وجهة نظر

مسؤوليتنا في إبقاء آداب الحوار بمنصات التواصل

التواصل عملية حساسة و معقدة. وفي زمن الأزمات ترتقي تلك الحساسية إلى درجات أعلى، حيث يصير من الواجب التركيز و اليقظة بشكل أكبر، ومن المأمول ضبط التواصل بقواعد و أخلاقيات تساعد على حفظ التوازن المطلوب بين الحق في المعلومة، و الحق في التعبير و حرية الرأي، خاصة في وسائط التواصل الاجتماعي التي أضحت تستحوذ على اهتمام غالبية الناس، و تصنع وعيهم الفردي والجماعي.

وعلى عكس هذا المأمول، يظهر واقع مختلف شبكات التواصل الاجتماعي قدرة هائلة لدى كثير من الناس على الانتقاد العنيف و المجاني، وإقدامهم على الحديث في كل المواضيع بدون تملك أية خبرة حقيقية في تلك المجالات أو وجود سابق ارتباط بها. و يزيد من خطورة الحالة إقدام البعض على الترويج لأخبار مختلقة و زائفة (FakeNews) دون الخشية من أثرها المجتمعي خاصة في وضعنا الراهن، و دون استحضار عواقب ذلك الفعل الإجرامي عليهم هم بموجب مقتضيات القانون. وتبقى الخلاصة الأهم، هي ميل جبهة عرضة من “المتواصلين” إلى الاستثمار في نشر الإثـارة بغرض إحـداث “الـبـوز Buzz”، و تجنب مخاطبة العـقول أو استنفار رصيد القيـم وتعزيز القدرة على التحليل لفهم جيد للظواهر المجتمعية.

وإذا كانت هذه الدينامية قوية في الأيام العادية، فهي في زمن كورونا أشد وطأة وأقبح أثرا، خصوصا و أنها تستفيد مما كان، قبل الأزمة الوبائية، من كثرة إعلاء شأن المتهافتيـن أكثر من السعي لإبراز أصحاب الرأي وأعلام الفكر والمبدعين الجادين. ولا شك أن التحليل المعمق لما ينشر في وسائط التواصل الاجتماعي، يعطينا استنتاجات تستدعي وقفة تأمل وتفكير جماعي لبحث سبل تغيير واقع موسوم بفوضى قيمية خطيرة.

فمن خلال تحليل الخطاب في الفضاء الأزرق، وتفحص طريقة وشكل تعاطي البعض مع ما يـنشر من تدوينـات و من أراء، مكتـوبـة أو سمعـيـة بصريـة، نلاحظ طغيان سلوكات لا علاقة لها بأدب الحـوار وأخلاقـه، و شيوع عنف لفظي مجاني، وحشر عدد من الناس لأنفسهم في كل النقاشات بدون استئذان، وتعمد البعض الانتقاد الأوتوماتيكي الذي يكاد يعبر عن رفض مطلق لحق “الآخر” في أن يكون له رأيه المستقل، وحقه في مجال تواصلي خاص به يعبر فيه عن أرائه دون الخشية من انتقاد عنيف من متواصلين آخرين.

هكذا، يحدث أن يكـتـب شخص، في صفحتـه أو حسابه الخاص، رأيا يتفـاعـل مع فكرة أو موضـوع ما، و رغم الحـرص الواضح على عدم ذكـر أحـد باسمـه، و لا التهجـم على شخص بعـيـنـه، تجد بعض “المـتـفـاعـلـيـن” وقد دخلوا إلى فضاء “التعليقات” على صفحته، دون اسـتـئـذان طبعا، ودون التروي لفهم سياق التدوينة أو الرأي، لينطلقوا في “توصيفات جـاهـزة”، بعبارات “تسفيه وتحقير”، أو “سب خفيف أو ثقيل” (تخسار الهضرة).

و قد تجد، في مكان آخر، شخصا يعـلـق على الكتابات بدون مقدمات و يقول : “آش هاد التخربيق…. باراكا من النفاق… جمعوا راسكم… أ الكذابة…”. هكذا، وبدون تردد، يصير كاتب الرأي و التدوينة “مخربقا” و “منافقا” و “كذابا”، بعد أن حكم عليه بهذه الصفات شخص “نكرة” ربما تجتمع فيه هو “خصال” سوء، لو قسمت بين سكان المدينة لكفتهم عن أي انحراف أخلاقي أو اعوجاج آخر.

ويحدث أيضا أن تجد “متفاعلا” آخـر، يمنح لنفسه “شهـادة الاستحقـاق” ويعتلي المنبـر الافـتـراضي دون أدنى شك في مشروعية سلوكه هذا، لينتقد بشكل حاد وغير مؤسس على أية منهجية جدال فكري رصينة، و يلقي بالناس في خانة المروق أو البدعة، أو حتى الخيانة، دون تحديد القصد : خيانة أية قضية؟ و كيف ذلك؟ و لفائدة من؟ الله أعلم!!!!.

صراحة ما نعيشه في مجال الحوار والتواصل، يبرز هشاشة فكرية حقيقية، و يبين واقعا مؤسفا يتميز بتردي المستوى الثقافي حيث لم يعد الناس يقرأون الكتب و يسبحون في المراجع، و يكتفون بقصاصات أنباء و تدوينات هنا و هنالك، إن هم وجدوا قدرة على فعل ذلك، و فهموا ما فيها من أفكار على فرض أن في تلك المواد ما يصنع ثقافة و وعيا ثقافيا حقيقيا.

كما أن ما نعيشه في وسائط التواصل الاجتماعي يبين ضعفا في نسبة القبول بالاختلاف لدى كثير من الناس، سواء في تعاطـي الأفـراد فيما بينهم، أو فيما بين المؤسسات و الهيئات. و كل هذا يحيل إلى أن البناء الديمقراطي بمعناه الشامل، مجتمعيا ومؤسساتيا، لا زال رغم ما تحقق من جهود ومكتسبات، يحتاج أن نعززه ونقوي مناعته و نحفظه من أي انتكاسات قد تتسبب فيها سلوكات مستهترة.

وفي رأيي، لن نتقدم في هذا الاتجاه إذا لم نبادر إلى تحفيز انبعاث صحوة قيمية حقيقية، تُعلي سمو القانون و واجب الانضباط إليه، و ترد الاعتبار إلى أهمية، بل ضرورة، احترام الحق في الاختلاف، حتى ننتشل ذواتنا من الغرق في مستنقع التخلف المعرفي، ونزوعات العنف اللفظي، وانعدام الثقة بين الناس والتوجس من كل شيء. و بذلك سنتمكن، أيضا، من التصدي لموجات التبخيس والعدمية.

و لن يصبح ذلك في متناولنا إلا إذا تـم بذل مجهـود جمـاعي لتجـديـد العـهـد مع قـواعـد تواصل متحضر، و إعادة بناء منظومة قيم تضبطه. وأرى أن علينا أن نتفق على الأقل على خمسة قواعد أساسية مؤطرة، بإمكانها أن تشكل ركـائـز “ميثـاق أخـلاقـيـات”، نلـزم به أنفسنا و نشيعه من حولنا، يضبط تفاعلنا مع بعضنا البعض في الفضاء الأزرق، و في مواقع التواصل الاجتماعي.

أول القواعد، هي أن “لكل فرد الحق في أن يحدث صفحة، أو مدونة، تكون فضاء ينشر من خلاله أراءه و كتاباته، وبعض تحليلاته بشأن قضايا الشأن العام الوطني أوالمحلي، من زوايا موضوعاتية مختلفة تستهوي تفكيره”، طالما لا يتجاوز القانون في ما يقوله و يكتبه و ينشره.

ثاني القواعد، هي حق الناس و حريتهم في أن يـروا نصف الكأس المملـوءة في واقعنا، وحقهم في إبراز ما هو جيد ومحترم يستوجب تشجيع كل من يتحرك في الخير ومن أجل الخير، بنفس وطني صادق، و الاعتزاز والافتخار بكل نقطة ضوء مشتعلة في مكان ما من أرض بلادنا، مهما صغـر أو كبـر شأن صاحبها.

ثالث القواعد، هي احترام حق الناس في أن يروا نصف الكأس الفارغ في واقعنا المجتمعي، و أن يعبروا عن رفضهم للفقر و العوز و التهميش الاجتماعي و الاقتصادي لفئات كبيرة مـن أثـر سياسات عمومية مختلفة، والتنبيه إلى أي ممارسات متخلفة تحتاج إلى تقويم يقطع الطريق على أتباع “طائفة التيئيس والعدمية” المتربصين بكل “نقطة سوداء” لينفخوا بسببها في رماد الواقع، لعل النار تشتعل .

رابع القواعد، هي احترام حق الناس في المساهمة في النقاش العمومي بتحليل يقتفي الموضوعية، بدون مغالاة ولا تحامل غير مبرر، مفعلين بذلك حقوقهم الدستورية، ومستثمرين هامش الحرية التي ينعمون بها في وطنهم المغرب.

خامس القواعـد، هي الالتـزم بعـدم الطعـن في الأشخـاص أو التشهـيـر بأسمائهـم، أو التعليق والتفاعل مع كتابات الآخرين من خلال ذكـر الأسمـاء أو شتـم أصحـابهـا والطعـن فيهـم، سواء كانوا مسؤولين عموميين، أو حزبيين سياسيين، أو مفكرين و مثقفين، أو فاعلين مجتمعيين متنوعي المشارب، أو مواطنين عاديين.

يقيني أنه لو تم اعتماد هذه القواعـد سيكـون من السهل تعـزيـز الحـوار بيـن الأفـراد على قـاعـدة البناء لا الهـدم، والتسامح والتقارب عوض الرفض و الإقصاء. و أظـن ذلك مسألة إرادة في المقام الأول، حيث يكفي أن نفكر قليلا في أسئلة منطقية بهذا الشأن ليتضح لنا إلى أين يجب أن يسير منطق الأشياء.
مثلا، ما الذي يمنع كل من صادف صفحة تواصلية لم يقتنع بما يكتبه صاحبها، أوبما يحمله من قناعات وأفكار و ما يدافع عنه من طروحات، أن يكمل طريق التصفح دون التوقف في ما لا يعجبه، و يمنع بذلك “بذرة القمع التلقائي” التي تجيز له الاعتقاد بحقه في منع “الآخر” من فعل ما يشاء في فضاءه الخاص؟ و لماذا لا يبادر من وجد نفسه في هذه الحالة إلى إحداث صفحة جديدة، تكون خاصة به، ليكتب فيها ما شاء وكما شاء، فيما يحبه و فيما يحمله من أفكار؟ و ما الذي يمنع من كان لا يتفق مع “شخص ما”، أن يضبط سلوكه تجاهه بأدب الخلاف والاختلاف، فإن كان الخلاف فكريا خالصا، أخذ ورقة، فكتب وحلل و بسط وجهة نظره فيما يختلف فيه مع من يختلف معه؟

بكل يقين، إصدار الأحكام الجارحة ونعت الناس بأوصاف لا يقبلها أي أحد على نفسه، وإطلاق العنان لاتهامات جاهزة للأشخاص والمؤسسات، والجهر بالإزدراء للذين نختلف معهم، كلها أمور يجب رفضها بشدة وعدم السماح بأن تجد لها مكانا في لائحة التدوينات و التعليقات والردود بوسائط التواصل الاجتماعي، كما لا نقبل بها في الحياة العادية.

و كما هو من الضروري أن يسود الاختلاف في الرأي بشكل هادف و إيجابي، إلا أن ذلك يجب أن تضبطه قواعد أخلاقية، سواء تلك المستمدة من ثقافتنا الأصيلة، أو من ثقافات وحضارات إنسانية أخرى، ومنها أن يكون التنابز بالألقاب ممنوع، والتشهير بالناس ممنوع، وذكر أمور خاصة من حياة الناس وسردها بما يكرهون ممنوع، أخلاقيا قبل أن يكون ممنوعا قانونيا. و علينا التحلي بأدب الحوار والتواصل، وقبول تمايز الأراء، والتعاطي مع بعضنا البعض بالصبر والأنـاة، ومواجهة تحديات الواقع بصمـود و مثابـرة، والتزام الثقة في أنفسنا وفي الآخرين، حتى نتقدم بهدوء. أما الصراخ والصخب والسباب، والتعليقات التي تشيع التسفيه وتعزز التشكيك ويستهويها التخوين والطعن في الذمم والتشهير بالأشخاص والنيل من الناس بدون وجه حق، فلن ينفعنا في شيء لا في تواصلنا، لا في حاضرنا و لا في مستقبلنا.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *