رمضانيات

الإشارات السياسية في قصة موسى .. التعاقد مابين الواقعي والأخلاقي (ح 9)

الحلقة 9

المنطلق، قوله تعالى:” قال إني أريد أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج، فإن أتممت عشرا فمن عندك، وما أريد أن أشق عليك، ستجدني إن شاء الله من الصالحين. قال ذلك بيني وبينك، أيما الأجلين قضيت فلا عدوان علي، والله على ما نقول وكيل”.

وقد أمكن أن نغادر هذا المشهد، وهذه الحوارات لمَا يظهر أنها لا تحمل إشارات سياسية يعتد بها؛ ولكني أرى أن التعاقد الغالب على المشهد لابد وأنه قريب مما نحن بصدد الحديث فيه؛ ذلك أن التعاقد السياسي لا يختلف بل يحتفظ بغالب الأعمدة التي تقوم في التعاقدات المدنية. وفائدة هذا الاستمرار هو أنه يزكي بعضا مما ذهبنا إليه قبل من اعتبار الغيب ووكالة الغيب على الأعمال والعقود حاضرة بقوة في النظرية السياسية الدينية، وهو ما عبر عنه الشيخ بقوله: “ستجدني إن شاء الله من الصالحين”، وقول موسى:” والله على ما نقول وكيل”.

وقد نسمي هذا بالمصاحبة الأخلاقية أو الشهادة الغيبية التي تلقي بظلالها وتكون ضامنة إلى جانب الضمانات المادية. وهذا على خلاف التعاقد الوضعي الذي لا يعول على المصاحبة الغيبية والأخلاقية بقدر ما يعزز من الشروط والضوابط المادية العاصمة من الحيف، والشطط، والغلط.

لقد حمل هذا المشهد، وهذا الحوار القصير الكثيرَ من الدلالات الحبية حين تقوم العلاقات والعقود بعيدا عن التوتر، ويكون أساسها الود والتفاهم والإيمان؛ وهذا لم ينف عنه صفة الواقعية والعموم. فحديث ابنة شعيب بصيغة الجماعة رغم أنها فذ؛ دل على جواز التعبير والتحدث والنقل باسم جماعة تشترك في الضرر نفسه؛ مادام أنها ليست هي المتضررة الوحيدة من ذلك الحيف والدونية وغلبة الأقوى. ولكن هذا التعبير لم يمتد إلى جميع ما عبرت عنه، فهي ليست ناطقة على الدوام باسم الجماعة؛ وحين أرادت التعبير عن رأيها في استئجار موسى تحدثت بصيغة المفرد؛ على اعتبار أن الرأي حر وغير ملزم للجماعة. فقالت: “يا أبت استأجره”، وهو خلاف ما عبر به إخوة يوسف بالقول:” يا أبانا استغفر لنا ذنوبنا” لما كانوا كلهم معنيين بهذا الطلب، وبما اقتضاه حال الجماعة؛ لما جاز للفرد استقراء حالهم بالانطباع. هذا دون أن نغفل أن الرأي لابد أن يكون مصاحبا بتبرير حتى لا يفقد قوته، ويتساوى فيه العالم والجاهل. فرأي البنت تبعه قولها : “إن خير من استأجرت القوي الأمين” وإخوة يوسف أتبعوا قولهم ” إنا كنا خاطئين” والاعتراف بالخطإ أبلغ تبرير.

وما ورد في قصة موسى من الإشارات بخصوص التعاقد، ليس قابلا للتعميم بالجملة؛ ولكن بما اقتضاه حال الود بين موسى والشيخ؛ وإلا فالتعاقد بين الفردين أو بين الجماعتين أو في ما بين الفرد والجماعة كما يحدث في التعاقد السياسي؛ إنما هو محكوم بما تقتضيه الظروف وليس فقط التعويل على الود والغيب؛ فالشيخ عبر عن إرادته من غير ثبات، حتى يترك لموسى إرادته؛ عبر عن ذلك باستعمال المصدر المؤول الدال على التغير والحركة”أن أنكحك” “أن تأجرني” “أن أشق” وتجنب المصدر الصرف لاقترابه من الثبات. وموسى عبر عن شروطه بكل حرية، وكان الجانب الأخلاقي حاضرا بينهما في دفع العدوان ورفع المشقة التي قد تصاحب العقود حين انتفاء هذا الشرط الأخلاقي. وتعبير موسى عن التعاقد الحاصل بالإشارة إليه بالبعيد ” ذلك” فيه تقدير للعقد والرفع من قيمته؛ إذ أن العرب والصيغ القرآنية تشير للقريب بالبعد لإثارة الانتباه إليه.” ذلك الكتاب لا ريب فيه”.

وتعبير الرجل بقوله:” ستجدني إن شاء الله من الصالحين” فيه دفع اليقين بالصلاح مع حضور الرغبة. وتوكيل ذلك للمشيئة هو دفع للتشويش على التعاقد وتقريبه من الواقعية؛ وهذا ما يجب أن تكون عليه التعاقدات داخل حقل السياسة والتسيير؛ من التحلي بالواقعية وعدم الإكثار من الكلام، وعدم التشويش على المواطن بتوهم الصلاح؛ وتجنب القول والخلف؛ بل هو حفظ لماء الوجه؛ وهذا ما عبر عنه موسى في قصة الخضر حيث لم يجزم بصبره، ولم يعتد بقواه ولكنه رفع ذلك للمشيئة وأحضر العزيمة؛ حتى إذا رسب في الاختبار ما لامه أحد على عدم صبره.

“فإن أتممت عشرا فمن عندك” وفيه إشارة إلى على أن حد العقد ما تم الاتفاق عليه من تبادل المنفعة المادية أو المعنوية، وهذا ما يلزم المتعاقدين من الناحية القانونية، لكن باب الزيادة فوق الجهد يبقى مفتوحا على الإحسان؛ باعتباره بابا أخلاقيا يقوم به المتعاقدان بدافع الواجب أو الإيمان. وموسى عليه السلام أتم الثمانية إلى العشرة، وكان من المحسنين كما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *