حوارات، مجتمع

يحياوي: المغرب يواجه “كورونا” مستفيدا من تجاربه السابقة (حوار)

تحدث مصطفى يحياوي، أستاذ الجغرافيا السياسية وتقييم السياسات العمومية بكلية الآداب والعلوم الإنسانية المحمدية، في حوار مع جريدة “العمق”، عن عوامل عدم تأثر المغرب بحكم قربه الجغرافي من بؤرة الأكثر عرضة للوباء بأوربا، أي إسبانيا وفرنسا وإيطاليا.

وبعد أن قدم قراء للأزمة الصحية التي تجتاح العالم منذ نهاية شهر يناير من السنة الجارية، كشف يحياوي السر وراء المفعول الإيجابي للإجراءات التي اتخذها المغرب، وعن استعداد بما يكفي لمواجهة جائحة فيروس “كورونا”.

الحوار الكامل:
س: ما قراءتكم للأزمة الصحية التي تجتاح العالم منذ نهاية شهر يناير من السنة الجارية؟

لعل أهم عبرة تتأكد مع توالي الأخبار في لحظة توقف إجباري لديناميات التنقل والإنتاج في واقع مُعَولم أن العالم لا محالة يمر بلحظة انتقالية ستحسم في فترة ثلاثين سنة من الأزمات المالية من 1987 إلى 2008 والحروب ذات الملامح “الحضارية” بما فيها أحداث 11 شتنبر 2001، وستجبر الاقتصادات العالمية على تطوير نظاما جديدا لتدبير الأزمات الفجائية يكون لاحتساب مخاطر الأمن الصحي دور في قياس استقرار السوق.

كثيرة من العبر يمكن استخلاصها من هذه المرحلة الانتقالية، نذكر منها على مستوى السياسة الدولية: (1) ضعف سلطة المنظمات الإقليمية في تأمين الحد الأدنى من التضامن بين مكوناتها (مثال حالة الاتحاد الأوروبي)، و(2) عدم قدرة الدول على التحكم في دورة إنتاج التجهيزات الطبية نظرا لتراجع منظومات الإنتاج الصناعي في البلدان الأكثر تقدما (خاصة أوربا الغربية والولايات المتحدة وكندا) وارتهان السوق لمنظومة الإنتاج الصيني، و(3) الهوة الرقمية على مستوى الذكاء الاصطناعي واستخدامه في تدبير الأزمة الصحية الراهنة، حيث تأكد أن الدول الآسوية (الصين، اليابان، كوريا الجنوبية، الهند) تتفوق في ذلك على دول أوربا الغربية، و(4) سرعة تأقلم الصين مع سياق الأزمة وقدرتها على ابتكار خطط تمكنها من الاستفادة جيدا من الوضع العالمي الراهن وتعويض الخسارات الناتجة على التوقف الاضطراري لدورة الإنتاج، و(5) بروز نمطين في تدبير الأزمات: نمط أوربي أمريكي يحرص على تبئير الحريات الفردية، بما فيها حرية التنقل،وعلى دور المؤسسات السياسية في تأطير التدابير العمومية الوقائية على الأقل على المستوى التوضيب التواصلي للقرار العمومي، وبين نمط تدبيري آخر لبعض البلدان الصاعدة والنامية الذي يتأسس على استعجالية التدخل واستثنائية الوضع وتطوير أدوات تدخل مرنة من ناحية مسارات اتخاذ القرار السيادي للدولة (هيمنة حل الطوارئ على التقيد بقواعد وشكليات التقعيد الديمقراطي لقرارات الدولة).

أما على المستوى السوسيولوجي، فأعتقد أن أهم عبرة يمكن تسجيلها أن النموذج الغربي القائم على تكثيف العلاقات الاجتماعية في المجتمعات الحديثة في اليومي المعيشي للأفراد خارج البيت قد أفقدهم القدرة على البقاء لمدة أطول في المجال الحميمي، وقد تبين أن لذلك علاقة سببية بالأنماط العمرانية والهندسة المعمارية الذي اعتمدتها السياسات الحضرية ما بعد الحرب العالمية الثانية في تشييد التجمعات السكنية في المدن الكبرى.

المسألة الأخيرة التي لا ينبغي إهمالها  هو حاجة العالم الحديث إلى دولة راعية وإلى نظام اجتماعي عمومي ناجع لتأمين الصحة خارج تقلبات السوق، بمعنى أوضح إن أهم تحدي إصلاحي يواجه مستقبل استقرار الأمن الاجتماعي في كل الدول بما فيها المغرب هو تحصين الصحة واعتبارها قطاعا عموميا لا ينبغي المغامرة بخصوصيته بشكل عشوائي، لأن في هذا القطاع حياة المجتمعات وديمومة استمرار الوجود الإنساني.

إن تجاوز عدد الإصابات للمليون حالة وشلل الحياة الاقتصادية والاجتماعية عالميا ينذر بأن العالم مقبل على تقلبات ثقافية واختلالات في منظومته القيمية تجعل المستقبل مرهونا بدرجة الـتأقلم مع سياقات الأزمات الفجائية.

س: دعنا ننتقل إلى المغرب، وبحكم اشتغالكم على تقييم السياسات العمومية، ما تقييمكم للوضعية؟ أو بمعنى آخر، كيف تفسرون عدم تأثر المغرب بحكم قربه الجغرافي من بؤرة الأثر عرضة للوباء بأوربا، أي إسبانيا وفرنسا وإيطاليا؟  

وضعية المغرب لا تختلف عن معظم الدول الإفريقية من ناحية مراكمتها تجربة مهمة في مجال محاربة الأوبئة وسرعة اتخاذ الإجراءات الاحترازية لاحتواء تداعيات انتشار العدوى جغرافيا. فإذا قارنا مثلا بين توقيت اتخاذ الإجراءات الاحترازية في الدول الإفريقية بما فيها المغرب وبين الدول الأوروبية الأكثر تضررا (إيطاليا وفرنسا وإسبانيا)، سنلاحظ أن في معظم دول إفريقيا تم إعمال نظام الإنذار في أقل من 20 يوما على إعلان المنظمة الدولية للصحة عن أول حالة إصابة بجانحة كورونا، وتم  تطبيق إجراءات إغلاق الحدود والحجز المنزلي في أقل من 18يوما على إعلان المنظمة العالمية على أول حالة وفاة؛ بالمقابل لم تتخذ فرنسا وإسبانيا وإيطاليا الإجراءات الوقائية إلا بعد أكثر من 48 يوما على هذا الإعلان، وقد تفوق المغرب على هذه البلدان الثلاثة بفارق زمني يصل إلى ثلاث مرات.

وهنا يبدو أن الذي يجعل المغرب ينجح تدريجيا في تخطي مرحلة “الحدة”، ويتحكم جيدا في انتشار العدوى مجاليا، هو: (1) سرعة التأقلم مع وضعية الأزمة، بالرغم من الكلفة الاقتصادية العالية للإجراءات المتخذة ومخاطر ضعف نظام الحماية الاجتماعية، و(2) أيضا تدبيره الجيد لإكراهات محدودية موارد وإمكانيات قطاع الصحة، حيث يبدو أن عدم اعتماده إلى حدود الساعة لتقنية تعميم الفحص الاختباري الإرادي لم يؤثر سلبا على استقرار الوضعية والتحكم في مسارات انتشار العدوى.

إذن، إذا صارت الأمور على هذا النحو ولم يرتفع في الأسبوعين المقبلين بشكل مقلق عدد الحاملين للجانحة واحالات الوفيات، فسنكون أمام تجربة مدرسية تؤكد أن لدى المغرب خبرة تدبيرية للأزمات الصحية تجعل منه في مصاف الدول الصاعدة (مثال الدول الأسيوية: الصين والهند وكوريا الجنوبية) والنامية التي استطاعت أن تطور نموذجا أكثر فعالية من النموذج التقليدي الذي طورته دول “العالم القديم” (أوربا الغربية والولايات المتحدة تحديدا) تدريجيا مع نهاية القرن التاسع عشر وبين الحربين العالميين الأولى والثانية وما بعدها، وهو ما تثبته إلى حدود الساعة إحصاءات عدد الضحايا، إذ يمثل عدد الضحايا بأوربا ثلاثة أرباع من مجموع الضحايا المعلن عنه من طرف المنظمة العالمية للصحة.

س: في رأيكم ما السر وراء المفعول الإيجابي للإجراءات التي اتخذها المغرب؟

أعتقد أن هناك عاملان أساسيان وراء هذا المفعول الإيجابي. العامل الأول، كما سبق لي الإشارة إليه أعلاه، هو أن للمغرب تجربة طويلة في تدبير أزمة الجراد وإنفلونزا الطيور أدى إلى تطوير مقاربة تقوم على الترجيح السلس والسريع للمخاطر من أزمة طبيعية أو غذائية أو وبائية إلى أزمة أمن صحي يرقى في الأولوية إلى أمن الدولة.

والعامل الثاني أن الدولة المغربية بعد الاستقلال قد استفادت كثيرا بتاريخ الأوبئة في مرحلة السيبة بين نهاية القرن الخامس عشر والتاسع عشر، ولعل في المرسوم الملكي رقم 554.65   الصادر في 17 ربيع الأول 1387 ( 26 يونيه 1967) بمثابة قانون بوجوب التصريح ببعض الأمراض واتخاذ تدابير وقائية للقضاء على الأمراض المعدية من قبيل الحجر الصحي، ما يبرر سرعة التأقلم مع الأزمات الصحية، نذكر منها سرعة اتخاذ قرار المراقبة الاستباقية في مداخل الحدود في 2015، وما تلاه من إجراءات وقائية بعد ظهور الحالات الأولى لإنفلونزا الطيور بالمغرب في بداية 2016.

وأظن أن الذي ساعد الحكومة حاليا هو هذا التراكم في أدبيات التدبير أزمة إنفلونزا الطيور، فقد طور المغرب خلال سنتي 2005 و2006 مهارات تدبيرية مهمة، نذكر منها (1) القدرات القيادية والمؤسساتية على المستوى المركزي،سواء على مستوى تنسيق بين القطاعات الأمنية والمدنية والتتبع اللحظي المسترسل وسرعة التفاعل واتخاذ قرارات التدخل باعتماد إجراءات مسطرية مبسطة غير مكترثة بالحسابات السياسية أو بالإجراءات الروتنية في القرارات الحكومية العادية، و(2) الرفع من فعالية نظام الإنذار المبكر على المستوى الترابي وتحكم الأجهزة الأمنية والإدارية  لوزارة الداخلية والدرك الملكي في صبيب المعلومات والإجراءات وقدرتها على سرعة تحصيل الأخبار الميدانية ورفعها لمصالح القيادة المركزية للأزمة.

كل هذا مكن المغرب من  بناء قيادة مركزية لمخاطر الأزمات الصحية باختصاصات  وكفايات مؤسساتية  وخبرات ميدانية ناجعة. وأعتقد أن هذا هو السر الذي مكن المغرب من التغلب إلى حدود الساعة على ضعف إمكانيات المستشفيات ومواردها البشرية الطبية، خاصة فيما يتعلق بأسرة العناية المركزة وأجهزة التنفس الاصطناعي.‏

س: إذن في رأيكم أن المغرب كان مستعدا بما يكفي لمواجهة الجانحة؟

ما أعتقده في هذا الشأن أن هناك أمر عادة ما لا نوليه أهمية في تحليلنا للأزمة الحالية، وهو ما يخفي سر ضبط الوضعية إلى حدود الساعة، ومؤداه أن المغرب قد استند في مواجهة جانحة كورونا على التثمين الآلي للوحة قيادة أزمات صحية سبق وأن مر بها، وهو ما مكنه من استباق التأخر في احتواء تداعيات الانتشار السريع للعدوى. وفي هذا السياق أتمنى على الدولة بعد انتهاء الأزمة، إن شاء الله، أن تبادر بتكريم أشخاص بعينهم كان لهم الفضل في هذا تطوير الأرضية التقنية لهذا “التراث التدبيري الوطني”.

أعلم جلهم قد أحيلوا على التقاعد. ‏لكن مساهماتهم الجليلة تبقى فخرا لكل المغاربة. فبالنهاية هناك رجالات صمتهم لا يعني أنهم ليسوا مبعث فخر. أحيي عاليا من هذا المقام اسم لمدني ساهم في هذا الفخر غادر الإدارة المغربية بقليل من الاعتراف هو الدكتور عبد الرحمن بلمامون، المناضل والخبير الدولي لدى المنظمة العالمية للصحة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *