وجهة نظر

من دروس كورونا.. الدرس البيئي

العالم بعد كورونا، لن يكون بكل تأكيد، كما كان قبلها، فمعالم كل شيء شرعت من الآن في التغير، وبدأت معالم حياة جديدة في التشكل. وقد يبني راكبوا سفينة نوح الجديدة بعد وصولهم إلى بر الأمان، عالمهم الجديد. تابعنا تغيرات تحدث في السياسة والاقتصاد والاجتماع بشكل لم يكن ليخطر على البال. من كان يتصور أن تبدو الولايات المتحدة الأمريكية ضعيفة أمام الجائحة رغم ما ابداه رئيسها رونالد ترامب من تعنت في البداية؟ من كان يتخيل أن تغلق دول الاتحاد الأوروبي حدودها في وجه بعضها البعض رغما عن اتفاقيات الوحدة وسيرورتها وان تمتنع دول هذا الاتحاد عن تقديم مساعدات لإيطاليا، وتأتي من قلب آىسيا؟ من كان ينتظر أن تُدعى المجتمعات إلى التباعد وتجنب المصافحة والبقاء في البيت؟.

بغض النظر عن التأثيرات السلبية لفيروس كورونا في السياسة والاقتصاد والمجتمع، لكن مع فرض الحجر الصحي في أغلب بقاع العالم، ورغبة من الناس في التعايش مع هذا الوضع بدل الاستسلام لمخاوفهم، عملوا على تثوير عاداتهم التي تحولت بشكل كلي. لم تكن عادة القراءة، مثلا، من العادات المنتشرة لدى العائلات والأفراد، فأصبحت تحتل مكانا لها في فضاء البيت طردا للفراغ والملل وربما شغلا للبال عن الوقوع في أسرالخوف الرهيب من عدو خفي. نفس الشيء نقوله عن ممارسة الرياضة داخل البيوت، أو الاستماع للموسيقى، واستعادة دفء العائلة، أو العيش في أجواء روحانية بقراءة القرآن الكريم. وهناك مجالات استفادت من الوضع الجديد، منها البيئة.

في المغرب، وفي غيره من البلدان، هناك جمعيات كثيرة تنشط في مجال البيئة، وأحزاب تعرف بالخضر منتشرة هنا وهناك. مهمتها التحسيس بخطورة البشر على البيئة، لا تكتفي بالتحسيس وإنما تتعداه أحيانا إلى مواجهات مع مؤسسات صناعية يرى الخضر في عملها تهديدا للبيئة، وطالما شكلت حركاتهم هذه مادة دسمة لوسائل الأخبار.

يحصر أغلب الناس قضايا البيئة في الملوثات التي قد تستهدف الماء والهواء والتراب، وفي أحسن الأحوال قد يدرج ضمنها استهداف الغابات إما بالرعي الجائر، أو بالحرائق التي يكثر الحديث عنها في مواسم الصيف. إلى غاية الآن يمكن للفئات المستهدفة بحملات التوعية بقضايا البيئة أن تفهم ما يُقال لها، وتستوعبه، وقد تنخرط في برامج تضعها تلك الجمعيات. أما إذا توجهت نحو رجال الصناعة، والمحت إلى مسؤوليتهم في تلويث الماء والهواء، فإن كلامك لن يجد لديهم أدنى اهتمام.

نفس الموقف يحضر لدى المشتغلين بالفلاحة مثلا حينما تتحدث عن تلويث الماء بواسطة الاستعمال المكثف للمبيدات، أو عن دوره المحتمل في تسطيح التربة أو ملوحتها… وفي ظل هذا الرفض، يبقى الكلام مقبولا مع بعض الاعتراضات. لكن ما أن ننتقل إلى الحديث عن التنوع البيولوجي والتغير المناخي، فلن يكون فشلك محصورا في الإقناع، بل يتعداه إلى استحالة الاستماع إليك، لأنك تطرح مواضيع لا يراها البعض إلا ترفا فكريا. إذ كيف لمواطن عادي أن يفهم أن تصرفا بسيطا يبدرمنه قد يكون له أبلغ الأثر على التغير المناخي، قد يؤدي إلى انخفاض معدل التساقطات المطرية، أو ربما الوصول إلى بعض المظاهر المناخية المتطرفة كالفيضانات.

في بلدان أخرى، خاصة أوروبا، استطاع المواطن أن يفهم أنه بتصرفات بسيطة قد نخلق الفارق. ظهرت سلوكيات في السفر الجماعي المنظم، والعمل قدر الإمكان على تقليل الطلب على الورق بعدم الالتجاء إلى طبع الوثائق إلا عند الضرورة القصوى, جمعيات البيئة كثفت الدعوات إلى عدم استعمال السيارات الخاصة خلال أيام يتم الاتفاق عليها سلفا، وغيرها من الإجراءات الهادفة إلى تقليل تأثير البشر على سلامة البيئة ونظافتها. فقبل انتشار فيروس كورونا بقليل، وعلى وجه التحديد عند مطلع السنة الجارية، حذر العلماء من ارتفاع درجة حرارة الأرض بأكثر من 1،5 بنهاية القرن الحالي بتزايد ارتفاع أدخنة المصانع، وازدحام السيارات بشكل أصبح مقلقا، واحتلال آلاف الطائرات للمجال الجوي، والنتيجة أن أصبح الغلاف الجوي للأرض مختنقا منذرا بكارثة عظمى.

وحل الوباء وانتشر في كل بقاع العالم، ورأت البشرية أنه بات من الضروري إعادة النظر في الكثير من تصرفاتها التي كانت مدفوعة بنزعة جنونية للاستهلاك بكل أشكاله. قرر المجتمع الإنساني اللجوء إلى الحجر الصحي، وتجنب التنقل بين المدن والبلدان، وحتى داخل المدينة الواحدة إلا للضرورة، وأصبحت هذه التحركات خاضعة لمراقبة السلطات التي دعت إلى تبرير أي تواجد للإنسان في الفضاء العام الذي آمنا أنه عمومي، وهكذا اختفت الطائرات من المجال الجوي، وهجرت السيارات شوارع معظم المدن، وتوقفت الآلات بالمصانع، وتراجع النشاط الاقتصادي على مستويات قياسية له، ورغم ما خلفه هذا الحظر من أضرار على الاقتصاد العالمي، فقد تراجعت كذلك مستويات التلوث في العالم إلى مستويات قياسية. فانتشرت أخبار عن التئام ثقب الأوزون فوق القطب الجنوبي، وإن كانت تقارير قد قللت من أثر كبير لهذا الوضع. وتحسنت جودة الهواء في 337 مدينة حول العالم بأكثر من 12% نتيجة لبقاء الإنسان بمنزله، إذ يُعتقد ان سائل النقل مسؤولة عن 23 % من انبعاث اني أوكسيد الكاربون. فتنفست الأرض أخيرا هواء نقيا.

في فيديو تم تداوله على مواقع التواصل الاجتماعي عن الآثار الإيجابية للحظر الصحي في العالم، ظهر فيه الغزال يتجول بشوارع لندن، والطيور المهاجرة تعود لتحتل شاطئ أغوا دولسي في البيرو، وشاهد سكان باريس البط يتحرك بشوارع مدينتهم، وفي البندقية، شاهد السكان الأسماك الصغيرة تحت المياه النقية وظهر البجع، وفي نيودلهي تجولت القردة في الشوارع الخالية من البشر. قد يقول قائل إن هذه الفيديوهات مفبركة، وإن كان الأمر كذلك فدافعه هو الأمل في أن يكون الحجر الصحي وهجوم فيروس كورونا درسا للبشر لكي يتبنى سلوكيات تحافظ على البيئة، والاستفادة من هذا الدرس بالتعود على جعل مدننا نظيفة، وخفض اللجوء إلى وسائل النقل، والبحث عن بدائل طاقية نظيفة. لقد أصبح من الواجب العمل بشعار “فكر عالميا واعمل محليا”.

ووطنيا، ما فتئت الجمعيات العاملة في مجال البيئة تصدر التوصية تلو الأخرى، في وقت خطت فيه بلدنا خطوات مهمة في هذا المجال، ولكن لا يزال امامنا طريق طويل، ورحلة ألف ميل تبدأ بخطوة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *