لنا ذاكرة، ملف

في ظل حجر صحي “محتشم”.. عندما قتل الطاعون الكبير نصف المغاربة

إذا كنت مغربيا فأنت حتما من أحفاد الناجين من “الطاعون الكبير” الذي أسقط عشرات الآلاف من أجدادنا، هي سنوات قليلة التقطوا فيها أنفاسهم وضمدوا جراحهم الغائرة بفعل “المجاعة الكبيرة”، التي جثمت على البلاد ما بين سنوات 1776 و1782، قبل أن يضرب “الطاعون الكبير” البلاد ويفتك بالعباد، غير عابئ بالحجر الصحي المحتشم الذي فرضه المخزن على مضض.

قدر القنصل الإنجليزي في مدينة طنجة، دجاكسون، أيام حكم السلطان المولى سليمان، ضحايا الطاعون بالمغرب بنصف أو ثلث السكان، وهي الرواية التي تطابقت مع روايات أجنبية ومغربية في فداحة الخسائر، والدمار الديموغرافي الذي أحدثه الوباء أواخر القرن الثامن عشر.

الحجر الصحي

لم يكن المغاربة يعرفون شيئا اسمه الحجر الصحي إلا في أواخر القرن الثامن عشر عندما حل “الطاعون الكبير”، يحكي ابن عثمان الذي كان سفيرا للمغرب بإسبانيا ما بين 1779 و1780 قائلا، “وقد ذكروا لنا قبل أن لا بد من أن نجعل الكرنتينة (الحجر الصحي La quarantaine ) ومعناها أن يقيم الذي يرد عليهم في موضع معروف عندهم معد لذلك أربعين يوما لا يخرج منه ولا يدخل إليه أحد… ولهم في ذلك تشديد كثير حتى أن الذي يأتي إلى صاحب الكرنتينة بالطعام يطرحه له من بعد يحمله الآخر ولا يتماسان، وإن ورد عليهم بكتاب ذكروا أنهم يغمسونه في الخل بعد أن يقبضوه منه بقصبة”.

أما في المغرب فلم تتعامل سلطات المخزن بجدية كافية مع تطبيق الحجر الصحي، للحيلولة دون دخول وباء الطاعون الذي كان يفتك بسكان مصر والجزائر وتونس آنذاك، ويشير محمد الأمين البزاز في كتاب “تاريخ الأوبئة والمجاعات” إلى أن البلاد ظلت لمدة في منأى عن الوباء، مضيفا أن المغرب كاد أن يصاب بدوره بعد وصول سفينة موبوءة إلى طنجة وعلى متنها عدد من الحجاج المغاربة.

لقد كانت في المغرب إجراءات محتشمة للحجر الصحي، لم تستطع الصمود أمام قوة الوباء الهادرة، ومنها أن السلطان محمد بن عبد الله أقام نطاقا عسكريا في الحدود الشرقية لوقاية البلاد من الطاعون المتفشى آنذاك في الجزائر.

وفي طنجة شرعت الهيئة القنصلية منذ عام 1792 في اتخاذ إجراءات وقائية ضد الوباء، قبل أن تتمكن في العام الموالي من انتزاع موافقة السلطان المولى سليمان على فرض حجر صحي ضد الجزائر، وامتد من يونيو إلى أكتوبر.

وفي يوليوز من عام 1797 حصلت الهيئة القنصلية بالشمال من السلطان على ظهير خاص ينص على فرض الحجر الصحي على السفن القادمة من وهران الجزائرية وشل جميع المواصلات القارية في الحدود الشرقية، يقول البزاز إن البلاد نجت لسنوات من الطاعون بفضل هذا التدبير و”بفضل عامل الحظ أيضا”، مستدركا بأن هذه المهلة لم تكن سوى استراحة داهم الوباء بعدها المغرب.

وتمكنت الهيئة القنصلية من إقناع المخزن المغربي بفرض حجر صحي على مليلية وإقامة أحزمة صحية حول طنجة والعرائش وتطوان، لكن هذه التدابير كانت محدودة وضعيفة، ولم تصمد أمام الوباء الذي عم الوباء البلاد بسرعة.

انهيار ديمغرافي

يحكي المؤرخ عبد السلام بن سليمان الفشتالي أن “الطاعون بالمغرب فشا أول ما ظهر بقبيلة لوداية حتى فنى من شاء الله بمحلتهم.. ودخل القصبة وفاس الجديد منتهى جمادى الثانية عام ثلاث عشر ومائتين وألف (9 دجنبر 1798) حتى تحيرت الناس وفتنوا الأغنياء (كذا) من كثرة الموتى وجعلت الناس ترمي كواشط الموتى وحوايج لباسهم بين الطرق. دخل فاس أواخر شعبان من العام المذكور (5 فبراير 1799) حتى ازداد أمره واشتد بأول شوال (8 مارس)”.

وتكشف شهادات عدد من الأجانب الذي زاروا بعض مناطق المغرب بعد انتهاء “الطاعون الكبير”، مدى فداحة الخسائر والانهيار الديمغرافي الكبير بالبلاد، حيث خلت بعض المدن من سكانها، وفي هذا الصدد أفاد القنصل الإنجليزي دجاكسون، أن فاس فقدت 65 ألفا من سكانها، في ما فقدت مراكش 50 ألف شخص، بينما أباد الوباء خمسة آلاف شخص من سكان آسفي وخمسة آلاف و500 من سكان الصويرة.

من جهته كشف القنصل الفرنسي بطنجة “كيلي” أن عدد الضحايا بلغ يوميا 700 و800 ضحية، بينما بلغ عدد الضحايا منذ ماي من عام 1799 زهاء 30 ألف ضحية، حسب ما نقل عنه محمد الأمين البزاز. أما الرحالة الفرنسي “كورتس” الذي زار فاس في عام 1801، فقد أحصى 15 ألف ضحية في حي واحد بالعاصمة العلمية. حيث لم يبق بالحي سوى 30 فردا على قيد الحياة، فيما كشفت مراسلات دبلوماسية عن سقوط حوالي 2000 ضحية في اليوم الواحد بمدينة مراكش.

ومن المؤشرات على فداحة الوضع وفظاعة الأزمة، أشار عدد من المؤرخين إلى تكدس الجثث في الطرقات والأزقة، كما كان يرمى بالجثث في مقابر جماعية، أو تترك في العراء لتنهشها الكلاب. بل إن توارد أخبار الموت سيطر على الناس واستسلموا لليأس لدرجة تهافت الكثير منهم على شراء “الكتان لتلف به جثثهم حينما يأتي دورهم كما عمدوا إلى إفراغ مطاميرهم وتوزيع ما تختزنه من أقوات على الفقراء وتهييئها بذلك لتكون مقرهم الأخير”، يقول البزاز.

وخلال جولة له بحاحا مباشرة بعد الوباء شاهد القنصل الإنجليزي عدة قرى مهجورة بعدما كانت مزدهرة بالأمس القريب، ففي قرية “الديابات”، الواقعة جنوب الصويرة، لم ينج سوى 23 شخصا من مجموع 133، وفي إحدى القرى القريبة لم يبق على قيد الحياة سوى 7 أو 8 أشخاص من مجموع 500 أو 600 نسمة، وكذلك في قرية أخرى لم يبق على قيد الحياة سوى أربعة أفراد من مجموع 800 نسمة.

هذا الفداحة في الخسائر البشرية، عبر عنها الفشتالي صاحب “الابتسام” بقوله “كان يموت بفاس في كل يوم ألفان ونصف” ويضيف “يدفنون ما يزيد على ألف كل يوم”. لقد شاع خبر الموت في كل مكان، ولم يعد هناك متسع من الوقت لتشييع الجنائز أو إقامة العزاء، وضاقت المقابر بالجثث وعجز الأحياء عن دفن الموتى، وفاحت رائحة الجيف في كل مكان تزكم الأنوف.

أعراض المرض

وحسب الأعراض التي ظهرت على مرضى “الطاعون الكبير” بالمغرب، ورصدها عدد من المؤرخين، فإن الأمر يتعلق بنوعين من الطاعون؛ الأول هو “الطاعون الدملي”، وتتجلى أعراضه في الدماميل والقيء والإسهال.

يقول المشرفي في “أقوال المطاعين”، “وفي رأس هذا القرن من سنة 13 (وقع) موت الطاعون وهو خروج شيء من مغابن الإنسان كإبطيه يشبه الجوزة يسود ما حولها أو يحمر.. يمرض الإنسان أياما عديدة وربما يعيش ولما يطعن به الإنسان فيتقيأ ما يشرب لا يكاد يصبر على الماء ويقع له إسهال في البطن أنثى من الجيفة..”، حسب ما نقل عنه البزاز.

وهناك أيضا نوع آخر إلى، جانب الطاعون الدملي، تفشى في نفس الوقت، يشير إليه ما نقله البزاز عن القنصل الانجليزي دجاكسون، “إن المريض الذي كانت تأخذه القشعريرة ولم تكن تظهر عليه الدماميل، كان يموت في ظرف 24 ساعة وكانت جثته تتعفن بسرعة” وهي الأعراض التي تدل على الطاعون الرئوي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *