لنا ذاكرة، ملف

“بوكليب” .. يوم حصدت جائحة “الكوليرا” أرواح آلاف المغاربة

لم يبالغ المغاربة عندما أطلقوا على وباء “الكوليرا”، الذي ضرب العالم خلال القرن التاسع عشر، اسم “بوكليب”، فالوباء الذي قلب موازين العالم وقتذاك رأسا على عقب، دخل المغرب في سنة 1834، ولك أن تتخيل خطورة الموقف حينها في ظل قطاع صحي شبه بدائي وموانئ يصعب إغلاقها أو تطبيق حجر صحي للوافدين.

لم يكن حينها قانون للطوارئ ولا وزارة للصحة تنشر أخبار الحالة الوبائية أول بأول أو تقدم نصائح عبر التلفاز للسكان، بل إن أخبار انتشار المرض ووصوله لمنطقة معينة تنتشر عبر الأسواق والمساجد والتجمعات، وفي الكثير من الأحيان يتكفل “بوكليب” بإخبار الناس بوصوله، عندما يعاينون ظهور أعراضه على أحد الأشخاص مباشرة، من قيئ وإسهال وغيرها.

رغم أن الوباء تميز ببطئه في الانتشار بعدد من جهات المغرب، إلأ أن سرعته في الانتشار كانت رهيبة في بعض المناطق، فكلما أحس الناس بدخول السائح القاتل إلى مدينة هجروها، لكنهم في الحقيقة كانوا ينقلون الوباء إلى مدن أخرى، ويساعدون الوباء في الانتشار.

استطاع المغرب بداية القرن التاسع عشر أن ينجو من الموجة العالمية الأولى لوباء الكوليرا، إذ توقف الوباء عند أبواب أوروبا وسيبريا الغربية، لكن المغرب لم يسلم من الموجتين الثانية والثالثة للجائحة العالمية. في فترة لاحقة طور المغرب علاقاته التجارية مع العديد من البلدان كما فتح موانئه في وجه السلع الأوروبية، وهي الفترة التي حصد الوباء خلالها في إنجلترا أرواح 5500 شخص و 100 ألف بإنجلترا، وسجلت أولى الحالات بفاس، حيث سجل عدد من الاطباء الأجانب حالات وفيات غير عادية بين السكان، وفي فاتح دجنبر من سنة 1834 تم الإعلان رسميا عن وجودها بالمغرب.

يرجح الباحث في التاريخ محمد الأمين البزاز أن يكون “بوكليب” تسرب إلى البلاد من الجارة الشرقية، إذ أحس المعاصرون له بأنهم أمام وافد جديد. فإذا كان المؤرخ أحمد بن خالد الناصري اكتفى بنعته بالوباء، فإن “صاحب الابتسام عن دولة ابن هشام” وصفه بكونه “ريح ما سمعو به، قاتل من حينه، ويسمونه عندنا في المغرب، بأسماء الكوليرة والريح الأصفر وبوكليب.. إذا أصاب الرجل تغير لونه واسود جفن عينه ويجعله يقيئ من أعلى ويسهل من أسفل”. ويضيف المسرفي في “أقوال المطاعين”: “فكان موته موت بغتة وفجأة كم من واحد مات فيه بالحيرة والدهشة حيث يرى الإنسان أخاه يمشي صحيحا فيسقط ميتا، وقل من جاوز في تلك المدة أربعا وعشرين ساعة… وبنفس ما ينقاس به الإنسان فيتغير حاله وتشوه خلقه وتقع اللكنة في لسانه فيلجلج مقاله وتزبجر أضافر يديه ورجليه كأنها صبغت بنيلة”.

أسقط الوباء أول الضحايا بمدينة فاس عام 1834، ومنها انتقل إلى مكناس ووزان والقصر الكبير وطنجة وتطوان والعرائش وسلا والرباط، ثم واصل زحفه في السنة الموالية في اتجاه الدار البيضاء وآسفي والصويرة ومراكش، قبل أن يصل إلى الواحات الشرقية. وفي أكتوبر من عام 1935 انقطع الوباء في جميع الموانئ لكنه عاد إلى الظهور مجددا بطنجة وتطوان في دجنبر من السنة ذاتها.

يأبى الوباء إلا أن يعود مجددا لمدينة فاس واستمرت أعراضه الخطيرة تظهر على عدد من سكان المدينة إلى غاية فبراير من عام 1837. إن السائح القاتل الذي زار المغرب في القرن 19 تأخر في وصوله إلى مدينة الصويرة، إذ لم يدخلها إلا بعد ظهوره بـ15 يوما بفاس. وكان الوباء لا يطيل المكوث في المكان نفسه، إذ لم يمكث في الصويرة إلا عشرين يوما، ومكث ثلاثة أسابيع فقط في طنجة وتطوان، ولم يبق بفاس سوى مدة وجيزة.

وإذاكانت بعض المدن، مثل الرباط وطنجة وتطوان ، صمدت أمام الوباء، فإن مدنا أخرى لم تقو على تحمله فضربها بعنف، خصوصا المناطق التي تتميز بكثافة سكانية مرتفعة وتدهور المستوى المادي والصحي، كما وقع تماما في مدينة فاس التي أدت ضريبة فادحة للوباء، كما يؤكد ذلك محيي الدين محمد المشرفي “ومات به خلق كثير وجم غفير لا يحصي عدده إلا الملك القدير”، الأمر ذاته حدث في مكناس إذ بلغ عدد الضحايا أربعة آلاف وهو نصف ضحايا فاس. كذلك الأمر في الوحات الشرقية إذ بلغ عدد ضحايا الوباء في قصر المعيز لوحده بمدينة فيكيك 345، ما يمثل 23 في المائة من سكان القصر. بعد كل هذه الخسائر اختفى الوباء 1836.

لم يسلم أيضا المغرب من الموجة الثالثة لـ”بوكليب”، التي بدأت عام 1854، التي ضربت المغرب خلال مرحلتين، كانت الأولى أشد عنفا وقد سلك الوباء طريقه خلالها عبر الجزائر مرة أخرى، وكانت الضحية الأولى هي فاس مجددا، التي فتك بها الوباء بشكل مهول، حتى إن عدد الضحايا في اليوم الواحد كان 300 و400 ضحية. يقول المفضل أفيلال “وصار عدد الموتى يكثر شيئا فشيئا إلى أن بلغ عددهم أربعمائة شخص في اليوم”. خلال هذه المرحلة كان الوباء أشد فتكا كما وصل إلى جل المدن والمناطق، حتى الجبلية والبعيدة منها.

لما بلغ الوباء مدينة سلا أسقط بها في يوم واحد حوالي 120 قتيلا. وكانت الحالة مزرية بالرباط إذ قدر عدد الموتى بالملاح بحوالي 600 ضحية وهو ما يمثل ربع سكان الحي، واستمر الوباء بالمدينة إلى بداية السنة الموالية، أما الدار البيضاء فقد خسرت ثمن سكانها، كما داهم الصويرة وفتك بطنجة فبلغ عدد ضحايا الجالية الأوروبية لوحده 35 ضحية أي 10 في المائة من أوروبيي المدينة، “ثم بلغ الوباء تطوان في أوائل ذي القعدة .. وقد بلغ عدد المتى في اليوم الواحد سبعين شخصا”، الكلام هنا للمفضل اأفيلال، الذي غادر فاس عام 1854 فرارا من الكوليرا.

ساهم الجيشان الإسباني والفرنسي، خلال المرحلة الثانية من هذه الموجة، في نشر الوباء في المغرب، فخلال حملة الجيش الإسباني على تطوان والجيش الفرنسي على بني يزناس نقل أفراد الجيشين عدوى الوباء إلى تلك المناطق. ولم يتوقف وباء الكوليرا عند هذا الحد إذ ضرب العالم 5 مرات، استطاع المغرب أن ينجو من الأولى، لكن الوباء فتك به في المراحل الأربع الاخرى.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *