سياسة

آيت إيدر: العالم محتاج بعد كورونا إلى إعلاء صوت الحس الإنساني لا العسكري

وجه السياسي والمقاوم المغربي بنسعيد أيت إيدر رسالة مفتوحة، قدم من خلالها رؤيته الخاصة بشأن ما ينبغي أن يكون عليه العالم بعد التخلص من أزمة كورونا، مشددا على أنه “من المفيد أن ننصت لنبض عقلنا الجماعي، ونستحضر حكمة شعبنا الرصينة ذات العمق الإنساني، لنستفيد من الخلاصات الكبرى التي نستشفها من هذا الواقع المستجد دوليا وجهويا ووطنيا”.

وأبرز ضمن رسالته أن الوضع المستجد يدعونا “إلى تبنى تفكير مغاير، واستبدال نسق تفكيرنا ومفاهيمه المؤطرة، بحيث يتوجه تفكيرنا الجماعي إلى ما هو إنساني بامتياز، وإلى تثبيت القوة الجبارة والواعدة للبحث العلمي الإنساني، وإلى خدمة المصلحة المرفوعة على أعمدة الاقتصاد الإنساني -الذي يستحضر مصلحة الإنسان أولا؛ عوض اقتصاد العولمة المتوحشة الذي عاتت به النيوليبرالية بكل وحشيتها”.

واعتبر أن “الدرس الأساس – الذي يبدو لي اليوم بليغا – هو أن تعلي كل الضمائر الحية – في العالم- أصواتها وترفعها بقوة من أجل إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس جديدة ومغايرة بعد زمن كورونا. فما أحوجنا اليوم إلى إعلاء الأصوات من أجل غلبة العلم، وغلبة البحث العلمي، وغلبة الحس الإنساني، وغلبة الحس البيئي، وغلبة التضامن الإنساني، وغلبة هم استتباب الأمن بمختلف أنواعه والاستقرار بمختلف أنماطه؛ والحد من الحس العسكري المتغطرس”.

وفي مايلي النص الكامل لرسالة بنسعيد أيت إيدر كما توصلت بها جريدة “العمق”:

لحظة كورونا فرصة لمراجعة الأولويات

محمد بنسعيد أيت إيدر*

في هذه الظروف الحرجة والقاسية التي تمر منها الغالبية العظمى من دول العالم وضمنها وطننا العزيز؛ أرى من المفيد أن ننصت لنبض عقلنا الجماعي، ونستحضر حكمة شعبنا الرصينة ذات العمق الإنساني، لنستفيد من الخلاصات الكبرى التي نستشفها من هذا الواقع المستجد دوليا وجهويا ووطنيا.

‏ فعلى الصعيد العالمي، نلاحظ أن العالم – الذي اندفع بقوة شرسة منذ سنوات طويلة نحو التنازع على مواقع القوة الاقتصادية، ومناطق النفوذ، والتسابق المحموم على الأسلحة، والصراع من أجل الهيمنة على القرار الدولي- أضحى اليوم – بشكل مفاجئ وغير مسبوق- مهزوما أمام اكتساح فيروس واحد (كوفيد 19).

هذا الفيروس الذي استطاع أن يهيمن على التفكير العالمي؛ وأن يشل الحركة الاقتصادية العالمية في رمشة عين، وأن يحبط كل الأسلحة التي كانت مثار التسابق الشرس، ومرمى الأرصدة المالية الكبرى. بحيث كانت الدول -على اختلاف مستوياتها- تفقر شعوبها من أجل تثبيت القوة، وتخزين الترسانات المدمرة بكل أجيالها بدعوى “يجب أن نتسلح لنتجنب الحرب” !

حتى إن بعض تلك الأسلحة تموت مدد صلاحياتها بفعل التخزين، أو بفعل التجاوز الناجم عن التسابق على التجديد. وتلك – لعمري- تجارة بائرة؛ بل إنها أضحت تجارة خاسرة، وبئس المصير. إذ إن أكبر الدول وأعتاها – وفي مقدمتها السبعة الكبار- انحنت اليوم منهزمة أمام سرعة اجتياح هذا الوباء و منكفئة على ذاتها.

أفلا يدعونا هذا الوضع المستجد إلى تبنى تفكير مغاير، واستبدال نسق تفكيرنا ومفاهيمه المؤطرة؟ بحيث يتوجه تفكيرنا الجماعي إلى ما هو إنساني بامتياز؟ وإلى تثبيت القوة الجبارة والواعدة للبحث العلمي الإنساني؟ وإلى خدمة المصلحة المرفوعة على أعمدة الاقتصاد الإنساني -الذي يستحضر مصلحة الإنسان أولا؛ عوض اقتصاد العولمة المتوحشة الذي عاتت به النيوليبرالية بكل وحشيتها. فانهارت اليوم كل مسلماتها ويقينياتها كقصور الرمال أمام فيروس صغير لم يكن شيئا مذكورا!

فيروس صغير فضح عجرفة الرأسمالية العالمية المتحكمة وأربك حساباتها فلم تدر بأية أسلحة تواجهه! بل إنه فضح السياسات الدولية التي أهملت البحث العلمي الطبي، وأقصت من حسابها الأمن الصحي لمواطني الأرض، وأسقطت الهم البيئي من حساباتها، وتنكرت لالتزاماتها في هذا المجال، معتبرة أن الغلبة للقوة المالية وقوة الأسلحة فحسب !!!؟ حتى إن بعضها يتجرأ على فرض صفقات مشؤومة “كصفقة القرن في فلسطين”.

إن الدرس الأساس – الذي يبدو لي اليوم بليغا – هو أن تعلي كل الضمائر الحية – في العالم- أصواتها وترفعها بقوة من أجل إعادة بناء العلاقات الدولية على أسس جديدة ومغايرة بعد زمن كورونا. فما أحوجنا اليوم إلى إعلاء الأصوات من أجل غلبة العلم، وغلبة البحث العلمي، وغلبة الحس الإنساني، وغلبة الحس البيئي، وغلبة التضامن الإنساني، وغلبة هم استتباب الأمن بمختلف أنواعه والاستقرار بمختلف أنماطه؛ والحد من الحس العسكري المتغطرس – والمتربص بمصير المناطق الآمنة ليضيفها إلى مناطق اكتساحه البشع. وليوظف القوة من جديد لمزيد من قهر الشعوب المستضعفة-.

إن اللحظة التي يمر منها العالم – اليوم- تقدم للإنسانية جمعاء فرصة نادرة من أجل النضال الجماعي لمواجهة الشره الاقتصادي المتوحش، والدفع باتجاه تقليص ميزانيات التسابق على التسلح وتوظيفها في الخدمات الاجتماعية بامتياز. وفي مقدمتها الصحة العمومية الجيدة والتعليم العمومي الجيد. والترافع الجماعي من أجل التخلص من فوائد وضغوط الديون المتراكمة على الدول المستضعفة التي تهدد هذه الديون استقلالها.

أما على مستوى المحيط العربي والافريقي والمغاربي، فإن هذا الوضع المؤسف لا يستثني أية جهة في العالم. وبالتالي لا يخرج عن هذا السياق ما يجري في هذا المحيط الذي أصبح – أكثر فأكثر- مختبرا متعدد المساحات لتجريب الأسلحة، وزرع أسباب الفتن والحروب والدمار الشامل، وتمرير المخططات المشؤومة. واستنبات كل أسباب التفقير والتهميش لضمان المزيد من تجذر التبعية، والمزيد من الارتباطات المختلفة ضدا على مصالح الشعوب ومستقبل أجيالها القادمة.

إن هذا الوضع المأساوي الذي تعيشه وستعيشه – حتما- شعوب هذا المحيط يدعو نخبها النزيهة ومناضلاتها ومناضليها الشرفاء من كل الحساسيات والمشارب إلى التكتل والتكاثف من أجل مناهضة عوامل وآليات ومظاهر العولمة المتوحشة التي تزرعها الأمبريالة العالمية المتجددة. وبالتالي فإن الحاجة ماسة -اليوم -إلى التفكير في آليات الدفاع الشعبي والمتضامن عن مصالح الشعوب، وإعادة إذكاء جذوة التحرر من كبول الاستعباد المختلفة وقيوده. لإعادة بناء علاقات دولية جديدة ومغايرة تخدم مصلحة الشعوب والبيئة والأجيال القادمة. ولن يعدم مناضلو ومناضلات هذا التوجه حلفاء أقوياء من كل بقاع العالم وخاصة في أمريكا اللاتينية وآسيا.

ويهمني هنا أن أخص الفضاء المغاربي بتجديد نداءاتي، التي التقت مع مبادرات ونداءات العديد من الهيئات والمنتديات والتكتلات والشخصيات من أجل اغتنام الفرص التي تتاح قصد بناء الفضاء المغاربي المتكامل والمتعاون والمتضامن لما فيه مصلحة الشعوب ومستقبل أجيالها؛ وطي صفحة الخلافات والنزاعات المفتعلة. ولأن الشعوب الذكية تنهض من مآسيها، وتتكئ –عادة- على جراحها لتزرع الأفق الرحب والواعد لنفسها ومحيطها، فإن شعوبنا المغاربية يلزم أن تستعد جيدا وبشكل جماعي لمواجهة آثار جائحة كورونا. تلك الآثار التي ستكون عاتية ومدمرة لأسباب العيش الكريم ودعامات الاستقلال القطري، إذا لم تتظافر الجهود وتتكتل على كافة الاصعدة الرسمية وغير الرسمية.

وهنا تكمن مسؤولية النخب المغاربية الواعية والمناضلة؛ ومسؤولية الأحزاب التقدمية والديمقراطية ومسؤولية هيئات المجتمع المدني -الملتزمة بمصالح شعوبها – في أن تبدع صيغ التعاون والتنسيق والتحرك الفاعل والفعال من أجل إعادة بناء الفضاء المغاربي المشترك والواعد على قاعدة المواطنة وتثمين التعدد الجهوي واللساني والديني والعرقي؛ ذلك التعدد الذي ينمي الغنى ويخدم المستقبل.

‏أما على صعيد وطني العزيز فإن مواجهة هذا الوباء بالإجراءات الاستباقية المشكورة، والتعبئة الوطنية التي نريدها قوية ومتصاعدة، ودخولنا مرحلة ثانية من الحجر الصحي، تتزامن كلها مع إطلالة شهر رمضان الكريم. وهي فرصة لندعو مواطناتنا ومواطنينا من مختلف الشرائح الميسورة أن تتحمل مسؤولياتها وتضاعف مبادرات التعاطف والتراحم والتوادد والتضامن الاجتماعي مع الفئات الفقيرة والهشة -المظلومة أصلا -والتي زادها هذا الوضع وسيزيدها فقرا وتهميشا وقهرا.

فإذا كانت الدولة تقوم ببعض من واجبها نحو هذه الفئات، وهي مطالبة بمجهود أكبر وأقوى؛ فإن المواطنات والمواطنين مطالبون بشحذ حسهم الاجتماعي،والالتفات إلى جيرانهم وأقربائهم ومحيطهم بمبادرات فعالة ومستدامة ومواكبة لأحوال الناس. إذ في مثل هذه الأزمات تظهر المعادن الأصيلة للشعوب؛ ومن مآسيها ومحنها تنبع الإبداعات الاجتماعية الجميلة التي سيذكرها التاريخ بمداد الفخر والاعتزاز. والشعب المغربي والشعوب المغاربية كلها مؤهلة أن تقدم الدروس البليغة والنماذج المشرقة للآخرين؛ تماما كما سجلنا في العديد من محطات التاريخ.

ومن الأكيد أن قيام المواطنات والمواطنين بواجباتهم الاجتماعية والتضامنية لا يحجب مسؤوليات الدولة، ولا يعفيها من تحمل مسؤولياتها في تدبير الوضع بإجراءات عملية تستثمر فيها بذكاء اجتماعي جو التعبئة الوطنية وتستجيب للنداءات الوطنية المتعددة التي أثمن عاليا دعواتها لانفراج سياسي حقيقي، والتحضير لتعاقد وطني جديد واعد.

وفي سياق الإجراءات المرجوة نتطلع إلى أن تستثمر الحكومة ما ستوفره إعادة النظر في بنية قانون المالية، لتتسنى إعادة توظيف(المداخيل المتوفرة من الترشيد العقلاني، ومن إلغاء الميزانيات المضافة هذه السنة للتسلح اومن الاستغناء عن ميزانيات الكماليات غير الضرورية للسير العادي للإدارة ومداخيل المجهود الوطني التضامني) إعادة توظيف كل ذلك للدعم الاجتماعي الضروري والعادل؛ ولتقوية مجال الصحة العمومية التي لم يجد الوطن بأكمله موئلا وملاذا غيرها اليوم. وتعزيز ميزانية تعميم التعليم العمومي الجيد. وهما المجالان اللذان اظهرت هذه الأزمة المستجدة حاجة الأوطان إلى الاستثمار فيهما بقوة وبنفس مستمر وبعيد المدى.

وبما أن وطننا أطلق ورش التفكير في نموذج تنموي بديل،فإن هذه الجائحة قلبت كل المعادلات. وفرضت على العالم كله إعادة النظر في أولوياته وأحرى نحن. ولهذا، لابد من تحضير نموذج تنموي بديل يستهدف استرجاع الثقة بين الدولة والمجتمع. وتوجيه المشاريع المستقبلية إلى خدمة الانسان أولا. وإطلاق الحريات،والوفاء لما تشبث به شبابنا من الحرية والكرامة والعدالتين الاجتماعية والمجالية.

وإنني موقن بأن وطني العزيز مستطيع لامحالة أن يتجاوز هذا الظرف، ويخرج منه أقوى تماسكا، وأصلب عودا. إذا ما تلاقت الإرادات الوطنية الحقة لاسترجاع الثقة لبناء الوطن المحتضن لكافة أبنائه وبناته.

* سياسي ومقاوم ومؤسس منظمة العمل الديمقراطي الشعبي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *