لنا ذاكرة، ملف

“عام كحيكحة”.. السعال القاتل الذي فتك بالمغاربة زمن السعديين

“عام كحيكحة” أو “عام كحيحة”.. هو الإسم الذي أطلقه المغاربة على سنة 987 هجرية (1579 – 1580 ميلادية)، في عهد السلطان السعدي أحمد المنصور الذهبي، نظرا لانتشار مرض قاتل يصيب الجهاز التنفسي للإنسان آنذاك، فيدخله في نوبة سعال حادة تنتهي غالبا بموته. كما أطلقوا على العام ذاته “عام البقول” بسبب ارتفاع الأسعار.

لم تكن حينها وزارة للصحة تتكفل بالمرضى وتحصيهم وتسهر على الوضع الوبائي بالبلاد، ولم تكن مستشفيات بتجهيزات متطورة، كما لم يكن علم هنالك متقدم ولا منظمة عالمية للصحة، كل ما في الأمر أن بعض المرضى يستسلمون للمرض فيما يلجأ آخرون “للحكماء” (كما يسمى الأطباء آنذاك) أو حتى لبعض الأولياء وأصحاب الكرامات.

لم يكن الوباء وحده ما قض مضجع سكان المغرب آنذاك، لقد تسلط عليهم أيضا الغلاء، فإذا كان الأول لا يفرق بين غني وفقير ولا بين الخاصة والعامة، فإن الثاني اختار ضحاياه بعناية من الفقراء وأصحاب المهن والحرف البسيطة منكلا بهم أشد تنكيل، إلى أن أطلقوا على السنة ذاتها “عام البقول”، نظرا للجوء الكثيرين لهذه النبتة ليسدوا بها رمقهم.

“كحيكحة”

عندما حل عام “كحيكحة” كان السلطان أحمد المنصور الذهبي ما يزال منتشيا بانتصاره في معركة وادي المخازن، وتسمى أيضا معركة الملوك الثلاثة، وهي المعركة التي وقعت سنة 986 هجرية، إذ تطور الأمر من نزاع على السلطة بين محمد المتوكل “المسلوخ” والسلطان أبو مروان عبد الملك إلى حرب مع البرتغال بقيادة الملك سبستيان، وانخرط فيها المنصور دعما لأبي موران ضد “المسلوخ”.

لم تتحدث المصادر التاريخية بتفصيل عن هذه الفترة أو أعراض المرض بالتدقيق أو أعداد الضحايا بالتدقيق، لكن إشارات في بعضها تفيد بأن المرض كان فتاكا وأحدث انهيارا ديمغرافيا في بنية المجتمع وقتذاك. يقول أحمد بن خالد الناصري في “الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى”: “وفي نفس السنة (987) أيضا أصاب الناس في بعض فصولها سعال كثير قل من سلم منه، وكان الرجل لا يزال يسعل إلى أن تفيض نفسه فسمى العامة السنة سنة كحيكحة”.

الوباء ذاته أشار إليه محمد الصغير الإفراني في كتاب “نزهة الحادي بأخبار ملوك القرن الحادي”، بالقول: “ووقع سعال عظيم أصاب الناس عامة في بعض فصول ذلك العام فلا يزال الإنسان يسعل إلى أن تقبض روحه ولهذا سمي العام عام كحيكحة”.

معاناة الناس مع مرض “السعال”، خصوصا الفقراء، تفاقمت بفعل الغلاء الذي استشرى في البلاد آنذاك، يقول الإفراني: “وفي عام سبعة وثمانين وتسعمائة وقع غلاء عظيم حتى عرف ذلك العام بعام البقول”، وهو الأمر ذاته الذي أكده أحمد بن خالد الناصري “في الاستقصا”.

“غضب الله”

لجأ الكثير من المغاربة إلى تفسير ما حل بهم في عام “كحيكحة” و”البقول” بكونه “غضب من الله” و”عقاب” لهم على “ما كسبت أيديهم” وهو ما نتج عنه “رفع البركة” عن الأرزاق والأموال، إذ أن الجشع دفع الكثير من الناس خصوصا الجنود الذين شاركوا في معركة وادي المخازن إلى “نهب” الغنائم.

وفي هذا الصدد يقول صاحب “الاسقصا”: “في سنة سبع وثمانين وتسعمائة وقع غلاء عظيم بالمغرب حتى عرف ذلك العام بعام البقول، وقال في المرآة: “لما انتهب الناس غنيمة وادي المخازن كان الناس يتوقعون مغبنها لاختلاط الأموال بالحرام فظهر أثر ذلك في غلاء وغيره وكنا نسمع أن البركة رفعت من الأموال من يومئذ”.

ما وصفه الناصري بـ”اختلاط الأموال بالحرام” ونهب غنيمة المعركة، يتعلق بتخلي المنصور عن الغنائم للمشاركين في المعركة نظرا لصعوبة جمعها بعدما تسابقوا إليها فور انتهاء المعركة، يقول الإفراني: “ولما تمت للمنصور المبايعة بوادي المخازن كان أول ما بدأ به أن الجيش طلبوا منه أرزاقهم واستنجزوا منه أعطياتهم، حسبما جرت به العادة من قبله معهم. فطالبهم هو بخمس الغنيمة، لأنهم جعلوها نهبة ولم يتقاسموها على الوجه الشرعي. فصعب إخراجها منهم، لعدم التعيين وجرأة الناس على الغلول. فسلم لهم فيها وسمحوا له في رواتبهم وأعطياتهم وكان ذلك صلحا وقطعا للكلام فيما بينهم”.

هل أصيب السلطان؟

تحدث الإفراني عن مرض “مخوّف” للمنصور في نفس العام الذي عرف بعام “كحيكحة”، دون الإشارة إلى نوع المرض الذي أصابه أو أعراضه، ولم يحدد هل هو مرض “كحيكحة” أو غيره، واكتفى بالقول، “مرض المنصور مرضا مخوفا، وطال به حتى كادت الأمور أن تختل. ثم تداركه الله على يد الحكيم الماهر أبي عبد الله محمد الطبيب”. وإذا كان أحمد المنصور الذهبي نجا من “عام كحيكحة”، فإنه توفي بعد سنوات بوباء الطاعون، بمدينة فاس، الذي اجتاح المغرب عام 1603 ميلادي.

كان المنصور يستعد للذهاب إلى مراكش، لكن ظهور الطاعون جعله يتريث في ذلك، “فلما بلغه ظهور الوباء بتلك الناحية تربص إلى أن دخلت سنة اثنتي عشرة وألف فانتشر الوباء في بلاد الغرب أيضا فكان مصاب المنصور به على ما نذكره”، يقول الناصري.

ونقل الناصري عن الشيخ أبو محمد عبد الله يعقوب السملالي قوله: “كان بالمغرب وباء (الطاعون) استطال به من سنة سبع إلى سنة ست عشرة وألف، وعم سهل المغرب وجبله حتى أفنى أكثر الخلق ومات جمع من الأعيان وبه مات السلطان أبو العباس أحمد المنصور رحمه الله”.

لقد كان السلطان أحمد المنصور الذهبي أحد أبرز سلاطين المغرب العظام الذين ازدهرت البلاد في عهدهم، فإلى جانب الإدارة السياسية المتينة والاقتصاد القوي، فإن المنصور سهر على تأسيس جيش جبار فتح به بلاد السودان وأخضع به الكثير من المتمردين، ورغم كل هذا التقدم فإن الدولة السعدية ظلت عاجزة أمام الوباء الذي اجتاح البلاد وفتك بالسلطان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *