منتدى العمق

حول عسر الانتقال من كتاب السلطوية والربيع و”الانتقال العسير” للعطري

“الكتابة ليست نزهة بل مسيرة احتجاج” محمد شكري

صدر مؤخرا ( سنة 2020) كتاب السلطوية والربيع و “الانتقال العسير” للباحث والسوسيولوجي المغربي عبد الرحيم العطري عن مركز العلوم الاجتماعية بالرباط ، ويظم هذا الكتاب 251 صفحة موزعة على سبعة فصول/جروح، وكما ورد عن الباحث نفسه فهو عبارة عن مقالات تأملية /تساؤلية نشرها خلال الثلاث سنوات الأخيرة بمجموعة من المجلات والمواقع الالكترونية التي حاول من خلالها أن يسلط الضوء بكل تواضع فكري على ما عرفه عالمنا العربي من تحركات احتجاجية شعبية بإخفاقاتها واعطابها الذاتية والموضوعية ، ووعيا منا بطبيعة المرحلة وإسهاما في اغناء النقاش وتطوير أرضيته فقد عملنا منذ حصولنا على نسخة من الكتاب يوم 10 فبراير 2020 على قراءته بتمعن وحب لأستاذنا لعل التاريخ يصفح عن أخطائنا في حق السوسيولوجيا، ونحن اليوم اذ نقدم قراءة للفصل/الجرح الأول من هذا الكتاب المعنون بعسر الانتقال فإننا نعتقد أنه مفتاح لفهم باقي الفصول المتبقية لتمهيد الطريق امام الاستيعاب العلمي لما يعرفه المغرب بالخصوص من عسر للانتقال نحو الديمقراطية، كما اننا نعبر عن وجهة نظرنا وفهمنا لما أورده استاذنا الغالي عبد الرحيم العطري في هذا الفصل وفقا وإمكانياتنا المحدودة.
وهو الأمر الذي يدفع الى التساؤل عن كيفية فهم اخفاق الثورة بالعالم العربي عامة والمغرب خاصة؟ وما الذي يؤجل التغيير والانتقال نحو الديمقراطية رغم كل ما عرفته هذه المجتمعات من احتجتجات وسفك للدماء بشوارعها؟ وما هي طبيعة مطالب المحتجين في جوهرها؟ كيف نفهم النسق السلطوي بالعالم العربي؟ وهل يمكن تفسيره في اطار وحدة الأنظمة العربية؟

السياق كفيل بإنتاج المعنى:
ليس من الغريب أن تفتح كتابا للدكتور عبد الرحيم العطري وتجد البداية بالحكاية التي تعطينا الدروس والعبر في الحياة ، وقد كان لحكاية طائر الكولبري درس في تحمل المسؤولية كل حسب موقعه من أجل الوقوف أمام السلطوية والمراكمة الجادة نحو الديمقراطية كمطلب للانسانية جمعاء ، و مسؤوليتنا هنا لا تقف عند الكتابة بل تتعداها الى العمل اليومي البسيط والارتباط بهموم الجماهير الشعبية إيمانا بحتمية النصر والاستعداد لتقديم أقدس التضحيات، فالحياة كلمة وموقف والجبناء لا يصنعون التاريخ بل انهم ارتكنوا الى الزاوية والقصر من خلال تبني ثقافة البذنجان .
ان ما عرفه ويعرفه عالمنا العربي يحتاج منا البحث والتدقيق السوسيولوجي للمفاهيم وعلى رأسها مفهوم الثورة باعتباره مفتاحا لفهم ما يحدث على مستوى الواقع المادي،، وهو الأمر الذي انطلق منه الباحث اذ وصفها بالرجات والهزات والانتفاضات التي لم ترتقي بعد الى ثورة ناجحة فهي لم تستوفي شروط الثورة لما تحدثه هذه الأخيرة من قطيعة نهائية مع القديم اقتصاديا وسياسيا واجتماعيا ( من القبيلة الى الدولة) وكل هذا ينطلق فيه الاستاذ العطري من فكرة منهجية أساسية مفادها أن السياق كفيل بإنتاج المعنى مؤكدا على ضرورة العودة الى التاريخ وتفكيك النظام السياسي . وبداية النقاش هنا تستلزم أولا وقبل كل شيئ تحديد مفهوم الثورة بشكل دقيق ورغم تعدد تعاريفها فان الأقرب الى المتفق عليه في اعتقادي هو الانتقال من نمط مجتمعي الى اخر أو بالأحرى الانتقال الى مجتمع أكثر ديمقراطية فالقطيعة مع الفائت لا تنتج دوما نظاما ديمقراطيا وخير دليل على ذلك ثورة العبيد حيث كان الانتقال من مجتمع العبودية الى مجتمع الاقطاعية الاكثر ديمقراطية لكن أقل من ديمقراطية الرأسمالية في ان واحد ، وكثيرا ما كنا نردد يوما أن الثورة بالمغرب تطبخ على نار هادئة وتتراكم في سياق السخط الشعبي والمعانات اليومية للكداح من جماهير العمال والفلاحين انها مشروع استراتيجي يحتاج الى وحدة تنظيمية تستجيب لخصوصيات الشارع المغربي نستطيع من خلالها عكس الجانب السياسي على المطالب النقابية ، اننا في حاجة الى ماركس ومطالبون ايضا بممارسة ” الجمناز الفكري ” والتحقق أولا من التحليل الماركسي الذي قطع أواصل الربط مع البحث الميداني وتحولت بذلك الماركسية الى عقيدة جامدة من خلال اسقاط عمودي للنظرية على مجتمعنا المغربي، فخروج الشعوب الى الشارع بمختلف بقاع الاضطهاد والتفقير والتجويع من تونس الى ليبيا وسوريا الى أرض الكنانة والمغرب لم يؤدي سوى الىى إعادة صوغ الراهن في عباءة الفائت ، وتعويض حاكم بأخر دون المساس بالبنية الاقتصادية والسياسية والاديولوجية “انه تغيير ضمن نسق الاستمرارية فالثورة هي الانتقال من القبيلة الى الدولة التي تحتاج الى طبقة متوسطة لدعمها” بتعبير الباحث . غير أن هذا لا يعني تحقيق الديمقراطية من خلال جهاز الدولة ما دامت هذه الأخيرة في يد الطبقة الأقوى من المالكين لوسائل الانتاج لكن يمكن أن نعتبرها مرحلة مهمة في مسار ترسيخ الديمقراطية وتجاوز التركيب الذي تعاني منه المؤسسات الحديثة، وهنا لا يمكن أن نغفل نقطة أساسية والتي تتعلق بالاختلاف بين بلدان العالم العربي فلا يمكن الحديث على أن ما وقع في تونس مثله ما وقع في مصر اذ أن انشقاق الطبقة الحاكمة في تونس ولد نظام جديدا مخالفا للنظام العسكري الاستبدادي بمصر التي حافظت على نفس الخط السلطوي ،أما المغرب فلا يمكن الحديث فيه سوى عن انتفاضات هنا وهناك كان أبرزها 20 فبراير 2011 التي تعرضت للطعن من الداخل عبر خيانة البرجوازية الصغيرة لها عبر تحالف مباشر مع البرجوازية المتوسطة، كما أن القبلية حاضرة أيضا في هذا الاحتجاج فالحديث عن حراك الريف أو حراك جرادة مثلا هو تعبير مضمر عن الاحتجاج القبلي وليس الشعبي ، أما اذا ما قمنا بالتدقيق أكثر في مطالب المواطن العربي نجدها في اصلها مطالب اجتماعية ( صحة، تعليم، رفع الأجور…) كما ورد في الكتاب اي انها لم تتجاوز الحقل النقابي نحو المطلب السياسي.
استراتيجية المطالب:

من خلال قراءة لمضامين الشعارات المرفوعة يوضح الباحث أن المطالب الأساسية للشعب العربي يمكن تلخيصها في ثلاث عيون مركزية شكلت في حد ذاتها مخرج لما سماه ” طوفان العالم العربي” :
• العدل الاجتماعي والاقتصادي والسياسي والمجالي والقضائي
• العمل ووضع حد للبطالة وهدر الطاقات والكفاءات
• العلم والعقل وعلى رأسها فصل الدين عن الدولة واستعمال العلم في وضع المشاريع التنموية والقطع مع كل أشكال الخرافة والشعوذة .
ان هذه العيون الثلاث لها ارتباط جدلي فيما بينها من جهة وما بين تاءات ثلاث أيضا تتمثل الاولى هي تاء التنوير ونزع السحر عن العالم من خلال تاء تحرير الطاقات والافكار التقليدية القبلية ثم تاء التغيير الجذري وتهديم البنية السابقة . ان هذه العيون والتاءات تتطلب في جوهرها الانتقال من العلاقات الأولية القبلية والتقليدية المباشرة التي يميزها سؤال من أنت؟ الى علاقات ثانوية ترتبط بمجموعة من المؤسسات التخصصية التي تخضع الفرد في اطار وظيفي عقلاني بحيث يكون الرابط بين الافراد هو الغايات التي ينتظمون لأجلها ،وهذا الأمر في حد ذاته يتطلب “تجفيف المستنقع” عوض قتل البعوض بما يعني ذلك من تهديم للبنية السياسية والاقتصادية التي تنتظم وفق علاقات زبونية معقدة ،وهو أمر ليس بالسهل بل يتطلب منا القيام بالواجب وفق حكمة ” أنا أقوم بحصتي” كطائل الكولبري. ورص الصفوف لمواجهة التفاهة والتفسيرات الا علمية وإغواءات النبوة.

وفي جانب اخر ينتقل أستاذنا الى تحليل الثقة بين الشعب والدولة والتي عنوانها العريض هو الازمة الناتجة عن افتقاد الحوار بين الطرفين، فالتعالي والقمع هو الحوار السائد بين الحاكم والمحكوم بوطننا العربي ، وخير مثال على ذلك ما تحتويه ذاكرتنا المغربية من صور سلبية حول المخزن المفاجئ والعنيف وعدم الاطمئنان كما أن الدولة أيضا لا تثق في المواطن فلا تمنحه الحرية في الاختيار السياسي وهذه الأمور تتعارض مع مفهوم الديمقراطية التي تستوجب الثقة والحوار .
ان هذه النقطة بالذات تتطلب منا العودة مرة أخرى الى تعريف الدولة والدخول الى تفاصيل التفاصيل والعودة بها الى سياقها التاريخي ، لقد ظهرت الدولة بعد ظهور الملكية الخاصة بحيث أصبح من الضروري تحصين المالكين ضد غير المالكين فأبدا ما كانت جهازا فوق الطبقات أو تعمل على التوفيق بينها بل هي أداة قمع طبقي في يد من يملك أكثر وحتى في الادبيات الوظيفية التي تعطي للدولة دور التوفيق بين مختلف الانساق فاننا في المغرب لا نتوفر على دولة بهذا المعنى بل ان كل ما نتوفر عليه هو جهاز قمعي يظم الجيش والأعيان من النخب القادرة على ادارة ورعاية المصالح الاجنبية بالاساس والعمل في ان واحد على اسكات الطبقة الشعبية وكل وسائلها التعبيرية سواءا عبر القمع المادي و التدخلات الهمجية المباشرة أو الرمزي عن طريق وسائل الاعلام والمؤسسات الدينية والتربوية من خلال عملها على تحميل مسؤولية التخلف للشعب باعتباره المسؤول الأول عن احداث الخلل بالمجتمع عن طريق الاحتجاج واحتلال الملك العام واذا ما نحن تمحصنا في نوعية التهم التي تلفق للمعتقلين فاننا نجدها تنحصر في تخريب الملك العام أو التجمهر المسلح … وهي تخفي بذلك المطلب السياسي وأتحدث هنا من تجربتي الشخصية والمعايشة اليومية للمعتقلين السياسيين .
وفي السياق نفسه يرى الدكتور عبد الرحيم العطري أن الشعوب تستفيد من التجارب الاحتجاجية لبعضها البعض فيما يخص نضالاتها ويتجه بذلك الشارع الى الاعنف من خلال ابداع شعارات ولافتات… تحمل النقد في مضمونها عكس ما تلجئ اليه الدولة من اجل شرعنة التدخلات العنيفة كاستخدام البلطجية المسخرة .
والاكثر من ذلك فانها تلجئ ايضا الى تشويه جميع الحركات الاحتجاجية واتهامها بالانتهازية بغية انتزاع الشرعية الجماهرية منها فمثلا تشويه صورة ورمزية الاساتذة هي في جانب مهم ضرب للتضامن الشعبي معهم وكذلك ما حدث مع الاساتذة المتدربين من خلال وصفهم بالانتهازيين بعد قبولهم للفتات . ولفهم دقيق لمضمون هذه الشعارات فلا بد لنا من دراسة المنتجين لهذه الشعارات ولمرجعهم الايديولوجي فشعار الشعب يريد اسقاط الحكومة ليس هو الشعب يريد اسقاط النظام ، ان تنسيقية الاساتذة المتعاقدين ما هي الا استمرارية لتنسيقية الاساتذة المتدربين وقياداتها من اعضاء جماعة العدل والاحسان والحركة الثقافية الامازيغية وبعض اليساريين خرجي الحركة الطلابية أو بتعبير اخر فان قيادتها من الفئة الوسطى للبرجوازية الصغيرة لذلك نجد أن سقفها محدودة عند المطالب النقابية من أجل تحسين وضعها الحالي لكي لا يتدحرج وضعها الطبقي الى الاسفل. فنجدها فقط تنتقد الدولة في شخص الحكومة والبرلمان والتي وصفها الباحث عبد الرحيم العطري بكونها برلمانات لا شعبية لا تؤدي سوى مسرحيات يتابعها المواطن العربي بكل ألم في كل جلسة مساءلة شفوية، ويعتبرها نتاج موضوعي لواقع الفساد السياسي والانتخابي لذلك فان المطلب كان هو حل البرلمان بعد أن تأكدنا من عدم قدرتها على تغيير الواقع لصالح الجميع وتجاوز مصالحها الذاتية ، فهي تفتقد للبوصلة الاديولوجية والفكرية بل تبنت الانتهازية من أجل الوصول الى مناصب أعلى من التي هي فيها فتخندقت بذلك الى جانب الحاكم الموزع للنعم بدل الشعب ما دامت تمثله . ان هذا الأمر يدفعني الى طرح سؤال : لماذا ينتمي الناس الى الاحزاب بالمغرب؟
ان الاحزاب بالمغرب ما هي الا جماعة ضغط ينتمي اليها الناس لتكبير حصتهم من النفوذ والمال . ويصبح معه الوصول الى السلطة بالقوة أكثر منه بالحق والكفاءة والنزاهة فلا شيئ أسهل من الانتماء الى حزب سياسي والحصول على التزكية الحزبية ،وفي جانب اخر ينتمي الناس الى الاحزاب بالمنطق القبلي والزبوني بالاضافة الى مجموعة قليلة من خريجي الجامعات الباحثين في الحقيقة عن فرصة للعمل بعد ان ضاق بهم الحال جراء البطالة وليس العمل السياسي وهذا ما يجعل ثقافة “” التنقاز”” من حزب الى اخر حاضرة بقوة فنجد يساري داخل حزب اسلاموي أو العكس وكل هذا وأكثر يدفع الى تحديد طبيعتها الرجعية في المحافظة على نفس البنية الطبقية .
لقد انتجت النسخة الأولى من الربيع العربي حسب الدكتور عبد الرحيم العطري ثلاث خطابات : الأول هو خطاب النهايات التي تبشر بنهاية الحراك والعودة الى التوازن والثاني لم يعلن موقفه بشكل واضح لا من الشعب ولا من السلطة أما الخطاب الثالث فقد اعتبر ما حدث مجرد نقطة في مسار من السخط الشعبي.
وهو بذلك يختم هذا الجرح بنقطتين أساسيتين تتمثل الأولى في الانتقال من القبيلة الى الدولة الحديثة ذات التدبير المؤسساتي العقلاني فرغم أن ذلك لا يبدو واضحا فان القبيلة حاضرة في التدبير السياسي للوقائع والاشياء ويظهر ذلك بشكل جلي في السلوك التواصلي للمغاربة ( منين نتا) والتقسيم الانتخابي ورغم أنها تلاشت كمؤسسة تنظيمية فإنها لازالت حاضرة كنظام رمزي محدد وموجه للقيم والتصورات والممارسات .
أما المسألة الثانية فهي سؤال الدين والتدين الذي أرهق تفكيرنا العربي باعتباره مجالا للاختلاف الذي يضرب بجذوره في تاريخ الاسلام والعالم الاسلامي حيث كان تدبير الاختلاف محمودا أما الان ومع التحولات الكبرى في مجال التكنولوجيا والاعلام تجاوز هذا الاختلاف المحلي نحو الكوني وهو يغوص بذلك في عالم السياسة فتحول الخطاب الديني من الترهيب بالعذاب وقطع الرؤوس الى خطاب الترغيب .
لكل بداية نهاية والنهاية في حد ذاتها بداية والمطالبة بالديمقراطية لن تعرف نهاية الا بتحقيقها وتدشين بداية جديدة لبناء مجتمع قادر على استيعاب كل مكوناته وشرائحة الاجتماعية رغم كل اشكال القمع والتظليل والمساومة الرجعية فان الشعوب تسير حتما نحو تحقيق مطالبها عبر أشكال مختلفة للاحتجاج وبتعبيرات تقدم الدليل القاطع على نضج هذه الشعوب لتتجاوز لغة الصاد الى لغة الثورة، غير ان الحقيقة تقول اننا في حاجة الى الفعل المنظم وهي مهمة المثقفين العاملين بأدمغتهم ضد انظمة الاستبداد والقمع عبر التحالف المباشر مع الكادحين جماهير العمال والفلاحين وكل المهمشين ، ان المعرفة وجدت من اجل تغيير العالم لصالح الجميع .
Je fais ma part

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *