الأسرة، مجتمع

“العادات الغذائية” 9: البعد التاريخي للعادات الغذائية المتوسطية

سلسلة “أنتروبولوجيا العادات الغذائية”، نتناول فيها مواضيع تتعلق بالعادات الغذائية المغربية في ارتباطها بمجموعة من الأبعاد البيولوجية والسيكولوجية، والثقافية، والذوق، والدين، والتراث، والهوية… وكذلك في علاقتها بالجانب الاقتصادي والاجتماعي للأفراد في اختياراتهم الغذائية. وسيتم التطرق لها بالتفصيل انطلاقا من كتاب “تحول العادات الغذائية بالمغرب القروي -دراسة أنثروبولوجية-“، منشورات دار الأمان 2015، لأستاذة علم الاجتماع والانثروبولوجيا بجامعة القاضي عياض نعيمة المدني، عبر حلقات يومية طيلة أيام رمضان، في جريدة “العمق”.

الحلقة 9

 البعد الإيكولوجي للغذاء: وحدة الجغرافية وتعدد الثقافات 

إن ما يجعل مجموعة بشرية تشكل وحدة ثقافية هو ما يجعلها كذلك تمتثل لذات العادات الغذائية التي تدل، من بين ما تدل عليه، على مشاعر اللحمة والانتماء بين أفرادها. 

غير أنه رغم التنوع الذي يطال العادات الغذائية داخل المجتمع ذاته بل وداخل الأسرة ذاتها، أمكننا الحديث عن خطوط كبرى تطبع العادات الغذائية التي تخص وحدات جغرافية محددة. 

وهنا يمكن أن نتحدث مثلا عن العادات الغذائية بالعالم القروي المغربي كعادات مغربية و متوسطية، ويبدو أن وقوع منطقة البحث بشمال المغرب سيجعل من المجدي رصد العادات الغذائية في الضفة الأخرى للبحر الأبيض المتوسط من أجل المقارنة، خصوصا أن هذه العادات على صيتها وصيغ خطاب متعالم حولها يصفها بالعادات الغذائية الأكثر صحية في العالم .

لقد أبدى فلوندغان ومونطاني ملاحظة هامة مفادها أن الدراسات المتناولة  للتغذية بحوض البحر الأبيض المتوسط قامت برصدها كوحدة متكاملة ومتجانسة بحكم تجانس ووحدة الظروف الجغرافية. غير أن لبروديل رأي آخر مفاده أن هذه المنطقة تمثل كتلة قديمة يبدو كل شيء فيها متوسطيا، غير أن الحقيقة أنه وحده الزيتون، القمح يتجذر في تارخ المنطقة في حين يتجاوز تاريخ جل العادات حدود  المكان .

لقد تشكلت العادات الغذائية المتوسطية عن طريق الاحتكاك بحضارات مختلفة وبعيدة بحكم الهجرات، التبادل التجاري فضلا عن فترات الاستعمار التي خلفت أثرها بدورها، وبيد أن دراسة العادات الغذائية المتوسطية تقتضي الخوض في دينامية انتشار هذه العادات لمعرفة أصولها ومكان ظهورها.

 قام  باديا (Padilla) بالتمييز بين فترات كبرى طبعت تاريخ العادات الغذائية المتوسطية : مرحلة سحيقة تعود إلى ما قبل التاريخ ، متمثلة في عهد الفنيقين والقرطاجيين، هذه الحضارات  التي عرفت باستهلاك الزيتون، الكروم، التين، اللوز المستوردة من آسيا، فضلا عن الفلفل الأسود،  كما عرفت هذه الحقب ظهور الحبوب بالمنطقة خاصة القمح، ناهيك عن الحوامض، الماعز والبقر .

تميزت الحضارة الرومانية بانتشار زراعة شجر الزيتون وبعض الخضر الخضراء فضلا عن بعض القطاني كالحمص، الفاصوليا البيضاء والخضراء والعدس، أما القرطاجيون فيرجع لهم الفضل في انتشار استهلاك الحوامض بالمنطقة . 

سيعرف القرن الثاني عشر والثالث عشر ظهور الأرز والسكر ثم العجائن وبعض الخضر من فصيلة القرعيات .

 كما سيساهم  الوجود العربي بالمنطقة في دخول مجموعة من العادات الغذائية، حيت سيتم خلق نوع جديد من الفلفل هو الفلفل الأخضر انطلاقا من الفلفل الأمريكي، كما ستدخل طرق طهي جديدة كالطبخ باستعمال السيخ والقلي فضلا عن العجائن المورقة، كما لا يخفى أثر العرب كذلك  فيما يخص استعمال البهارات والمنسمات .

كل هذه الحضارات ساهمت في تشكيل المطبخ المتوسطي الذي سيغتني كذلك باكتشاف أمريكا في القرن الخامس عشر فضلا عن ظهور بعض الأغذية كالذرة في تركيا والبطاطس والطماطم  في البرتغال.

منذ السنوات العشر الأخيرة سجل اهتمام خاص بالتغذية المتوسطية التي غدت تعرف بالتغذية المتوازنة والصحية، إذ صارت موضوع أبحاث علمية برمتها من أجل تدارس علاقتها بالصحة، كما صارت هاجسا سياسيا للكثير من الدول الرامية إلى التخفيف من حدة الأمراض المنتشرة، بل إن الولايات المتحدة ذاتها اقترحت على مواطنيها هرما غذائيا أسمته بالهرم المتوسطي .

يبدو أن العامل الإيكولوجي يفقد قوته أمام المحددات الثقافية، فحتى الوصفات الغذائية التي أصبح المختصون يعتبرونها من قبيل التراث فهي كذلك ليس لأنها ترتبط بمنتوج محلي معين بل لأنها ذات حمولة ثقافية تتجلى بالأساس في تعبيرها عن الانتماء، كما تبدو محدودية العامل الإيكولوجي في اختلاف العادات الغذائية  بين جماعات تنتمي إلى ذات الوسط الجغرافي.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *