لنا ذاكرة، ملف

“التيفوس” .. رفيق المجاعات الذي حصد أرواح آلاف المغاربة زمن الاستعمار

كلما منع القطر من السماء أطل برأسه، وكلما اشتد الجفاف وعمت بلوى المجاعة اتخذ من أجساد الجوعى والبؤساء مرتعا للانتشار، إنه “التيفوس الوبائي”، الذي اكتسح المغرب بداية أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، وأثار الرعب والهلع في نفوس المغاربة والفرنسيين (في ظل الحماية الفرنسية) على حد سواء.

كلمة تيفوس أصلها يوناني، وتعني “دخاني” أو “ضبابي”، في تصوير لحالة الهذيان التي يدخلها الشخص بعد إصابته. ومن أبرز أعراضه ارتفاع درجة الحرارة والصداع الحاد، والتشوش والهذيان، والطفح الجلدي الذي يبدأ على الظهر أو الصدر ثم ينتشر، والألم الشديد في العضلات.

مرض خبيث

لقد وصفت جريدة “السعادة”، التي كانت لسانا ناطقا باسم الاحتلال الفرنسي، في عددها الصادر يوم 20 يونيو 1936، التيفوس بـ”أنه من الأمراض الخبيثة المهلكة للبشرية وهو داء عضال إذا حل ببلاد يهلك جل سكانها، فيتبع الجنود في حركاتهم وينتشر في النواحي التي خيمت فيها المجاعة”.

ظهر التيفوس في المغرب قبل فترة الحماية الفرنسية بسنوات، إذ اكتسح طنجة عام 1855، وفتك بالعديد ممن سكان الصويرة والجديدة عام 1868 و1878، حسب ما كشف الباحث في التاريخ بوجمعة رويان نقلا عن أحد الأطباء الفرنسيين يدعى “رونو”.

وساهمت المجاعة التي سبّبها جفاف سنتي 1898 و1899 في شرق البلاد، في ظهور التيفوس وانتشاره، كما عاث الوباء في المغرب بعد جفاف سنتي 1905 و1906 في ظل رداءة المحاصيل، وهكذا فاقم التيفوس عدد القتلى الذين خلفهم الجوع، حسب ما ذكر الباحث رويان ، في بحث له بعنوان “التيفوس بالمغرب خلال الحماية 1912- 1945” نشرته الجميعة المغربية للبحث التاريخي في كتاب بعنوان “المجاعات والأوبئة في تاريخ المغرب”.

بعد توقيع معاهدة الحماية مباشرة، ضرب المغرب جفاف تسبب في أزمة فلاحية كبيرة، مما نتج عنه تدفق موجات بشرية نحو المدن، فشكلت أجساد البؤساء والجوعى المكسوة بالأسمال البالية مكانا خصبا للقمل الذي ساهم في نشر التيفوس.

ففي سنتي 1913 و 1914 عاث الوباء في فاس ومراكش والجديدة وبرشيد وتمارة وسلا، وضرب بقوة في الرباط والدار البيضاء، ومن الأرقام التي أوردها رويان، أنه تم تسجيل 600 حالة بين المغاربة في الدار البيضاء و200 حالة بين الأوروبيين و700 حالة بين المغاربة في الرباط و150 لدى الأوروبيين، خلال الأشهر الأولى من سنة 1914 تسجيل.

وهكذا أصيب حوالي 3000 شخص ما بين أوروبيين ومغاربة، خلال الفترة الفاصلة ما بين نونبر 1913 ومارس 1914، ناهيك عن سقوط الكثير من المرضى صرعى في قارعة الطريق.

وبعد اختفائه لسنوات قليلة أعاد التيفوس كرته بالمغرب عام 1920، وانطلق هذه المرة من مدينة تازة ومنها أخذ في اكتساح البلاد، وظهرت حالات مرض منذ دجنبر 1920 في سجن الكتانيين وباب دكالة، كما انتشر بين العمال في عدد من الأوراش.

وفي مدينة البيضاء، حسب ما أوضح رويان، فإن التيفوس انطلق من سجن “علي مومن” قبل أن تعم بلواه المدينة، ومنه انتقل إلى الأوراش والمقالع بعد أن اختلط العمال السجناء مع عمال أحد المقالع الذي نقلوه لعائلاتهم قبل أن ينتشر في الأحياء.

وكما هي عادته دائما في تفضيل البؤساء والمعدمين، تسلط التيفوس بالدار البيضاء على سكان بعض الاكواخ، حيث ساهم في نقله بسرعة القمل المنتعش تحت الأسمال البالية، وينقل رويان عن أحد الأطباء الفرنسيين أن عدد ضحايا التيفوس انتقل خلال هذه الفترة من 100 سنة 1919 إلى 450 عام 1920 ثم إلى أكثر من 1000 سنة 1921.

بعد هدنة دامت ست سنوات، أعلن التيفوس حربه من جديد على سكان المغرب عام 1927، وجاء هذه المرة كنتيجة لجفاف عظيم أصاب البلاد، خصوصا في الجنوب، وضربت المجاعة بقوة في سوس مخلفة عددا كبيرا من القتلى.

الوباء الذي بدأ في الانتشار بالفعل منذ دجنبر1926، تفاقم في عام 1927 بتحفيز من المجاعة، حيث سرت عدواه مرة أخرى من سجن “علي مومن”، ومنها غزت البوادي القريبة من الدار البيضاء، فلقي بسببه 80 شخصا مصرعهم.

وخلال عام 1927 بلغ عدد المرضى الذين تم إحصاؤهم 1653 معظمهم بمراكش، أما في عام 1928 فقد تم إحصاء 4132 حالة إصابة، 2554 منها في مراكش، و1807 في سوس، ليكون مجموع الإصابات ما بين 1926 و1928 هو 6512.

مسيرات الجياع

لقد ألف التيفوس مرافقة المجاعات ليفاقم معاناة البؤساء، وهو ما حصل مجددا في عام 1837، إذ تضررت معظم مناطق البلاد بفعل الجفاف، وكان الجنوب أكثر تضررا، إذ بسببه توجهت مسيرات من الجوعى في اتجاه الشمال وكبريات المدن، حيث كانت تترك خلفها من أعاقهم الوهن أو قتلهم الجوع.

وساهم الهاربون من جوع البوادي في امتلأء شوارع المدن بالمتسولين والجياع، ونالت مراكش نصيب الأسد منهم، فساءت أحوالهم أكثر في ظل العيش في العراء، ليجد التيفوس منفذا إلى هياكل عظمية مكسوة بالجلد، شكلت مرتعا خصبا للقمل.

يقول بوجمعة رويان، إن المرض خلال سنتي 1937 و1938، تميز بالانتشار السريع والقدرة الفائقة على حصد الأرواح، فحل بمراكش في نونبر 1937 ولبث بها إلى حدود أبريل 1938، ومنها انتشر إلى المناطق المجاورة.

لقد أربك الوباء إيقاع مدينة مراكش وزرع الرعب في النفوس، خصوصا أنه انتشر في كل الأحياء، فتوقفت المدارس والكتاتيب وأصيب كثير من الأوروبيين خصوصا الذين كانت تحتم عليهم مهنهم الاتصال المباشر بالمغاربة كالتجار والاطباء والممرضين وغيرهم.

وفي مدينة الدار البيضاء، تم تسجيل 10000 حالة إصابة حسب ما كشفت بعض المصادر، وفي هذا الصدد يقول رويان إنه استشرى في المدينة في دجنبر من سنة 1937 واستمر إلى حدود 1938، بعد أن بلغ ذروته في مارس. ومن البيضاء انتشر في البوادي المحيطة بها.

حرب ووباء

فاقمت الحرب العالمية الثانية انتشار وباء التيفوس بالمغرب، خصوصا أنه رافق مجاعة 1945. وسجلت معظم الإصابات بين المغاربة وكان نصف المصابين في الشاوية إذ بلغ 491، حسب ما ورد في تقرير الصحة العمومية لسنة 1939.

وأحكم الوباء قبضته على سكان المغرب في عام 1941، فبلغ عدد المصابين 1666، وانتشر هذه المرة من الشرق باتجاه الغرب مكتسحا الكثير من المناطق. وفي السنة الموالية تفاقمت أوضاع المغاربة المعيشية لتعبد الطريق، حيث ضاقت سبل العيش بعدد من الجوعى الذين توافدو على البيضاء فوجد التيفوس احتشادهم مرتعا خصبا، وهكذا بلغ عدد الحالات المسجلة 28802 منهم 556 أوروبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *