ن): “أنا أم عازبة”، وابتسمت بعدها ابتسامة يأس صفراء قبل أن تواصل قولها: “أنا الآن فتاة منحرفة، والسبب أمي”.

بلعت ريقها برهة من الزمن واستمرت بالحديث “أنا فتاة لا أعرف من هو والدي، وابني فتى لا يعرف والده، مصيرنا واحد، لكن أنا على يقين تام من أن حاله سيكون أفضل من مصيري، مهما كان الأمر مرا، والحياة صعبة، لن أجبره يوما على اتباع طرق الدعارة أو الفساد كيفما كان نوعها”.

تمتمت قليلا وأكملت حديثها: “احترفت الدعارة في سن مبكرة، كانت والدتي تأتي بالرجال إلى بيتنا وتجعلني أخدمهم، لعلني أثير شهوة أحدهم من أجل أن تُقتل براءتي، ويستمتعوا الضيوف بجمالي، وتفوز هي بالمال”.

وأضافت: “المال كل ما يحرك أمي، هو كل شيء بالنسبة لها، تفضله على كل شيء، تبيعني كل ليلة بالمال، مارست الجنس مع جميع أنواع الرجال”، توضح في حقيقة صادمة.

دمعت عيناها، بلعت ريقها ثانية، ومسحت على وجهها بأنامل يدها والقسوة تفر من نظراتها، قبل أن تقول: “أعيش في مجتمع لا يرحم أحدا، لا متزوج، لا مطلق، فكيف أنتظر منهم احترامي، يعتبرونني جسدا يباع بالمال في ظلام الليل”.

ضحكت ساخرة من حالها وقالت: “حياة الليل صعبة، لكنني لا أفكر في قسوتها بمقدار ما أفكر في أنني فتاة بلا دراسة، بلا عائلة، مضطرة لأكون بضاعة في تجارة سهلة ومربحة، حتى لو لم تجبرني أمي على خوض غماره، كنت سأمارس الدعارة من قلة حيلتي، واعتقادي أن جسمي هو رأس مالي”.

كانت تسرد قصتها بمرارة، وبحقد دفين للواقع ولأمها، متلهفة لإنقاذ ما تبقى من عنفوانها بالرحيل رفقة وليدها، واستقرت في غرفة بمنزل مشترك، تسهر ليلا، لتربي ابنها نهارا بقلب أم صلب لا يكسره جبروت الزمن، قالت: “أنا أم صالحة، أبيع جسمي ليقتات ابني، ويعيش حياة كريمة لا يمد فيها يده لأحد”.

153 طفلا خارج مؤسسة الزواج يوميا

وبعيدا عن العواطف المتأججة، وكلمات الأسى، قريبا من حقيقة الواقع المغربي، نبعت ظاهرة الأمهات العازبات، وتربعن على عرش العديد من النقاشات القانونية والدينية، نجد من يقول إنهن ضحية الفقر والحاجة، بينما آخر يقول إن “السبب هو سذاجتهن، وتصديقهن للكلام المعسول، وليس لكونهن مومسات”.

تعددت الأسباب وتوالت معها أصابع الاتهام، والنتيجة تحصيل حاصل، أمهات عازبات اخترن التشبث بأطفالهن، والعيش برفقتهن، يواجهن هذا المجتمع الذي اختلطت فيه الأوراق وبات يلصق الصفات القدحية بغريزة الأمومة، وبالطفولة “التي لا حول لها ولا قوة”.

أشارت أرقام غير رسمية صادرة عن جمعية “إنصاف” للدفاع عن حقوق المرأة لسنة 2017، أن 153 طفل يولدون يوميا خارج مؤسسة الزواج، بما معدله 7 مواليد في الساعة.

الرقم مهول ومخيف، والنتيجة أطفال مغاربة يكابدون العناء منذ لحظة صرختهم الأولى خارج الرحم. إما يُرمى بهم في حاويات الأزبال، أو يقدمون قربانا للراغبين في “التبني” أو “الكفالة” لأسر بمقابل مالي، والقليل من الأمهات يخترن الاحتفاظ بمواليدهن.

إجراءات إثبات النسب 

الخبير في مجال الوساطة وتدبير النزاعات محمد حبيب، أوضح أن مسطرة تسجيل الابن لأب مجهول المنصوص عليه في المادة 16 من الحالة المدنية، أعطت الصلاحيات للأم في تسجيل ابنها، كما صرحت لها أن تأخذ له اسما عائليا واسما للأب مما حُمد وعُبد (ك: عبد الله، محمد..)، مشيرا إلى وجود إرسالية دورية لوزير الداخلية في هذا الصدد سنة 2010.

وفيما يخص الوثائق المطلوبة لأم عازبة لتسجيل ابنها في دفتر الحالة المدنية، أوضح حبيب أن الأمر يتطلب شهادة الميلاد من المستشفى التي ولد بها، أو ما يوازيها (شهادة إدارية من عون السلطة ثم شهادة طبية تحدد تقدير السن، وشهادة القابلة (المولدة)).

وأشار بالقول: “ثم بعد ذلك تذهب إلى المقاطعة (الملحقة الإدارية) التابعة للمستشفى لتحصل على شهادة عدم التسجيل في سجل الحالة المدنية، ثم شهادة اختيار الاسم العائلي، وشهادة اختيار اسم الأب”.

وأشار إلى أنه بعد ذلك تحصل على نسخة كاملة للأم، ثم تقوم بطلب تسجيل في سجل الحالة المدنية بالمحكمة التابعة لمقر إقامتها، وفي حال كان المولود قد تجاوز مدة شهر يجب أن تأتي أيضا بشهادة الحياة الفردية يمكنها منها عون السلطة المحلية.

وتابع قوله: “تأخذ هذه الوثائق إلى المحكمة مع مبلغ رسوم التسجيل في الحالة المدنية (50 درهما)، بعد يومين يكون بين يديها حكما صادرا بتسجيل الابن في سجلات الحالة المدنية بمقر ولادته، أو بمقر المقاطعة التابعة للمستشفى الذي تمت فيه الولادة، أو مقر السكن الذي ولد فيه الطفل”.

وفيما يخص حالة الأم المسجلة لابنها كأخ لها في الحالة المدنية، قال: “المعلوم أن من قام بتسجيل الابن هو أب الأم العازبة، كأنه من صلبه ومن أبنائه، فيجب عليه القيام بدعوة نفي النسب إن كان على قيد الحياة”.

أما في حالة وفاته، يضيف: “فيجب الحصول على 12 شاهدا يؤكدون على أن الابن هو ابن السيدة الفلانية، وبعد الحكم بنفي نسب الطفل، تقوم الأم بتسجيل ابنها، بأب مجهول بنفس مسطرة الأم العازبة)”.

ولفت خبير الوساطة وتدبير النزاعات إلى أن الإجهاض أو محاولة الإجهاض جريمة، والمساعدون في ذلك من أطباء أو عشابين وعرافة، هم مسؤولون عن جريمة الإجهاض، حسب ما يشير إليه القانون الجنائي، باستثناء مسألة كون الحمل فيه ضرر صحي على الأم، وينبغي أن يكون بإدلاء طبي يؤكد ذلك.

وأضاف أن هناك نقصا حادا في المعطيات المتعلقة برغبة الأم العازبة في نقل ابنها معها خارج أرض الوطن، مشيرا إلى أنه يجب عليها الإدلاء بشهادة موافقة الأب “المأذونية الأبوية” أو طلب من المحكمة.

وأردف: “لكن السفارات والقنصلية تفرض على الأمهات العازبات شهادة موافقة الأب بالتحديد، ولو كانت أم من أب مجهول، وهو الشيء الذي يستحيل معه الحصول على هذه الوثيقة، وهناك عدد من الأمهات اللواتي يعملن في الخارج يصعب عليهن إرفاق أطفالهن بجوارهن، ويطالبن بضرورة الاجتهاد القضائي في هذه المسألة”.

رفضن الاعتراف بأبنائهن

عائشة الشنا رئيسة جمعية “التضامن النسوي”، أوضحت أنه قبل سنوات أتت إليها سيدة “مقاولة” تم تطليقها بسبب عقرها، ودخلت في علاقة غير شرعية مع رجل متزوج له ابنة، وفرض عليها عدم الحمل، ولكن الرياح هبت بما لا تشتهيه السفن، فحملت المرأة وظلت حائرة، قبل أن تقرر الإجهاض، فناقشت المسألة مع الجمعية قبل أن تتخذ القرار بعدم رغبتها في الإجهاض.

فكانت الفكرة العامة هو الحفاظ على الحمل، فإن كان الاعتراف بالجنين من طرف الأب فالمسألة إيجابية، وإن كان العكس فإن المرأة قادرة على الاعتماد على نفسها وقادرة على الاعتناء بطفلها، وهو نفس رأي الدكتور أحمد الخمليشي الذي قال: “لا تضاف خطيئة الإجهاض إلى خطيئة الزنا”.

وعن الأمهات العازبات اللواتي رفضن اللجوء إلى الجمعيات، تقول الشنا: “قرار هاته النساء صائب طالما لهن القدرة على تحمل المسؤولية”، موضحة أن من يلجأن للجمعيات هن صغيرات السن ومحتاجات واللواتي في حاجة إلى المساندة، فتتكفل الجمعية بتكوينهن.

وذكرت أن أغلب الأمهات العازبات أصبحن يرفضن بشكل قاطع الزواج من شريكهن في الحمل، لتفادي المؤاخذات وإلصاق التهم بهن يوما ما، بل وصلت بهن الأمور إلى إنكار الاعتراف بالأب الأصلي، باحثات عن الحرية الاقتصادية والاعتماد على النفس.

وأوضحت أنه ابن أم عازبة نال مؤخرا شهادة النجاح بالباكالوريا، وهو ابن لأحد الشخصيات الكبيرة التي رافضت الاعتراف به، وفق تعبيرها.

وأضافت أن أبناء الأمهات العازبات يتفوقون على الآخرين في الدراسة، خاصة في ظل الاهتمام الكبير من أمهاتهم، مشيرة إلى أن الأمهات اللواتي تذهبن إلى الجمعيات “شجاعات وقويات، لأن غالبيتهن كنا يتخلين عن أبنائهن بالقرب من أبواب المساجد، أو يقدمنهن لنساء أخريات لاستغلالهن في ظاهرة التسول”.

ولتجاوز ظاهرة الأمهات العازبات، دافعت الشنا بشدة عن ضرورة إقرار التربية الجنسية، وطالبت بالتحسيس والتوعية في هذا المجال لتفادي كل ما يمكن أن يحدث لهن، ولتجنب الانفلات الأخلاقي كما يشاع، وقالت: “نحن فقط نكشف للشباب عن ما يخبؤه مستقبلهم في المرآة، ونوضح لهم بالتفصيل مخاطر العلاقات غير الشرعية”.

الأمومة تغلب على نفسية الأمهات العازبات

الطبيب النفساني الطاهري العلوي، قال إن عدد من حالات الأمهات العازبات، تجمعهن صفة اللوم النفسي وجلد الذات، جراء تأزم أطفالهن الصغار، إما بإحساس فقدان الأب، أو بمعرفة حقيقة أنهم أبناء علاقة غير شرعية.

وكشف عن وجود حالة فتاة كانت على علاقة حميمية مع شريكها تحت إطار الوعد بالزواج، وبوقوع الحمل أجبرها على الإجهاض، وعلى إثر ذهابها إلى الطبيب، سيطرت عليها مشاعر الأمومة، فرفضت أمر الإجهاض، متحدثا عن تحدي المجتمع برغبتها تربية طفل صغير.

هذا الوضع الجديد يستدعي تغيير مسار حياتها، يقول العلوي، “لأن الحمل هنا بمثابة نقطة فارقة بين ما سبق وما سيأتي، إذ أول نقطة هي تحملها مسؤولية الحمل وحيدة، تستدعي إخفاء الأمر عن الأهل، خوفا من الرفض والعنف من منظور مجتمعي”.

وتابع قوله: “كل ما سبق يجعل وضعها النفسي متأزم، فيولد هذا الضغط الذي يجب التعايش معه، وتحمله، وبعضهن يفكرن في الهرب أو البحث عن عمل، وفي حالات نادرة تتكفل بهن أسرهن، بمقدار التحمل النفسي لكل أم عازبة بمقدار تعاملها النفسي معه، نظرا للتراكمات الداخلية لديها، والقدرة على التأقلم مع الوضع الجديد، ومواجهة المجتمع برمته، إذن هناك وضع إضافي يفوق وضع الأم المتزوجة”.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *